من أجل ثقافة جماهيرية بديلة-أصول الفلسفة الماركسية-بوليتزر61


عبدالرحيم قروي
2024 / 3 / 23 - 16:13     

أصول الفلسفةالماركسية
الجزءالثاني
تأليف جورج بوليتزر، جي بيس وموريس كافين
تعريب شعبان بركات
الحلقة الواحدة والستون
المادية التاريخية
تابع

3 – محتوى الدولة وصورتها
من بين الوسائل الرئيسية، التي يستخدمها مفكرو الطبقات المسيطرة والمستغلة لتشويش مسألة الدولة، الخلط بين صورة الدولة ومحتواها. فهم، حين يعرفون مختلف نماذج الدولة، يعتمدون دائما على عدد الناس الذين يمارسون امتيازات السلطة: فيميزون بين الدولة الملكية، والدولة الأرستقراطية، والدولة الديمقراطية. فهم يحصرون النقاش بمسائل الصورة، وبطبيعة المنظمات التي تمارس السلطة، كوجود مجلس نواب، مثلا، و "فصل السلطات" و "استقلال القضاء" الخ... فيظهرون بذلك أنه يحرم التعرض لمحتوى الدولة.
أما بالنسبة للماركسية فأن المسألة التي تعلو على كل المسائل الأخرى هي المسألة الثانية: لمصلحة من وضد من تمارس هذه السلطة؟ تمييز الماركسية بين محتوى الدولة الاجتماعية وبين صورتها.
ا – محتوى الدولة الاجتماعي
تكتسب الدولة طابعها بفضل محتواها الاجتماعي الحقيقي، أي محتواها الطبقي. فالدولة أما أن تكون دولة رقيق أو دولة اقطاعية أو برجوازية أو رأسمالية، أو بروليتارية أو اشتراكية – وكل دولة هي دكتاتورية طبقية: ينتج ذلك أصلها ومهمتها. ويمثل المحتوى جوهر الدولة، وهو يسبق صورتها ويحددها. وتختار كل طبقة مسيطرة الصورة التي تناسب دكتاتويتها الطبقية.و لنذكر هنا بعض الأمثلة التاريخية:
هل كانت الدولة القديمة دولة رقيق؟ أجل. مهما كانت صورتها لأن الرقيق لم يكن فيها قط مواطنا.
هل كانت الدولة في القرون الوسطى دولة إقطاعية؟ أجل. ومهما كانت صورتها لأن الرقيق فيها لم يكن له أي حق سياسي. أما البرجوازيون فقد فازوا بحريتهم بنضالهم.
هل الدولة الفرنسية، منذ عام 1789، هي دولة البرجوازية الرأسمالية؟ أجل. ومهما كانت صورتها لأن البروليتاريا فيها لم تتمتع بأي حقوق سياسية سوى الحقوق التي انتزعتها من البرجوازية بالنضال، وهي تفرض احترام هذه الحقوق بنضالها المستمر.
هل الدولة السوفياتية هي دولة العمال والفلاحين؟ أجل. لأن أساس الاتحاد السوفياتي السياسي يتكون من سوفيات نواب العمال الذين ازداد عددهم وتوطدت أركانهم بعد قلب سلطة كبار الملاكين والرأسماليين، وبفضل الاستيلاء على دكتاتورية البروليتاريا (المادة 2 من دستور الاتحاد السوفياتي)
كل السلطة في الاتحاد السوفياتي بين يدي عمال المدين والقرية الممثلين في شخص سوفيات نواب العمال (المادة 3 من دستور الاتحاد السوفياتي).
ولهذا فالسؤال الأول الذي يجب طرحه لتقدير طابع دولة من الدول في أيامنا هو هذا السؤال: هل نحن أمام دولة برجوازية رأسمالية أم أمام دولة اشتراكية للعمال والفلاحين؟ ولا يمكن أن يطرح السؤال بصورة أخرى، إذ لا يمكن للدولة أن تكون دولة رجل، أو حزب. بل هي دائماً دولة طبقة.ولقد رأينا أن الدولة لا يمكن أن تستقر بدون أساس اقتصادي ونعلم أن الأساس الاقتصادي يمتاز بملكية وسائل الإنتاج.والقوة الاجتماعية التي تمثل الملكية وتمتلكها وتستخدمها ليست رجلا أو حزبا بل هي دائما، وفي كل مكان، طبقة، فهي هنا طبقة البرجوازيين الرأسماليين وهناك طبقة العمال المتحالفين مع طبقة الفلاحين العمال.
نعرف إذن محتوى الدولة الاجتماعي بالجواب على هذا السؤال التالي: هذه الدولة في خدمة أية علاقات إنتاج، وأية صورة للملكية (خاصة أو اجتماعية) وأية طبقة؟
يجب طرح هذا السؤال بصدد كل الأفكار السياسية.
سطر لينين بسرعة، مثلا، بصدد الحرية، الملاحظات التالية "الحرية" حرية مالك السلع.
حرية العمال المأجورين الحقيقية – حرية الفلاحين:
حرية المستغلين.
الحرية من أجل من؟
الحرية بالنسبة لمن وبالنسبة لماذا؟
الحرية في أي شيء؟
كما سطر بصدد المساواة:
"المساواة". انجلز في "ضد دورنج" (وهم إذا أردنا بذلك أكثر من إزالة الطبقات).
مساواة مالكي السلع.
مساواة المستغل والمستغل.
مساواة الجائع والشبعان.
مساواة العامل والفلاح.
مساواة من؟ ومع من؟ وبأي شيء. .

وسائل حكم الدولة هي وسائل الطبقة التي تسير الدولة، وبهذا تكون هذه الوسائل ذات مغزى لأنها تدل على محتوى الدولة. هذه الوسائل رأسمالية بالنسبة للدولة الرأسمالية وأولى هذه الوسائل المال.
كتب انجلز بهذا الصدد يقول: لم تعد الجمهورية الديمقراطية تعترف، رسمياً، بفوارق الثروة. إذ أن الغني يؤثر فيها بصورة غير مباشرة ولكنها أكيدة. وذلك بصورة رشوة الموظفين مباشرة، من جهة، ونجد في أميركا مثالا كلاسيكيا على ذلك، وبصورة تحالف بين الحكومة والبورصة من جهة ثانية، ويتم هذا التحالف بسهولة لأن ديون الدولة تزداد باستمرار، كما أن الشركات المساهمة لا تحصر بين يديها وسائل النقل فقط بل الإنتاج نفسه، كما تلتقي هذه الشركات في البورصة .
وليست سيطرة الثورة جميعها، في الجمهورية البرجوازية، في أيامنا هذه، باقل ظهوراً. وبالرغم من أنه لا يوجد أي تشريع قانون يحفظ لأعضاء الأوليغارشية المالية مراكز القيادة في الدولة فان "تبعية جهاز الدولة للاحتكارات " حقيقة واقعة. فمن جهة، تستطيع المئتا عائلة أن تعين بعض أعضائها في جهاز الدولة كموظفين كبار: ومهما كانت القواعد لتعيين هؤلاء الموظفين، فأننا نعلم أن عامل المودة" هو الذي يقرر القبول في دوائر "الدولة الكبرى" كمراقبة الاقتصاد وغيرها. ومن جهة ثانية تنظم الأوليغارشية المالية هجرة منظمة لكبار الموظفين نحو القطاع الخاص مما يسمح لها أن تؤمن تعبئة مستمرة لملاكاتها، وهي تسعى بواسطة الطموح والتلهف على الربح، والرشوة لمراقبة كل نواحي الإدارة. تتضح هذه الرشوة في فضائح الدولة الرأسمالية بين حين واآخر. كما أنها تتخذ طابع توزيع المراكز المباشر في مجالس إدارة الشركات على النواب والممثلين السياسيين واللواءات الخ.....
ولقد رأينا فيما سبق دور الدولة التاريخي في خدمة رأس المال. وهكذا وجدت الدولة الفرنسية نفسها، بواسطة قروض مشروع مارشال، تابعة للاحتكارات الأميركية، وأصبحت بعض دوائرها كوزارة الخارجية مثلا تحت مراقبة عملائها. كما تملك البرجوازية الكبرى أيضاً "الأزمة الاقتصادية" كوسيلة للتأثير على المجلس النيابي. إذ أن ازدياد ديون الدولة عملية سياسية رابحة لها. لأن التهويل المالي، الذي كان وسيلة للضغط على الملوك، يظل نافعاً للتأثير على دولة البرجوازية والدولة الأجنبية التي تتخبط في الصعوبات.
ويبدو دور الثروة السياسي، في الدولة البرجوازية أيضاً، في سلسة من وسائل وهي: ليس محتوى حرية الصحافة سوى أن الرأسماليين الذي يمكنهم ماديا تأسيس جريدة وتمويلها لديهم المجال لخلق هذا المحتوى؟ - ليس محتوى حق الجميع في التعلم سوى أن إمكانية التعلم الحقيقية لا توجد ألا للطبقات الاجتماعية التي تستطيع دفع مصاريف التعليم._ وما تحتوي حرية الرأي والطرق السياسية سوى أن الإمكانية الحقيقية لتقديم مرشحين لا توجد إلا للفئات الرأسمالية التي يمكنها أن تمول معركة انتخابية. ولا ننس أن وجود حزب مستقبل للطبقة العاملة ليس ثمرة النزعة المتحررة البرجوازية بل هو ثمرة تضامن الجماهير الفعال.
وتبدو معالم الدولة الطبقية بوضوح في مسألة العدالة. ولنشر أولا إلى أن العدالة لا تؤدي بل هي تباع على يد البرجوازية: وإذا كانت العدالة نظرياً بالمجان فأن هذه العدالة لا تؤدي ألا لمن يستطيع دفع مصاريف الدعوى، فكيف يمكن لعامل أن ينال التعويض عن حادث وقع له أثناء العمل؟ كيف يمكنه أن يستأنف أمام مجلس الدولة ضد لا شرعية الإدارة؟ وتؤدي العدالة بلغة لا تفهمها الجماهير الشعبية، وهي ترجع إلى مطلع البرجوازية. وأخيراً فأن المباديء التي تهتدي هذه العدالة بهديها هي مباديء الحق البرجوازي الذي يقوم على الدفاع عن الملكية، والدفاع عن رأس المال، وما قمع لصوص الممتلكات الشخصية سوى تعلة لقمع العمال في نضالهم ضد المستغلين، وتتعدد وسائل ضغط الدولة البرجوازية، في القضايا السياسية، على القضاء من التلويح بالترقية حتى للتهديد، الذي يكاد لا يخفى، بواسطة عملاء للاستفزاز، حتى أن النظرية الفكرية البرجوازية تخلتف في تقديرها الجرائم إذا ارتكب هذه الجرائم فقير معدم أو إبن عائلة "محترمة" وأخيراً يجعل فساد البرجوازية المنحطة العدالة عاجزة عملياً أمام المهربين ورجال العصابات التي تلوذ بدوائر المجتمع "العالية".

ينتج محتوى الحق عن وظيفته في تخليد نظام الملكية القائم، والحق ليس تجسيداً لمباديء خالدة ولا "لقوانين طبيعية" أو إرادة "الوعي"، بل هو عنصر مكون للبناء الفوقي، انعكاس لصورة الملكية المسيطرة التي يحاول تخليدها ليجعلها مطلقة، كما يبررها "بمبدأ" مزعوم أبدي، ولهذا كان التفكير التشريعي البرجوازي أفضل مثال على تطبيق المنهج الميتافيزيقي.
ومثال واحد يدلل على محتوى الحق الطبقي. يجبر القانون الأولاد على القيام بأود والديهم، عند الضرورة، كما يجبر الوالدين بتربية أولادهما. أو ليس من الواضح أن هذه القاعدة تعمم في المجتمع واجبا لا معنى له ألا ضمن نطاق العائلة البرجوازية المالكة، وأن هذا التعميم الجائر يعفي المستغلين، أي البرجوازية، من واجبهم نحو عناصر البروليتاريا العاجزة عن العمل: وهم كهول العمال، والمقعدون، والمرضى، وأولاد البروليتاريا؟
وتمتاز الدولة البرجوازية "الديمقراطية" أيضاً بالميزات التالية:
- البيروقراطية: يشرف على الإدارة من عل تعاليم البرجوازية الكبيرة الخفية، وهكذا كانت الإدارة العليا غير مسؤولة، عملياً، تراقبها مباشرة الأوليغارشية المالية ويكون كبار الموظفين "جماعات" متخصصة مغلقة، تحتكر "الكفاءات" أي تجربة طبقة البرجوازية القديمة، ولا تخضع هذه الإدارة لمراقبة الجان البرلمانية عن طريق "السر المهني" وتشرف إدارة المحافظة على المجالس المحلية وتجعل قراراتها تابعة لمصالح طبقة البرجوازية الكبيرة .
- النزعة العسكرية: تهدف مدة الخدمة العسكرية الطويلة، وهي ثمرة الاستعمار الذي لا يرى في السلم سوى هدنة بين اعتدائين، إلى تنشئة الشباب على خدمة الدولة البرجوازية خدمة عمياء، وقد وضع النظام كطاعة سلبية لا تقبل النقاش، مفروض من عل، لأن البرجوازية لا تستطيع الاعتراف صراحة بأهدافها الطبقية إلى جنودها.
- النزعة البرلمانية: نظمت الانتخابات بشكل يجعلها تقرر فقط كل أربع أو خمس سنوات من هو الرجل الذي تثق به البرجوازية سيمثل الشعب في البرلمان ويضطهده، وممثلو الشعب لا يمكن الناخبون تنحيتهم، كما أنهم لا يملكون السلطة التنفيذية والإدارية بفضل المبدأ البرجوازي عن "فصل السلطات"، وتعرف النزعة البرلمانية هي أن المجالس المنتخبة لا تشرف بنفسها على تنفيذ قراراتها وتطبيقها: فهي ليست مجالس فعالة.
- وأخيراً نأتي لظاهرة أحدث في فرنسا وهي أن رجال السياسة يختارون مباشرة من بين الرأسماليين أمثال "بيني" و "ماير" و "لانييل"، الذين لا يكتفون بالإشراف على السياسيين، بل يقومون هم أنفسهم بإدارة الحكومة. وهذه الظاهرة أقدم في الولايات المتحدة وأشد اتساعاً. إذ نرى اللواءات والممثلين السياسيين والقضاء، من بين الرأسماليين، يقومون بأنفسهم بهذه الوظائف.
- نرى الآن ما معنى أن كل دولة هي دكتاتورية طبقة من الطبقات، ويعني هذا أن حقيقة السلطة في يد طبقة تمارسها لخدمة مصالحها,مستخدمة في ذلك وسائلها الخاصة.يمكن للدولة البرجوازية أن تكون ديمقراطية بالنسبة للرأسماليين، ولكنها دكتاتورية بالنسبة للطبقة العاملة، بينما الدولة الاشتراكية، على العكس، هي ديمقراطية بالنسبة للعمال ولكنها دكتاتورية بالنسبة للطبقات القديمة المستغلة الزائلة. وكان لينين يقول: الدكتاتورية، التي هي نفي للديمقراطية، من أجل من؟ .
- من الخطأ، إذن تعريف الفاشية بأنها "دكتاتورية حزب. لأن الفاشية هي "دكتاتورية أشد العناصر الرجعية إرهابا واستعمارا في رأس المال" (ديمتروف). وما الحزب الواحد إلا أداة هذه الدكتاتورية الطبقية.
أما ثرثرة الاشتراكيين الديمقراطيين عن "تسرب العناصر البروليتارية" في الدولة الحديثة,التي تجعل لهذه الدولة شبه طابع "وسط" لأنها "ليست بروليتارية تماماً" ولا "برجوازية تماما" فأنها لا يمكنها أن تخفي ما يلي: وهو أنه إذا وجب على البروليتاريا أن تهدم، بمشقة، بعض قلاع الدولة الرأسمالية الأمامية، فهل يمنع ذلك من أن تظل هذه الدولة رأسمالية أو لا يبرهن، على العكس، أنها رأسمالية؟
ب – صورة الدولة
صورة الدولة هي التعبير عن محتواها الاجتماعي الحقيقي، وهي تتحدد بنمو نضال الطبقات.
يميز لينين بين عدة صور للدولة ظهرت منذ القدم:
- الجمهورية كدولة ليس فيها سلطة غير منتخبة.
- الملكية كسلطة فرد واحد.
- الأرستقراطية كسلطة أقلية محدودة نسبيا.
- الديمقراطية كسلطة الشعب.
وتمتزج هذه الصور بعضها مع بعض، فيمكن للجمهورية، مثلا، أن تكون أرستقراطية أو ديمقراطية، تضم في نفس الوقت بقايا الملكية.
ولا تستقر صورة الدولة، غالبا، على حال، فهي تتأخر غالبا، عن المحتوى، وتعبر بطريقتها عن تناقضات المجتمع الداخلية.
كانت جميع صور الدولة، في القدم، لها محتوى يعتمد على الرقيق. ومع ذلك فإن الانتقال من صورة الجمهورية الأرستقراطية إلى الجمهورية الديمقراطية، في روما، مثلا كان يعكس، بالضرورة، مرحلة جديدة من نضال الطبقات بين الملاكين والتجارة.
وقد تنوعت صور الدولة، في عهد الإقطاع. فوجدت جمهوريات أرستقراطية كان الإقطاعيون فيها ينتخبون رئيس الدولة، وهو الإمبراطور، وقد تحول بعضها إلى ملكيات وراثية.فكان شارلمان يجمع,كل سنة برلمانا من البلاد الكارولنجيين, وهو بقايا للعادات "الجمهورية" عند الفرانك. كما كان الكابيتيون الأوائل منتخبين، كما انتخب الإمبراطور في نعض مراحل الإمبراطورية المقدسة على يد كبار الإقطاعيين. ولكن محتوى الدولة، كان في جميع هذه الأحوال، إقطاعيا.
وكانت "المجالس العامة" في عهد القديم مؤسسة ذات طابع "جمهوري" لأنها كانت تتكون من مندوبين منتخبين وهم في نفس الوقت أرستقراطيون لأن الإقطاعيين كانوا يتمتعون فيها بأكثر الثلثين : كما أنها كانت بذلك مؤسسة إقطاعية تخدم مصالح الإقطاعيين!
حتى إذا ما أصبح للبرجوازية تأثير على الدولة الملكية الإقطاعية بواسطة وسائلها المالية وقفت في وجه هذه المؤسسة الإقطاعية، ألا هي مؤسسة المجالس العامة حيث كانت أقلية فيها. ولهذا لم تجتمع المجالس العامة في عهد الملكية "المطلقة" أيام لويس الرابع عشر وكولبير – البرجوازي.
غير أن نزعة الملكية المطلقة، التي كانت، اثر الفروند (Fronde) موجهة ضد الإقطاعيين، قد انقلبت على البرجوازية، في القرن الثامن عشر، بسبب تقدم البرجوازية الذي أخذ يهدد النظام الإقطاعي.
ففكرت البرجوازية، عندئذ، في استخدام المجالس العامة، إذ أن الوضع كان تغير، ويمكن لهذه المجالس، بعد شيء من الإصلاحات، أن تخدم البرجوازية! كانت طبقة النبلاء معزولة في البلاد، وكان الكهنوت منقسما بالنضال الطبقي بين طبقة الكهنوت المنحدر من الشعب، وكانت البرجوازية الطبقة التي تعتمد عليها ثروة الاقتصاد القومي: فقامت بحملة بين الجماهير لمضاعفة عدد نواب الطبقة الثالثة (وكان هذا العدد عادة مساويا لعدد نواب كل من الطبقتين الأخريين)، كما دعت لانتخاب يجري داخل المجالس، على أساس الفرد و ليس على أساس الجماعة. وهكذا تضمن البرجوازية، بمساعدة نواب الكهنوت الشعبي، الأكثرية المطلقة في المجالس العامة! حتى إذا ما اجتمع نواب الطبقة الثالثة، دعوا نواب الكهنوت إلى الانضمام إليهم وأعلنوا أنفسهم مجلسا قوميا.
وهكذا نرى أن البرجوازية عرفت كيف تستخدم، حسب تطورات النضال الطبقي، المؤسسات الملكية في الدولة الإقطاعية، (الملك) تارة، والمؤسسات "الجمهورية" (المجالس العامة) تارة أخرى.
وقد أتاح نمو النضال الطبقي لهذه المؤسسة الإقطاعية محتوى جديدا برجوازيا، ارتدى المحتوى الجديد، لمدة من الزمن، صورة قديمة وحدد تحولاتها. ولنشر أخيرا إلى أن التطور النوعي، وهو ازدياد قوة البرجوازية، في البلاد، قد أفضى جدليا إلى تغير نوعي في صورة المؤسسات، ألا وهو تحول المجالس العامة إلى مجلس قومي، وإلى قلب تام للوضع السياسي العام، إلى الثورة السياسية. كل ذلك حدث على أساس نمو النضال الطبقي.
وقد استخدمت البرجوازية، بدورها، بعد أن أصبحت طبقة مسيطرة، مختلف صور الدولة.
- الملكية الدستورية التي لم تخرج عن نطاق جمهورية غير ديمقراطية، لا ينتخب فيها سوى "المواطنين العاملين" الأغنياء الذين يمكنهم دفع ضريبة معينة.
- الجمهورية المقصورة على دافعي الضرائب.
- الجمهورية الديمقراطية التي تقوم على الانتخاب العام "الشامل".
وتكون الصورة الأولى للدولة حلا وسطا مع النظام القديم في الأوقات التي كان ذلك فيها ضروريا.
ولقد حظيت الصورة الثانية بتفصيل البرجوازية لأنها كانت تتفق تماماً مع الأساس الاقتصادي للعهد فكانت جمهورية الملاك.
وقد أصبحت الصورة الثالثة ضرورية حين نما نضال البروليتاريا الطبقي، ووجب تغطية الدكتاتورية الطبقية "للتخفيف من حدة النضال الطبقي" وتهدئه اندفاع البروليتاريا الثوري.
وكان يهم البرجوازية أن تغرس في العقول الفكرة القائلة بأن الجمهورية الديمقراطية هي صورة الدولة المثالية النهائية، وهي أسمى ما وصل إليه "تقدم الوعي"، والمدينة والنزعة الإنسانية، وأنها تجسيد "الحق الطبيعي" ونهاية التاريخ بمعنى ما. وهكذا كانت تأمل تخليد حكم رأس المال.
غير أن تناقضات الرأسمالية، وتأزم النضال الطبقي، والأزمات الاقتصادية، والاستعداد للقيام بالفتوحات الاستعمارية، وبدء أزمة الرأسمالية العامة، كل ذلك لم يمكنها من ذلك. فاضطرت البرجوازية إلى أن تلقي قناع الديمقراطية، وأن تعتدي على شرعيتها، لتبقى سيطرتها الطبقية. وهي تتأرجح على أساسها الاقتصادي الفاسد، وأن تستعد للحرب، فكشفت عندئذ عن وجه الفاشية الكريه، وعن دكتاتورية رأس المال في وحشيتها المفترسة. ودلت بذلك على أن محتوى الدولة الطبقي أهم من صورة، وأن الجمهورية الديمقراطية كانت صورة تاريخية للدولة، وهي صورة وقتية تابعة لمصالحها الطبقية، وهي ليست مقدسة ولا خالدة. كما برهنت بنفسها على كذب تصريحاتها عن حبها المجرد للحرية والمدينة!
يتبع