السودان: الديناميكية السياسية وصعود الجيش للسلطة السياسية واحتكارها (1-2)


محمود محمد ياسين
2024 / 3 / 22 - 02:18     

توطئة
في وسط أحداث الحرب الدائرة الآن بين الجيش السوداني ومليشيا الدعم السريع برزت أصوات تغالى في تمجيد الجيش تقودها الحركة الإسلامية التي تعمل القوات المسلحة على اتخاذها ذراعا سياسيا لها ووضعها في السلطة بشكل واسع استكمالا للتقارب بين الكيانين الذى بدأ عقب انقلاب 25 أكتوبر 2021 الذى قام به الجنرال البرهان. وفى جانب آخر يقود تعظيم دور الجيش شباب يعيشون مرارة خسران الامل في التغيير بعد سرقة انتفاضة 19 ديسمبر 2018 والاجهاز عليها في مهدها باستيلاء اللجنة الأمنية للنظام المندحر على السلطة في 11 ابريل 2019 بالارتكاز على تعاون تنظيم " الحرية والتغيير"؛ ولهذا يجئ موقف الشباب المؤيد للجيش نتيجة لنظرة سياسية غير متقنة (careless) تحركها مجرد حماقة الانتقام ومكايدة كيان "الحرية والتغير"، الذى درج يهاجم الجيش ولا يحمل له ودا منذ إقصائه من السلطة بعد انقلاب 25 أكتوبر 2021. وجدير بالملاحظة، أن الجيش ظل يبادل هذه المواقف بغطرسة درجت على الاستخفاف المخزي بالموطنين وتجاهل مصالحهم والتلكؤ في مساعدتهم للدفاع عن أنفسهم خلال الحرب الحالية بينه وبين مليشيا الدعم السريع، وسنتناول لاحقا في المقال هذه المواقف كأسوب للجيش يمارسه من أجل إحكام سيطرته على الدولة.

وفى كل الأحوال، فان تضخيم دور الجيش ينطلق من فكر لا ينظر للأشياء والظواهر في حالتها المتصلة بالماضي وسبر غور توجهاتها المستقبلية المحتملة. فهذا الفكر يتميز بالنهج الميتافيزيقي الذى ينزع عند تفسير الظاهرات الى النظر في صورة ثباتها وعزلتها وانفصالها عن بعضها البعض. وهكذا فان هذا الفكر يرفض النظر للعلاقة المتبادلة بين مكونات الظاهرات من ناحية تضادها ووحدتها وينتهى الى رؤية جانب واحد من الواقع برد الكل الى أحد اجزائه.

ان الاندفاع المحموم في تأييد الجيش يغيب عن باله التفريق بين الحكم العسكري الذى يتركز القرار السياسي في يده وبين دوره كقوة قتالية تحمى أراضي الوطن ومقدراته. فاحتكار الجيش للقرار السياسي ينطوي على خطورة قفل الطريق امام أي مشاركة ديمقراطية للشعب في اتخاذ القرار السياسي؛ ولا نكل من ترديد مقولة جورج كليمنصو ان ” الحرب شيء أخطر من يعهد قرارها لجنرالات الجيش“. فهي مقولة صحيحة طالما اعتبرنا أن الحرب امتداد للسياسة لكن بوسائل أخرى. وهكذا فان الحرب ليست خطط قتالية فحسب، بل في الأساس قرار سيأسى يتوجب اخضاعه كأي قرار سيأسى لدراسة كل جوانبه. والقرار السياسي عندما يكون في يد القادة العسكريين يخضع للتراتبية التنظيمية، التي يقوم عليها الجيش، المبنية على الانصياع للأوامر! وفى هذا الخصوص نجد ان الجيش، خلال حكمه للسودان لعقود طويلة، لم تكن قراراته المتخذة بالتحالف مع حلفائه المدنيين، تخضع لأى رقابة.

المقال
ان تعبير الديناميكية السياسية الوارد في عنوان المقال يشير للتطورات والتغييرات المتواترة التي تطرا على الوضع السياسي. والتركيبة الطبقية للمجتمع هي العامل الرئيس الذى يحدد مدى الديناميكية السياسية في أوقات معينة وبالتالي تأثيرها على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وهكذا فان جوهر الديناميكية السياسية يشمل، في التحليل النهائي، التوجهات والرؤى السياسية والتحالفات الحزبية التي يصبح ادراكها ذو أهمية قصوى في تحليل (وفهم) مسار التطورات السياسية في مرحلة معينة. وفى هذا المقال، نحاول توضيح تأثير الديناميكية السياسية في صعود الجيش للسلطة السياسية ومن ثم احتكارها.

بداية، نؤكد أنه ” لا مجال للتجريد الذى يتحدث عن سلطة عسكرية مطلقة والتغاضي عن طبيعتها الطبقية اذ أن هذا التجريد يخفى حقيقة نهجها في إدارة الاقتصاد وموقفها من الديمقراطية، أي عن مصالح أي من القوى الاجتماعية يعبر عنها الخطاب السياسي للعسكر. كما أن تجاهل طبيعة حكم الجيش الطبقية يحجب حقيقة توجهه فيما يتعلق بالعلاقات الدولية. فالجيش تشكيل نظامي مسلح في يد القوى الاجتماعية المتنفذة

سياسيا (الحاكمة) لتثبيت سلطتها والزام المحكومين بأفكارها وسياساتها وقمع المعارضين لها اذا ما اقتضت الضرورة ذلك؛ ولديناميات سياسية معينة، ينتقل للجيش القرار السياسي بواسطة هذه القوى. وانتقال القرار السياسي للجيش ظاهرة شائعة في حالة الدول المتخلفة.“ – جميع الفقرات الموضوعة بين قوسين الواردة في المقال مقتبسة من مقال الكاتب ” الجيش السوداني والحرب ضد أشقياء الجنجويد-مقدمة- “

حكم الجيش السودان لمدة 56 عاما ( بالأخذ في الاعتبار السيطرة الكاملة للجيش على الدولة بعد الإطاحة بنظام الإنقاذ في 2019 وحتى الآن)؛ وانتقال الحكم للجيش واحتكاره للفرار السياسي طيلة هذه الفترة تم بإيعاز ومباركة الأحزاب التي تمثل القوى الاجتماعية التقليدية التي تسيطر على الحكم. فقد كانت رغبة هذه القوى التقليدية المحافظة ابتغاء تأسيس سلطة مركزية حازمة وقوية بديلا عن الأحزاب الناشئة في آخر سنوات فترة السيطرة الاستعمارية المنتهية في 1956. فالأحزاب التقليدية السودانية كانت على قدر كبير من الضعف، ينتشر التشاكس المستحكم بينها وبالتالي لم تكن تمتلك القوة لمواجهة الحركة الشعبية والنقابية المطلبية التي ظهرت قوتها منذ من الأشهر القليلة لبداية المرحلة الوطنية كحركة قوية وصعبة المراس بعد أن تصلبت خلال معارك ضارية لها خلال مرحلة الاستعمار الإنجليزي المباشر. وكمثال على حدة علاقة السلطة بالحركة الشعبية، المواجهة الدموية بين المزارعين وبين السلطة الوطنية (مذبحة جودة-1956) بعد أسابيع قليلة من زوال الحكم الاستعماري البريطاني على السودان. كما جاء اللجوء لحكم السودان بالقوة العسكرية الباطشة نتيجة لافتقاد الأحزاب التقليدية للرؤى الثاقبة والنظرة الشاملة التي تمكنها من إدارة السودان الذى يتميز بمساحته الهائلة والتعدد الكبير في مكوناته القبلية والاثنية.

كذللك فان التوجه، الذى انتهجته القوى الاجتماعية التقليدية وريثة حكم الاستعمار المباشر والمرتبطة بمصالح الدول الخارجية، تسبب في ان يظل الاقتصاد تابعا. وقد أسفرت هذه التبعية عن صعود الجيش للسلطة السياسية لقهر الشعب الرافض بقوة رهن القرار السياسي والاقتصادي للخارج الذى أدى لإجراءات اضرت كثيرا بمصالحه. وهكذا كان حكم الجيش ملاذا للطبقة الكمبرادورية المتنفذة سياسيا التي ظلت تحكم بصيغة حكم مركزي عسكري/مدنى بيروقراطي اليد الطولي فيه للعسكر. وجل سنوات حكم العسكر كان الجانب المدني المتحالف مع العسكر في السلطة يمثل الأحزاب التقليدية الطائفية والحركة الإسلامية.

كذلك لا يمكن اهمال تأثيرات الانقلابات الرائدة في المنطقة وما مثله حكم العسكر للطبقات المتنفذة كنافذة لفرض سيطرتها المحكمة على بلدانها؛ وفى هذا الصدد كانت التجربة لحركة الضباط الاحرار المصريين دور كبير كأداة غواية الطبقات الحاكمة اللجوء للانقلابات وقفل باب الازعاج و"الدوشة" التي تسببها الديمقراطية (حتى في صورتها الليبرالية الشكلية) وتنظيمات العاملين المطلبية؛ فجمال عبد الناصر تعامل مع مسالة الدستور على أنه ليس أكثر من قصاصة من الورق تتضمن مفاهيم في مجال حقوق الانسان والديمقراطية والعدالة والمساواة الخ، لكنها مفاهيم تم افراغها من أي مضمون اجتماعي، ولم تُستخدم الا للتماهي مع ذيوعها وسط شعوب العالم وما تتطلبه المواثيق الدولية. كما صور دعاة القومية العربية عبد الناصر بطلا ضد الاستعمار استطاع هزيمة العدوان الثلاثي الذى في واقع الامر حسم نتيجته الرئيس الأمريكي أيزنهاور لصالح الاستراتيجية الامريكية آنذاك الهادفة إلي ان تملا أمريكا الفراغ الاستعماري الذى حدث نتيجة افول نجم إنجلترا وفرنسا.

إن انتقال القرار السياسي للجيش ”لا يبطل خصوصية الجيش كجيش، فالجيش لا تنتفى صفته كجيش اذا ما صعد للسلطة السياسية. فالجيش كيان مبني على ركائز عسكرية ثابتة تتمحور حول نظام قيادة تراتبي (hierarchical command system) قائم على امتثال المرؤوسين لأوامر الرؤساء.“ ان مهمة الجيش هي أن يكون تابعا وخادما لتامين الدولة، التي أنشأته ابتداً، وما تناسل عن هذه الدولة من نُسخ لأنظمة حاكمة كررت (replicated) الأساس الجوهري للحكم. وقوانين الجيش لا تسمح بتكوين خلايا لأي من الكيانات سواء كانت سياسية أو جمعيات اجتماعية، الخ، ولا بالتمرد أو الانقلاب. وأي تحرك للضباط المنتمين للجيش السوداني لاستلام السلطة تطيح به ” الاستخبارات العسكرية“ ، و”المجلس العسكري الإيجازي العالي“ يقوم بتنفيذ الاحكام الفورية (السجن أو الإعدام) على قادة التحركات السياسية الانقلابية الفاشلة؛ وكمثالان، من بين العديد من الأمثلة، فان الضابط عبد الرحمن إسماعيل كبيدة تم سجنه اثر محاولته الانقلابية الفاشلة في 1957 ، كما جرى اعدام الضابط هاشم العطا عقب فشل انقلاب ( 1972). وفى حالة نجاح الانقلاب يلجأ الانقلابيون لنقل القرار السياسي اليهم باسم الجيش اعتمادا على نظام التراتبية العسكرية. ولمزيد من الإيضاح، فالنقطة هنا هي أن (الثابت) هو أن القوانين العسكرية التي تحفظ النظام التراتبي للجيش لا تحارب انتقال الصراع السياسي في المجتمع (وهو متوقع دوما) على الجيش فحسب، بل تمنع عمل القوات النظامية كتنظيم سياسيي عادى.

كما نجد ان نظام القيادة التراتبي عادة ما يؤدى الى أن يأخذ حكم الجيش الشكل الأوتوقراطي، والى احتمالية حدوث التناقض بين السلطة العسكرية وبين الكيانات المدنية التي تتحالف معها. وبينما يكون الحليفان العسكري والمدني متوافقين أيديولوجيا ومنسجمين سياسيا، الا أن حسم أي تناقض بينهما تكون نتيجته لصالح الجيش لسطوته العسكرية. وفى هذا السياق نجد بعض النظريات التي ترى أن السياسيين في البلدان الموبوءة بالانقلابات العسكرية يروجون الى ان أي نجاح لعملية التحول ديمقراطي تتطلب السيطرة المدنية على المؤسسة العسكرية. لكن النقطة هي، ما هو التوجه الفكري والسياسي للقوى المدنية التي تضطلع بمهمة تأسيس الجيش والسيطرة عليه. إن هذه النظريات تغفل أن تأسيس الجيوش عادة ما يتم تحت توجيه القوى الاجتماعية الحاكمة من منطلق أن يكون تحت سيطرتها لضمان سيادتها السياسية وحماية توجهاتها الفكرية. فمن التجربة العالمية نجد أن كل الأمور المتعلقة بالجيش الإنجليزي تقع من ضمن مهام البرلمان، وحتى سلطة اعلان الحرب على دول أخرى، التي يحتفظ بها الملك، يمارسها عمليا رئيس الحكومة والبرلمان. وفي أمريكا فان المؤسسين لجمهوريتها منحوا في الدستور صلاحية تأسيس وتوسيع الجيش للكونجرس. وفى روسيا استبدلت ثورة 1917 الاشتراكية العظمى في 1917 الجيش الإمبراطوري الروسي بالجيش الأحمر. أما ماو تسي تونج فقد أعلن تأسيس جمهورية الصين الشعبية في 1949 تحت حماية جيش ثوري شكله من مئات الألاف من الجنود.

نواصل وفى الجزء الثاني من المقال نتناول المشاهد والاحداث والمواقف التي تعكس استماتة الجيش في الاحتفاظ بالسلطة السياسية في السودان واحتمالية ( likelihood) حدوث التناقض بين الجيش والكيانات المدنية التي يتحالف معها بحكم تكوينه، الذى على عكس الكيانات الحزبية المدنية، كمؤسسة احترافية تسيرها تراتبية قائمة على أوامر تأتي من أعلى إلى أسفل.