من أجل ثقافة جماهيرية بديلة-أصول الفلسفة الماركسية-بوليتزر60


عبدالرحيم قروي
2024 / 3 / 22 - 04:48     

أصول الفلسفةالماركسية
الجزءالثاني
تأليف جورج بوليتزر، جي بيس وموريس كافين
تعريب شعبان بركات
الحلقة الستون
المادية التاريخية
تابع

ب – مهمة الدولة التاريخية
تحدثنا عن مهمة الدولة في حديثنا عن أصلها. هذا ما تطلبه الجدلية لأن الدولة ولدت، على التحقيق، لمواجهة مشكلة ظهرت في المجتمع، ولكي تقوي سيطرة المستغلين الاجتماعية، ونظام الملكية الذي يضمن لهم امتيازاتهم. الدولة هي انعكاس الأساس الاقتصادي، ولكنه ليس انعكاساً سلبياً، بل هو انعكاس فعال. ولهذا كان من المفيد، كما هو الحال في دراسة الأفكار في الحياة الاجتماعية، أن لا نخلط مهمة الدولة وأصلها دون أن نفصل بينهما. ذلك لأن الدولة، فيما يتعلق بالأصل، مشتقة بالنسبة للاقتصاد، ولكنها فيما بالمهمة، فإن هناك حالات تصبح فيها أهمية الدولة أساسية، لها أثر فعال. ولهذا لا يجب أن يؤدي القول بأن الدولة هي انعكاس للاقتصاد.إلى التقليل من قيمة تأثيره على الإقتصاد.
يقول انجلز أن مهمة الدولة هي "تخفيف النزاع بين الطبقات" وأن تحصر هذا النزاع ضمن "حدود النظام" ولا يعني هذا، كما دلل لينين، أن الدولة هي منظمة للتوفيق بين الطبقات بل هذا العكس!
فلو أن "التوفيق بين الطبقات" كان ممكنا، لم تمسس الحاجة قط إلى الدولة.
ويعني القول: "تخفيف النزاع بين الطبقات" تخفيف حدة هذا النزاع، أي حرمان الطبقات المستغلة من وسائل النضال التي تسمح لها بالتخلص من مستغليها. نحن هنا، إذن، أمام كتم نضال الطبقات المستغلة. وكيف يكون ذلك؟ بترك الميدان أمام عمل المستغلين، وبتوسيع الاضطهاد وتنميته وتقويته، ولا سيما عندما لم تعد علاقات الإنتاج تتفق وحال قو الإنتاج.
ذلك هو مأزق الطبقات الرجعية: ملء السجون "لترتاح" ونزيد من ملء السجون أيضاً حتى تقضي على الخوف الذي نثيره فيها السجون الملأى! ذلك هو "النظام" و "السلام"في نظرها، هو نظام يجعل الاضطهاد شرعياً، وقد أقيم هذا "النظام" لتوطيد الاضطهاد فإذا به يزعزعه. فيؤدي تخفيف النزاع إلى زيادة خطورته .
والخلاصة أن الدولة، حسب رأي ماركس، هي منظمة للسيطرة الطبقية، ولاضطهاد طبقة على يد طبقة أخرى .
تمثل الدولة القوة القائمة المنظمة الشرعية. وهي أداةلا للتوفيق بل للنضال الطبقي.
وهنا يخطر لنا سؤال وهو: من هي الطبقة التي تستطيع في كل مرحلة من مراحل النمو التاريخي، إيجاد هذه الأداة وتغذيتها واستخدامها؟ كل طبقة مستغلة بحاجة للدولة ولكنها لا تستطيع تغذيتها دائماً.
يجيب انجلز على ذلك بقوله أنه لما كانت الدولة قد ولدت من الحاجة إلى لجم تعارضات الطبقات، وكما أنها ولدت وسط نزاع الطبقات، فهي دولة الطبقة الأقوى، تلك التي تسيطر من ناحية الاقتصادية والتي تصبح بفضل هذه السيطرة الاقتصادية الطبقة المسيطرة سياسياً، فتحصل بذلك على وسائل جديد لكبت الطبقة المضطهدة واستغلالها .
على العلم التاريخي، إذن، في كل مرحلة، أن يجيب بجواب محسوس.
مثال: الدولة الحديثة بحاجة إلى مصروفات تنفق على الجيش والشرطة والموظفين.
ولا تستطيع الطبقة السائدة أن تحتفظ بهذه الأداة واستخدمها إلا بقدر ما تسمح علاقات الإنتاج التي تمثلها، والتي تريد إنقاذها، بالصرف عليها، ولهذا كانت الطبقة المسيطرة سياسيا هي الطبقة المسيطرة اقتصاديا. ومن هنا كانت بعض النتائج:
1 – حين تبلغ طبقتان متناحرتان شيئاً من الاتزان من الناحية الاقتصادية، يمكن للدولة أن تتمتع، بعض الوقت، بشبه من الاستقلال نحو هاتين الطبقتين. كانت تبدو ملكية لويس الرابع عشر المطلقة أنها تستطيع أن تكون الحكم بين الإقطاعيين المستغلين للرقيق وبين البرجوازيين، فكان الملك يمكنه القول: "الدولة أنا".
وكان هذا يعني، في الواقع، أنه قد أصبح للبرجوازيين بعض التأثير في الدولة الإقطاعية لأنهم كانوا يصرفون عليها، ولأنهم كانوا يقرضون الملك المال، ولكنهم، مقابل ذلك، لم يكونوا يستطيعون، بدون حماية الدولة الإقطاعية، تنمية التجارة والصناعة اليدوية، و هكذا حصل البرجوازيون, مقابل دعمهم المالي للنظام الإقطاعي، على امتيازات تجارية حملت في أحشائها بذرة نهاية النظام الإقطاعي!و قد اتخذ النضال بين الطبقتين المستغلين، في ذلك الوقت، طابع حاجة كل منهما للأخرى، وكان الحال في سنة 1789، بعد مضي قرن يختلف عن ذلك.فقد أصبحت البرجوازية مسيطرة اقتصاديا فقطعت الأرزاق عن الدولة الاقطاعية، وعملت على إسقاطها. ولا يجب أن ننسى، مع ذلك، أن التفاهم الموقت بين النبلاء والبرجوازيين كان دائما يتم على ظهر الفلاحين وهم الطبقة المستغلة.
2 – الدولة، بين يدي الطبقة المستغلة، هي وسيلة إضافية لاستغلال الطبقات المضطهدة. ولهذا كانت الضرائب، والجزاوات، ومصاريف العدالة، الخ... وسائل لحمل المضطهدين على دفع مصاريف اضطهادهم، في صورة مشاركة في مصاريف المجتمع العامة. ويتضح هذا أكثر في أيامنا حيث نرى ميزانية فرنسا الحربية الضخمة تعني أن الأمة تدفع مصاريف حرب (حرب الفيتنام ) وتسلح (ضمن نطاق ميثاق الأطلنطي الإعتدائي) كل ذلك لمصلحة البرجوازية المستعمرة وحدها. كما أن الشعب هو الذي يدفع أجور الشرطة التي تنهال عليه بالعصي باسم المصلحة العامة. وهكذا تضرب الدولة العمال "لمصلحتهم".... وعلى نفقتهم! ومع ذلك لا يمكن لهذا الاستغلال الإضافي أن يكون ألا في دولة الطبقات المستغلة وينتج عن الاستغلال نفسه.
ليس الاستغلال، على عكس ما كان يعتقد بلنكي الضريبة بل هو الاستملاك الخاص للعمل غير المدفوع أجره.
3 – تبدأ الطبقة الحاكمة بالخوف على سيطرتها السياسية متى ما أصبت علاقات الإنتاج التي تمثلها، والتي أصبحت بفضلها مسيطرة اقتصاديا، قديمة، أي حين يظهر الخلاف بين علاقات الإنتاج وطابع قوى الإنتاج. حتى إذا ما تفاقم هذا الخلاف نشأت مشكلة الدولة بصورة حادة. وتظهر عندئذ الإمكانية المادية على سلطة الدولة قد أفلتت من أيدي الطبقة المسيطرة.
ولهذا فنحن حين نتحدث عن الطبقة الأقوى اقتصادياً فلا يجب أن يفهم هذا القول بصورة تخطيطية. فالطبقة "الأقوى" هي الطبقة التي تستطيع أن تدفع بنمو قوى الإنتاج إلى الأمام، والتي تمثل علاقات الإنتاج الجديدة. حتى إذا لم تعد البرجوازية تستطيع تنمية قوى الإنتاج لم يعد بالإمكان القول بأنها "قوية" اقتصادياً، كما لم يعد بالإمكان القول أن اقتصاد الرأسمالي، الذي يسيطر على المجتمع، سليم. بل هو، على العكس، اقتصاد منحط، وهذا يعني أن سيطرة البرجوازية الاقتصادية أو السياسية تقارب نهايتها.
غير أنه يظهر عندئذ، في وضح النهار، تأثير الدولة على الاقتصاد. إذ لا تقف الدولة موقفا سلبيا أمام المصير الذي تردى فيه أساسها بل هي تقف موقفا فعالا فتدافع عنه بشدة.
حين تكون علاقات الإنتاج متفقة مع طابع قوى الإنتاج تسعى سياسة الطبقة الحاكمة، التي تمثل هذه العلاقات، إلى نمو الإنتاج وتوسيع الصناعة، مثال ذلك نضال البروليتاريا من أجل التبادل الحر.
حتى إذا لم تعد علاقات الإنتاج تتفق وطابع قوى الإنتاج، فإن سياسة الطبقات المستغلة الاقتصادية تسعى إلى تعطيل عمل قانون الترابط الضروري، وذلك باتخاذ إجراءات تعيق نمو قوى الإنتاج.
وهكذا حاول رأس المال، في مرحلة انحطاط الرأسمالية، وهو المشرف على الدولة التي لم تكن سوى أداة بين يديه، أن يحل مشكلة الرأسمالية الاقتصادية بصورة تتفق ومصالحة، مضحياً من أجل ذلك بمصالح الأمة. فإذا بالدولة، وهي التابعة للاحتكارات، تحاول أن تسيطر على الحياة الاقتصادية، وليس ذلك لإمكانية تخطيط "الرأسمالية" بل من أجل حماية مصالح الأوليجاوشية المالية، وقد استولت هذه على فوائد ضخمة. فالدولة التي تشرف عليها تضمن لها احتكار إصدار عملة الدولة، كما أن الدولة تكلفها بإعداد التسلح وتقديم العدد الحربية كما تعفيها من الضرائب، وتحدد لمصلحتها أسعار الجملة والمفرق، وتبيعها بثمن بخس منتوجات الصناعة المأممة (الكهرباء والفحم)،
وتتخذ الإجراءات للقضاء على منافسها، وتمدها بالإعانات،و تتلاعب بالعملة، وتفاوض لحسابها مع البلدان الأخرى، وأخيراً تحدد الأجور كما تريد، حتى أن كل بروليتاري يصطدم بالدولة في طريقة خلال نضاله من أجل العيش.
تهتدي الدول، في عصر الاستعمار، في عملها، بضرورة انقاذ الرأسمالية ولا سيما تأخير ساعة الأزمة الاقتصادية. الدولة هي الأداة الرئيسية لخراب غالبية سكان البلاد وإفقارهم واستبعاد البلاد المستعمرة ونهبها بصورة منظمة، ونضال الرأسماليين المحتكرين ضد الرأسماليين غير المحتكرين، وهي أخيرا أداة النضال بين المستعمرين الألداء، ووسيلة للحروب وإخضاع الاقتصاد القومي للتسلح. ولكي تستطيع الدولة القيام بكل هذه الأعباء تظل لاضطهاد البروليتاريا والطبقات العاملة.
وهكذا تصبح الدولة سداً يحمي الطبقة المستغلة، وهي تقوم بدور فعال للدفاع عن طريق الإنتاج البالية. كما تصبح الدولة. التي كانت أداة لسيطرة الطبقة الأقوى اقتصادياً، وسيلة للمحافظة على هذه القوة الاقتصادية. بينما تقوضت هذه القوة في الأساس بتناقضات طريقة الإنتاج. وإذا كانت شروط تغير طريقة الإنتاج متوفرة، فإن عمل الطبقة المستغلة. التي تعارض في تطبيق قانون الترابط الضروري، وعمل الدولة البرجوازية، يصبحان العائق الأساسي للتغيرات الضرورية. ولهذا وجب القضاء على هذا العائق، غير أنه يجب، من أجل ذلك، توفر شروط ذاتية، وهي نضال الطبقة العاملة السياسي لتنظيم سياسياً في حزب طبقي وتنظيم الجماهير الشعبية، وتدافع عن الحريات الديمقراطية وتوسع من نطاقها، وأخيراً كي توجد سلطتها الخاصة كدولة.
ولا تملك هذه الدولة في أول عهدها، أي أساس اقتصادي خاص بها اشتراكية، ولهذا يجب عليها أن توجد أساسها الخاص بها. يضاف إلى ذلك، أنها لا تستطيع أن تقوم إلا بتأييد الجماهير العاملة الواعي. ولهذا يجب على الأفكار السياسية الجديدة، التي تتقدم بها الطبقة العاملة، أن تكون قد سيطرت على غالبية الشعب، أي أن غالبية الأمة لم تعد تؤيد السياسة البرجوازية أو تثق بها. ولهذا تجعل الماركسية، بحق، مسألة الدولة من ضمن الشروط الذاتية لتغير طريقة الإنتاج.
هذا ما تعلمنا لياه الجدلية، وهو أن الدولة، ومع أنها دائما انعكاس لأساس اقتصادي معين، فإن حل مشكلة الدولة والمشكلة السياسية يجب، في حالات معينة، أن يسبق تاريخيا بناء الأساس الاقتصادي الذي سيكون خاصاً بالدولة الجديدة.
وهذا ما لا يمكن أن تدركه النزعة المادية الساذجة: فهي إذ تعتمد على الفكرة القائلة بأن الدولة ثمرة نمو المجتمع الاقتصادي، فأنها تستنتج من ذلك أن التناقضات الاقتصادية يجب أن تكون ميكانيكية، وأن تؤدي، حتما، إلى تغيير طريقة الإنتاج وأن الاشتراكية ستولد تلقائية من "تحلل الرأسمالية". وهي بهذا تنسى أن عمل الناس يمكنه أن يعيق تطبيق القوانين الاقتصادية، وأن البرجوازية يمكن أن تمدد، بتأثيرها السياسي وبما تملكه من وسائل ضخمة تضعها الدولة الحديثة بين يديها، فترة زوال الأساس الاقتصادي، ولهذا فهي بهذا تخدم البرجوازية. ويؤدي التيار الاقتصادي، في الحركة العمالية، إلى نفس النتيجة بإنكاره ضرورة نضال البروليتاريا السياسي ضد الدولة البرجوازية، وهو بهذا يغذي النزعة الانتهازية، ويجعل الطبقة العمالية تبعاً للبرجوازية، كما أنه، في نفس الوقت، يقف في وجه سلطة الطبقة العاملة السياسية ويتردى في النزعة المناهضة للسوفيات. ولهذا يشجع هذا التيار صنائع البرجوازية في الحركة العمالية، وزعماء الاشتراكية الديمقراطية المصلحين.
والخلاصة من كل ذلك هي ضرورة النضال السياسي الماسة. غير أنه لا ننسى، من ناحية ثانية، ما رأيناه سابقاً: وهو أن الدولة لا يمكنها أن تقوم بدورها إلا إذا قبلت الجماهير (وخدام الدولة) الفترة القائلة بأن الدولة فوق الطبقات، وآمنوا بهذا الوهم. تعتمد قوة الدولة المادية في النهاية على عنصر فكري، ألا وهو تقليل الجماهير من شأن قوتها. وقد اعترف نابوليون بأنه يمكننا أن نفعل ما نشاء بالحرب شريطة أن يكون الرأي العام من جانبنا، ومهما كانت وسائل الضغط التي تملكها الدولة البرجوازية، كالرشوة مثلا، فإن التجربة التاريخية قد دلت على أن هذه الوسائل تعجز أمام صمود الجماهير المسلحين فكريا، والشيء الذي يعتد به، أخيرا، هو أن تعي الجماهير بوضوح ألاعيب أعدائها، وأن لا ينجح هؤلاء في خداعها. ولهذا تجعل الماركسية المؤسسات السياسية من بين ظواهر حياة المجتمع الروحية: وليست قوة هذه المؤسسات سوى قوة الأفكار. ويمكن لهذه القوة أن تصبح مادية شريطة أن تتملك هذه الأفكار الجماهير وتسيطر عليها.
وبالنتيجة فأن النضال السياسي يتضمن بالضرورة النضال الفكري، وهو النضال ضد الأفكار التي تؤيد سياسة العدو الطبقي، والنضال من أجل إزالة العراقيل الفكرية التي تمنع الجماهير من الاتحاد في النضال السياسي ضد الدولة البرجوازية.
يبرهن هذا التحليل، مرة ثانية، على أنه يجب أن يقود نضال البروليتاريا الطبقي طليعة واعية منظمة في شكل قوة سياسية مستقلة، هي الحزب السياسي الذي يعتمد على نظرية فكرية طبقية، للنضال الثوري، الذي يعكس بصورة علمية، مصالح الطبقة العاملة الحيوية المباشرة ومصالح المجتمع بأكمله.
يتبع