تقديس العقل في مقابل النقل


فهد المضحكي
2024 / 3 / 23 - 12:23     

في كتابه «أوليّة العقل - نقد أطروحات الإسلام السياسي» الصادر عن دار أمواج للطباعة والنشر، والذي ينقسم إلى قسمين، الأول: في معنى العقل ووجوب أوليته. والثاني: الإسلام والشؤون الدنيوية.

يرى المؤلف أستاذ الفلسفة اللبناني عادل ضاهر أن حركات إسلامية كثيرة تحولت إلى أحزاب أو شبه أحزاب، كحركة الإخوان، وحركة النهضة في تونس، والجماعة الإسلامية في باكستان، وجماعة التوحيد في مصر، والحركة الإسلامية في الأردن، والخمينية في إيران، وغيرها. وهذه الحركات متنوعة في مشروعاتها السياسية، وإن كان ما يوحد بينها أكثر، وعلى الأرجح، أهم مما يباعد بين هذه الحركات.

من الجدير بالملاحظة أن ظاهرة تسييس الدين ليست مقتصرة على العالم الإسلامي، كما هو شائع بين العامة عندنا وعند سوانا. ثمة حركات أصولية غير إسلامية ناشطة سياسيًا في أنحاء مختلفة من هذه المعمورة. من هذه الحركات الحركة التي يمثلها ما يعرف بـ«اليمين الديني Religious Right» في الولايات المتحدة، وحركتا حريديم وغوش إيمونيم في إسرائيل، والحركة الهندوسية. وحتى البوذية، ولم تسلم سريلانكا من ظاهرة تسييس الدين.

ولا عجب أن نكتشف أن هناك الكثير مما هو مشترك بين هذه الحركات الأصولية والإسلام السياسي.

هذا أمر طبيعي، لأن ما يعنيه تسييس الدين، في المنظور المشترك بين كافة الحركات الأصولية، الإسلامية وغير الإسلامية، هو أن النصوص الدينية هي المرجع النهائي في المجال العام في كل الحالات التي الأصوليون، بحسب فهمهم الخاص للنصوص المقدسة لدينهم، أنها مشمولة بهذه النصوص. وهذا بدوره يعني أن اللجوء إلى هذه النصوص يعطي امتيازًا معرفيًا في المجال العام لمن يلجأ إليها لتسويق موقفة إزاء أي قضية من النوع السياسي أو الاجتماعي يفترض أنها مشمولة بهذه النصوص.

وفي مقابل ذلك، عندما نقحم الدين في السياسة، نضع أنفسنا خارج اللعبة الديموقراطية، فلا يعقل، من منظور الأصولي المسيس للدين، الافتراض أن ثمة معيارًا للخطأ والصواب في المجال السياسي يعلو على المعيار المستمد من النصوص الدينية التي أتفق أنها تشكل المرجع الأخير لهذا الأصولي.

كثيرة هي القراءات التي تناولت هذا الإصدار الذي ينطلق من نظريات وضعها فلاسفة كبار في معنى العقل والمهام التي تقوم عليه خلال مسيرة حياة الإنسان ومساعيه في تحسين ظروف عيشه وإخضاع الطبيعة لسلطته، ومن أهمها، تلك القراءة الرصينة للمركز الكردي للدراسات، ملخصها: يربط الكاتب حاجة الإنسان إلى استنباط وسائل جديدة لتحسين ظروف حياته، ومواجهة التعقيد الذي يحيط به كلما تدرج في التقدم على سلم الحضارة، باللجوء إلى العقل والتفسير العلمي العقلاني للظواهر، وبالتالي الدفع إلى الابتكار والتطوير والإبداع في ميادين العلوم ومناحي الحياة التي تؤثر تأثيرًا مباشرًا على وجود وكينونة الإنسان. إذن، فالإنسان وبعد أن تطور وتدرج في المدنية، بدأ يفكر ويخضع كل الظواهر لمقياس عقلي ومحاججة علمية منطقية، وبدأ الشك يرفع صوته عاليًا، ويحاول تلمس طريق له إزاء الأفكار التقليدية السائدة والمسيطرة. ينتقد المؤلف النظريات التوفيقية والتي يسميها في الكتاب بـ«الطفيلية» من تلك التي تحاول التوفيق بين العقل والنقل، أو بتطويع العلم ليكون دالًا على صحة النص الديني، وليس داحضًا له، من الجهة العملية المجردة. ويسوق هنا نظرية الخلق في النص الديني من وجهة نظر العلم، وينتقد محاولة البعض تذليل التعارض الواضح ببن العقل/‏والنص الديني، وبين العقل/العلم التجريبي.

ينتقد الإصدار تسييس الدين، ويعرض الكثير من المفاهيم العقلانية التنويرية، ويقدم أطروحات ينتقد فيها منظري الإسلام السياسي. أما فيما يتعلق بالإسلام السياسي والديمقراطية، وهي أطروحات متباينة شكلًا، ومتفقة مضمونًا، فمنها ما ينفي الديمقراطية وينبذها، ومنها ما يعرض التوافق بينها وبين النص الديني. يخوض المؤلف في آراء مفكري الأسلام السياسي مثل، سيد قطب، وراشد الغنوشي، وحسن الترابي، حيث يحاجج هذه الآراء بالمنطق العلمي العقلي الذي يدافع عنه وينظر إليه في كل فصول الكتاب. ويحذر من الاعتماد على قرار الأغلبية في أثناء العملية الديموقراطية في تمرير مشروع الإسلام السياسي، موضحًا بأن هذا المشروع بهدف السلطة وهو شمولي وأقصائي. ويذكر إن من بين الأطروحات التي تتكرر في أدبيات بعض منظري الحركات الإسلاموية، الأطروحة المتمثلة بالادعاء بأن استهداف إقامة دولة إسلامية لا يتضمن العودة إلى مفهوم الدولة الدينية، كما عرفناه في القرون الوسطى المسيحية. إن الدولة الإسلامية أو (دولة الإسلام بحسب وصف راشد الغنوشي)، المزمع إقامتها لن تكون في نظر هؤلاء المنظرين، دولة كليانية (توتاليتارية)، بل دولة تحفظ فيها الحريات وحقوق الأقليات. ولا غرابة بأن نجد هؤلاء المنظرين يصفون نظام الشورى الإسلامي المستهدف إقامته من قبلهم بأنه النظير الإسلامي للديمقراطية الغربية.

لا يعني هذا أنهم يذهبون إلى حد تبني الديمقراطية في جميع وجوهها وسماتها، بل يعني، على الأقل، أنهم يعتقدون (أو ربما يتظاهرون بالاعتقاد) بأن النظام الإسلامي المنتظر سيحتضن فكرة التمثيل السياسي، إضافة إلى حفاظه على العديد من الحريات الديموقراطية. بيت القصيد في هذا، أن علمانية هذا النظام لن تشكل عائقًا أمام تزويده ببعد ديمقراطي عاكسٍ لخصوصيات الإسلام والقيم الإسلامية.

من الجدير بالملاحظة هنا، أن بعض المفكرين العرب الذين لا تربطهم بالحركات الإسلامية أي رابطة، فلا هم من منظريها، ولا من آبائها الروحيين، ولا حتى من المتعاطفين معها، يفترضون بصورة مضمرة على الأقل، إمكان تعايش الديمقراطية مع نظام إسلامي لا علماني. ويستحضر الكاتب هنا، اسم المفكر المغربي محمد عابد الجابري.

يعتبر الجابري، أن المشكلة الأساسية التي يواجهها العرب هي مشكلة إقامة نظام ديمقراطي، لا إقامة نظام علماني. في الواقع، إنه يعتقد أن مشكلة العلمانية «مشكلة مصطنعة». إنها اختلقت من قبل مفكرين مسيحيين في المشرق، ظنًا منهم أن العلمانية هي الضمان لحقوق الأقليات أو لحل مشكلة الحريات والحقوق عمومًا. إن خطأهم في اعتقاد الجابري، كامن في أنهم يحولون الأنظار عن الحل الحقيقي والوحيد لمشكلة الحريات والحقوق، الفردية والجمعية، ألا وهو الحل الديمقراطي، متصورين، خطأً، أن التهديد لهذه الحريات والحقوق آتٍ عن عدم فصل الدين عن السياسة. هنا، وعلى حد تعبير المؤلف، نجد الجابري يماشي الإسلاميين في اعتقادهم بأن عدم وجود طبقة إكليروس في الإسلام يمكن أن تستأثر بالسلطة، كما حصل في الغرب المسيحي، لهو عامل مساعد على التوفيق بين الإسلام السياسي والديمقراطية، أو على إقامة نظام إسلامي ديمقراطي. من هنا نفهم وصفة مشكلة العلمانية بأنها «مشكلة مصطنعة».

دافع الكاتب عن العلمانية كشرط ضروري للديمقراطية، وإن لم يكن كافيًا. بمعنى آخر النظام اللا علماني نظام غير ديمقراطي بالضرورة، ولا يصح العكس، إذ بعض الأنظمة العلمانية هي حتمًا أنظمة غير ديمقراطية. وكما يبين، أن الطابع اللاديمقراطي للنظام اللاعلماني، لا يرتبط بصورة من صور النظام دون سواها. إنه غير مقصور، مثلًا، على الصورة التي يتخذها عندما تستأثر طبقة الكهنوت المسيحي بالسلطة. فسواء وجدت طبقة كهذه أو لم توجد، فإن لا علمانية النظام لا يمكن أن يتولد عنها، في أفضل حال، سوى ديمقراطية صورية، لا ديمقراطية بالمعنى الجوهري. ولذلك، وإن كان للديمقراطية أن تتأسس في مجتمع إسلامي، كما تأسست، مثلًا في مجتمعات مسيحية أو هندوسية أو بوذية، إلا أنها لا يمكن أن تتعايش مع الإسلام السياسي. إذن، بعكس ما يعتقده الجابري، لا يمكن أن تكون العلمانية «مشكلة مصطنعة» للعربي الحريص على إقامة نظام ديموقراطي حقيقي في ظهرانينا، حرص الجابري نفسه على ذلك، خصوصًا وأن فكرة الإسلام دينًا ودولة ما زالت فكرة حية في أذهان الكثيرين، وما زال مطلب إقامة دولة مطلبًا أساسيًا لحركات شتى لا يستهان بقوتها.

في حديثه عن المسألة المتعلقة بإمكان التوفيق بين الإسلام السياسي (وليس الإسلام الديني) والديمقراطية تساءل: هل يمكن للديمقراطية أن تكون سمة للنظام السياسي المزمع إقامته من قبل الإسلاميين؟ جوابه هو بالنفي، وقد لخص أسبابه على النحو الآتي: لا يمكن لنظام سياسي ديمقراطي أن يجد تربة صالحة له في الدولة الدينية ( اللاعلمانية)، أمسيحية كانت أم إسلامية، لأن الدولة الدينية تميل بطبيعتها لأن تكون دولة كليانية (توتاليتارية)، والدولة الكليانية هي تمامًا عكس الدولة الديمقراطية. وبما أن الغرض الأساسي للإسلام السياسي بكافة أشكاله وألوانه هو إقامة دولة إسلامية - أي دولة دينية -، إذن لا أمل في أن تكون الديمقراطية سمة للنظام السياسي لهذه الدولة.