شهداء الفكر في التاريخ الإسلامي (3): الحلاج


إلياس شتواني
2024 / 3 / 25 - 02:51     

في كتاب "البداية والنهاية" لإبن كثير الدمشقي - ج 11- الصفحة 153-154 نقرأ ما يلي من صفة مقتل الحسين بن منصور الحلاج، أحد أبرز أعلام التصوف في التاريخ الإسلامي:

"قلت: لم يزل الناس منذ قتل الحلاج مختلفين في أمره. فأما الفقهاء فحكي عن غير واحد من العلماء والأئمة إجماعهم على قتله، وأنه قتل كافرا، وكان كافرا ممخرقا مموها مشعبذا، وبهذا قال أكثر الصوفية فيه.
ومنهم طائفة كما تقدم أجملوا القول فيه، وغرهم ظاهره ولم يطلعوا على باطنه ولا باطن قوله، فإنه كان في ابتداء أمره فيه تعبد وتأله وسلوك، ولكن لم يكن له علم ولا بنى أمره وحاله على تقوى من الله ورضوان. فلهذا كان ما يفسده أكثر مما يصلحه. وقال سفيان بن عيينة: من فسد من علمائنا كان فيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا كان فيه شبه من النصارى، ولهذا دخل على الحلاج الحلول والاتحاد، فصار من أهل الانحلال والانحراف. وقد روي من وجه أنه تقلبت به الأحوال وتردد إلى البلدان، وهو في ذلك كله يظهر للناس أنه من الدعاة إلى الله عز وجل. وصح أنه دخل إلى الهند وتعلم بها السحر وقال: أدعو به إلى الله، وكان أهل الهند يكاتبونه بالمغيث - أي أنه من رجال المغيث - ويكاتبه أهل سركسان بالمقيت. ويكاتبه أهل خراسان بالمميز، وأهل فارس بأبي عبد الله الزاهد. وأهل خوزستان بأبي عبد الله الزاهد حلاج الاسرار. وكان بعض البغاددة حين كان عندهم يقولون له: المصطلم وأهل البصرة يقولون له: المحير، ويقال إنما سماه الحلاج أهل الأهواز لأنه كان يكاشفهم عن ما في ضمائرهم، وقيل لأنه مرة قال لحلاج:
أذهب لي في حاجة كذا وكذا، فقال: إني مشغول بالحلج، فقال: اذهب فأنا أحلج عنك، فذهب ورجع سريعا فإذا جميع ما في ذلك المخزن قد حلجه، يقال إنه أشار بالمرود فامتاز الحب عن القطن، وفي صحة هذا ونسبته إليه نظر، وإن كان قد جرى مثل هذا، فالشياطين تعين أصحابها ويستخدمونهم. وقيل لان أباه كان حلاجا. ومما يدل على أنه كان ذا حلول في بدء أمره أشياء كثيرة، منها شعره في ذلك فمن ذلك قوله:
جبلت روحك في روحي كما * يجبل العنبر بالمسك الفنق فإذا مسك شئ مسني * وإذا أنت أنا لا نفترق وقوله:
مزجت روحك في روحي كما * تمزج الخمرة بالماء الزلال فإذا مسك شئ مسني * فإذا أنت أنا في كل حال وقوله أيضا:
قد تحققتك في سري * فخاطبك لساني فاجتمعنا لمعان * وافترقنا لمعان إن يكن غيبك التعظيم * عن لحظ العيان فلقد صيرك الوجد * من الأحشاء دان."

وفي نفس المرجع نقرأ في ص 158 أحوال وظروف إعتقاله وقتله:

"قال الخطيب: أنبأ إبراهيم بن مخلد أنبأ إسماعيل بن علي الخطيب في تاريخه قال: وظهر أمر رجل يقال له الحلاج الحسين بن منصور، وكان في حبس السلطان بسعاية وقعت به، وذلك في وزارة علي بن عيسى الأولى، وذكر عنه ضروب من الزندقة ووضع الحيل على تضليل الناس، من جهات تشبه الشعوذة والسحر، وادعاء النبوة، فكشفه علي بن عيسى عند قبضه عليه وأنهى خبره إلى السلطان - يعني الخليفة المقتدر بالله - فلم يقر بما رمي به من ذلك فعاقبه وصلبه حيا وأياما متوالية في رحبة الجسر، في كل يوم غدوة، وينادى عليه بما ذكر عنه، ثم ينزل به ثم يحبس، فأقام في الحبس سنين كثيرة ينقل من حبس إلى حبس، خوفا من إضلاله أهل كل حبس إذا طالت مدته عندهم، إلى أن حبس آخر حسبة في دار السلطان، فاستغوى جماعة من غلمان السلطان وموه عليهم واستمالهم بضروب من الحيل، حتى صاروا يحمونه ويدفعون عنه ويرفهونه بالمآكل المطيبة، ثم راسل جماعة من الكتاب وغيرهم ببغداد وغيرها، فاستجابوا له وترقى به الأمر إلى أن دعى الربوبية، وسعى بجماعة من أصحابه إلى السلطان فقبض عليهم ووجد عند بعضهم كتب تدل على تصديق ما ذكر عنه، وأقر بعضهم بذلك بلسانه، وانتشر خبره وتكلم الناس في قتله، فأمل الخليفة بتسليمه إلى حامد بن العباس، وأمره أن يكشفه بحضرة القضاة والعلماء ويجمع بينه وبين أصحابه، فجرى في ذلك خطوب طوال، ثم استيقن السلطان أمره ووقف على ما ذكر عنه، وثبت ذلك على يد القضاة وأفتى به العلماء فأمر بقتله وإحراقه بالنار، فأحضر مجلس الشرطة بالجانب الغربي في يوم الثلاثاء لتسع بقين من ذي القعدة سنة تسع وثلاثمائة، فضرب بالسياط نحوا من ألف سوط، ثم قطعت يداه ورجلاه، ثم ضربت عنقه، وأحرقت جثته بالنار، ونصب رأسه للناس على سور الجسر الجديد وعلقت يداه ورجلاه."

كان الحلاج من أبرز أعلام زمانه وله من المناقب الصوفية والكتب الكثير. أتهم الحلاج على غرار أضرابه من المفكرين بالكفر والزندقة. كانت نهاية الحلاج تراجيدية مؤسفة، حيث قُتل بشكل مروع على يد حامد بن العباس في زمن الخليفة العباسي المقتدر بالله. ضُرب الحلاج بالسياط ثم قطعت يداه ورجلاه، ثم ضربت عنقه، وحرّقت جثته، ونصب رأسه على سور الجسر الجديد جنبا إلى جنب مع يداه ورجلاه..