رؤيا


محمد نجيب وهيبي
2024 / 3 / 21 - 22:16     

رؤيا...
صافرة شرطي المرور تقطع ضجيج زحمة السيارات الخانقة و أبواقها التي تئِنُّ من كثرة إحتجاجات السّائقين المتشنجين و ابواق سيارات الشرطة تُلهب المشهد بصياط أصواتها القاسية ...
فتح عينيه على سماء مزدحمة بِسُحُبٍ حمراء قانية بلون الدّم ، إرتعب للمشهد و خفق قلبه وَجَلاً ، اراد أن يُشيح بوجهه فأبت رقبته عليه ذلك ، حاول إغلاق عينيه دون هذا المشهد فلم يَجِدْ لَهُما جفنان أم هُما رُبّما قد شفّا ...
- ولكن مهلا لِما أنا مُلقى على ظهري ؟؟
" رحمان يا رحمان هذا عبدك واليوم يا رحمان قاصد فضلك "
- اللعنة مالذي يحدث ، لما لا يمكنني الحركة ؟ ...
" رحمان يا رحمان هذا عبدك ..."
إنّه يسمع جيّدًا ويعي كل الازدحام والضجيج المحيط به ، إنّها جنازة حتْمًا في قلب زحمة المرور ، ولكن الضجيج والازدحام في داخله أكبر ، لما لا يستطيع الحركة او حتى الالتفات ، أين ذهب جفناه ؟ لطالما أسعفاه بإغماض عينه عن الحقائق و لطالما مكّنته رقبته من الإشاحة بوجه عن نصرة المظلوم...
صافرات شرطي المرور ترتفع محتجة قاطعة عليه تفكيره و معها دوي ابواق سيارات الشرطة الآمرة الناهية ...
مهلا ، إنّه مُقيّدٌ بِكفن !!! إنّها جنازته !!! و لكِنّه يعي ما حوله و يسمعهم جيّدًا !!! أم تُرها زحمة المرور والشرطة قد اصابتا عالم ما بعد الموت ؟؟ لا إنّه حيٌّ قَطعًا !!! إنَّهُم مخطِؤون !! اراد أن يَصْرُخ " إنني حيّ" ، ولَكّنّه إكتشف كمامة محكمة على فمه !! ولكن هل يُكمّمُ الميِّت ؟؟ مُنذ متى يُكمّمُ الموتى ؟؟ كاد ينفق قهرًا من عدم قدرته على الصراخ وهو الذي لم يسكت لسانه يوما حقّا او باطلا او تزَلّفا ...
صفير شرطي المرور يزداد تشنّجا ومعه يعلو نفير سيارات الشرطة غضبا بينما تئنُّ بتبرّم وخنوع بعض ابواق السيارات هنا وهناك في احتجاج شبه مكتوم ...
" رحمان يا رحمان هذا عبدك ... "
اراد أن يومئ براسه ، أن يُحرّك يديه او قدميه او إصْبِعًا حتى لِيشير لمن حوله بأنّه حي لطالما أتقن الفكاك من كل إرتباط و عهد و لَكِنّ هذا الكفن اللعين كان مُحكم الإطباق عليه من كل جانب ، اللعنة على صاحب الضمير الذي أتقنه !!!
سيتشقلب على جنبيه، سيلفت إنتباه أحدهم حتما او سيسقط لتتلقّفه الحياة وتنقذه من هذا المأزق ، فقد إحترف التقلّب يمينا يسارا و القفز على الاحداث والمواقف طيلة حياته ...
ضاق صدره حين إكتشف أنه مُلْصَقٌ تماما الى ظهر التابوت !!! ولكن من هذا اللعين الذي يُلْصِقُ ميتا الى تابوته ؟؟؟ ايخافون فراره او تسَرّبهُ من حقيقته وحقيقة مصيره ، لطالما ابدع في الفرار من صورته أمام المرآة ...
ولكن مهلا لما التّابوت عاري بل لما هو مفتوح الجوانب أيضا ؟ لما بخلوا عليه بتابوت يغطي عورة رقاده الاخير ؟؟ بعد أن كان أستاذا في عالمه في تغطية سوءاته !!!
اللعنة متى يصلون به إلى المقبرة ، فإمّا أن يواروه ويريحوه وإما أن يكتشف أنه حي حينها ...
متى يَمًرُّ موكب هذا المسؤول اللعين حتى يتحرّك سيلُ السيارات ومعها جنازته ، إنها وحدها مواكب المسؤولين الهامين ومرافقتهم وحراساتهم من تُثَبّتُ صافرة شرطي المرور على هذا النسق ووحدها من تطلق صياط نفير سيارات الشرطة بِكُلّ هذه الصرامة و تخفت معها ابواق سيّارات المواطنين على مضَضٍ او عن غَلبَة من لا حيلة له ، إنهم وحدهم من يقطعون طريق الأحياء و راحة الجنائز و حتى طُرق الأحياء_الأموات ، لقد اسكتت حتى موكب الجنازة و أصوات التكبير و الدعاء و ...
" رحمان يا رحمان هذا عبدك واليوم يا رحمان قاصد فضلك " ...
مهلا لقد عاد دعاء موكب الجنازة و إختفى شرطي المرور وصافرته وأنقضى صُراخ نفير سيارات الشرطة و عاد ضجيج ابواق سيارات المواطنين وسبابهم و ازعاجهم لبعضهم البعض ، لقد مرّ أخيرا موكب المسؤول اللعين الثقيل ، ستتحرّك جنازته اخيرًا ، تنفسّ الصّعداء وزال ثقل عن صدره ...
ولكن مهلا إنّه لا يتحرّك ، بل حتى إن موكب جنازته قد تفرّق في الزحام كُلّه وتاه في ضجيج الطريق ، الّا من واحدٍ فقط نظر اليه بنصف عين وابتسامة صفراء وغاب بين السّحُب الحمراء القانية ...
صرخ بأعلى صوته " إنني حي " ، فأختفت الكمامة عن فمه فجأة و معها الكفن و آفاق على بوق سيارة خلفه " تحرّك يا اخي لقد عبر الموكب وفتح الطريق" ...
أدار محرّك سيارته وقصد وجهته وقد مهموما تلبّد العرق على كل مسام جلده يكْتُم أنفاسها و صل القصر ، عبر بوابة ثم أخرى حتى السّابعة ليجد صاحب الضحكة الصفراء بوجه أحمر من الرخاء جالِسٌ خلف مكتب مُستطيل بائس لا حياة ولا رونق فيه رغم بذخه الواضح لِيُخْبِرَه أنه بعد دراسة ملفّ حياته بدِقّة تم إختياره ليكون مسؤولا مُهِمًّا في البلاد لا يلوي عصا الطاعة في أيدي اسياده " يسمع ويرى ولا يتكلّم ولا يتحرّك الا بأمر "