الواقع السياسي الراهن ومهام اليسار


جمال براجع
2024 / 3 / 19 - 10:12     


تقديم:
لا يمكن لأي متتبع موضوعي للواقع السياسي الراهن في المغرب في أبعاده المختلفة السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلا أن يخرج بخلاصة أساسية وهي أن البلاد تغرق في دوامة أزمة شاملة وخطيرة يعمقها النظام المخزني بتنفيذه للسياسات النيوليبرالية المتوحشة المملاة عليه من طرف المؤسسات المالية الامبريالية مما يجعل مستقبل البلاد يتجه نحو المجهول.
وفي مواجهة انعكاسات هذه الأزمة يتصاعد النضال العمالي والشعبي في ظل تشتت وضعف القوى المناضلة وضمنها قوى اليسار المفروض فيها قيادة هذا النضال.
إن المسؤولية التاريخية والسياسية أمام شعبنا تفرض على قوى التغيير أن تنتفض على واقعها وأن تنخرط في معركة التغيير بروح وحدوية وبأفق واضح وهو تحقيق التحرر الوطني والديمقراطية.

1-أزمة بنيوية عميقة وشاملة تكتوي بنارها الطبقة العاملة والجماهير الشعبية:
- يعيش المغرب في ظل أزمة خطيرة وشاملة. وهي ليست ظرفية كما يتم الترويج لذلك من طرف النظام وأبواقه. بل هي أزمة بنيوية مرتبطة بالطبيعة التبعية للرأسمالية السائدة بالمغرب، تعمقها الطبيعة الاستبدادية للنظام السياسي المخزني السائد ببلادنا: الممثل والخادم الأمين لمصالح الكتلة الطبقية السائدة والرأسمال الامبريالي وخصوصا الفرنسي. وتتعمق هذه الأزمة يوما بعد يوم بسبب تأثيرات أزمات الرأسمالية واضطرابات الأسواق الدولية بسبب حرب أكرانيا والحرب الامبريالية الصهيونية على الشعب الفلسطيني، بالإضافة إلى تداعيات الجفاف وزلزال الجنوب...
فنحن إذن أمام أزمة حادة وخانقة لن يستطيع النظام بسياساته الطبقية معالجتها، بل سيزيد في تعميقها بسياساته النيوليبرالية المتوحشة ذات الإجراءات التقشفية القاسية، المملاة من طرف المؤسسات المالية الامبريالية وعلى رأسها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، و المستهدفة ضرب ما تبقى من الخدمات الاجتماعية العمومية عبر تسليعها وتفويتها للقطاع الخاص وإلغاء صندوق المقاصة وفرض التوظيف بالعقدة وإطلاق يد الرأسماليين الاحتكاريين للاستحواذ على كافة الأنشطة الاقتصادية والخدمات العمومية كالتعليم والصحة وأراضي الجموع...
ولا تظهر أية مؤشرات واقعية لقدرة النظام على التخفيف من هذه الأزمة. فالركود الاقتصادي متواصل حيث نسبة النمو المحتملة لن تتجاوز حسب أكثر المتفائلين 2 في المائة. ونسبة التضخم مستمرة مما يجعل كلفة المعيشة تزداد ارتفاعا بالنسبة للفئات الفقيرة والوسطى. هذا بالإضافة إلى تسارع التبعية واقتصاد الريع والاحتكار والمضاربات والفساد والرشوة وغيرها ، مما يعني أن الفقر والبطالة والهشاشة سيواصلان التصاعد، والفوارق الطبقية ستزداد تعمقا ( أقل من 10 في المائة يحتكرون أكثر من 63 في المائة من ثروات المغرب). وما الشعارات المخزنية حول الدولة الاجتماعية والتنمية والدعم المباشر سوى شعارات ديماغوجية زائفة لن تصمد أمام مأساوية الواقع الاجتماعي. والاقتصادي للأغلبية الساحقة من الشعب المغربي.( الرتبة 123 في سلم التنمية البشرية عالميا).
وكعادته لا يجد النظام أمامه من حلول للأزمة على المستوى الاقتصادي سوى المزيد المديونية مما سيعمق التبعية وفقدان السيادة الوطنية، وعلى المستوى السياسي سوى المزيد من إغلاق الحقل السياسي والإعلامي وتكريس الحكم الفردي المطلق ودعائم الدولة البوليسية بتضخيم الأجهزة الأمنية قصد الضبط الاجتماعي والقمع السياسي للمعارضين من اعتقالات ومحاكمات وحصار للقوى المعارضة. يتم ذلك في إطار ديمقراطية شكلية تؤثثها مؤسسات شكلية وأحزاب مخزنية موالية. مؤسسات وأحزاب منبطحة فاسدة أصبحت مرتعا للفساد والمفسدين حيث تختلط السياسة بالريع ونهب المال العام والرشوة والاتجار في المخدرات والاتجار في البشر...فاقدة لأية شرعية، وهو ما تؤكده، مرة أخرى، المقاطعة الشعبية العارمة للانتخابات البرلمانية الجزئية التي جرت مؤخرا في عدة أقاليم.
كما أن النظام لا يجد من سبيل لحماية نفسه سوى المزيد من الارتماء في أحضان الامبريالية بالانصياع لسياساتها النيوليبرالية خدمة لمصالحها، ولمواقفها في القضايا الدولية والاستمرار في سياسة التطبيع مع الكيان الصهيوني ضدا على إرادة الشعب المغربي ورغم حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي التي يمارسها هذا الكيان في حق الشعب الفلسطيني.
إن هذه الأزمة البنيوية الشاملة وما يرافقها من هجوم رأسمالي مخزني على مكتسبات الشعب المغربي وعلى الحريات العامة يجعل من الأوضاع الاجتماعية أكثر احتقانا وقابلة للانفجار في أية لحظة.
2-مقاومة شعبية متواصلة في وجه الهجوم الرأسمالي المخزني:

- في ظل هذه الازمة يشتد الصراع بين قطبي التناقض الرئيسي: بين الكتلة الطبقية السائدة ونظامها المخزني والامبريالية من جهة، والطبقة العاملة وحلفاؤها من الطبقات الشعبية من جهة أخرى، وهو يشمل كافة المناطق والقطاعات. وتتفاوت حدته من فترة إلى أخرى، ومن منطقة لأخرى ومجال إلى آخر. ويتجلى هذا الصراع حاليا في قطاع التعليم الذي شهد منذ مطلع الموسم الدراسي حراكا قويا غير مسبوق ضد محاولة النظام تمرير قانون أساسي طبقي مجحم، وحراكات ونضالات شعبية خصوصا في المناطق المهمشة من أجل الحق في الأرض والماء والخدمات العمومية...ومن أبرزها حاليا حراك فكيك ضد خوصصة قطاع الماء التي تندرج في إطار المخطط الرأسمالي الهادف إلى تفويت قطاع الماء عبر شركات الجهوية لتدبير الماء والكهرباء والتطهير السائل، ونضالات ضحايا الزلزال من أجل الحق في الاستفادة من التعويضات والدعم والإيواء والخدمات الاجتماعية وإعادة الإعمار، وضد سياسة الإهمال والتماطل والارتجال...دون نسيان النضالات العمالية في مختلف المناطق والقطاعات ومن أجل الحقوق والدفاع عن المكتسبات كنضالات عمال/ات سيكوميك بمكناس –اكثر من سنتين من النضال ضد الطرد واغلاق الشركة/ المتابعة القضائية في حق مناضلات/ين- عمال كوباك جودة والعمال الزراعيين بسوس والغرب وبركان ... وطلبة الطب والمعطلين ...
- ومن نقط ضعف هذه الحراكات والنضالات الشعبية هي كونها مشتتة، وهي في الغالب عفوية دفاعية تأتي كرد فعل على تردي أوضاع الجماهير أو للتصدي للإجراءات التعسفية للدولة أو للمطالبة بحقوق اقتصادية أو اجتماعية أو نقابية... وتفتقد للقيادة والتوجيه السياسي مما يجعلها قابلة للاختراق والإجهاض في ظل اختلال موازين القوى لصالح النظام والكتلة الطبقية السائد كما حدث للحراكات السابقة في الريف وجرادة وزاكورة وغيرها، وفي ظل غياب جبهة سياسية شعبية قادرة على تغيير تلك الموازين لصالح التحرر الوطني والتغيير الديمقراطي الحقيقي، وفي ظل أزمة اليسار الذي من المفروض أن يكون دينامو وقائد هذه الجبهة.
3- اليسار ومهام التغيير:
إن التحليل الملموس لواقع الصراع الطبقي في المغرب يؤكد بوضوح أن العائق الرئيسي أمام تحرر وتقدم شعبنا هو النظام المخزني والكتلة الطبقية السائدة المرتبطة بنيويا برأسمالية المركز الامبريالي. مما يفرض ضرورة حل التناقض بين هذه الكتلة الطبقية ونظامها السياسي من جهة والطبقة العاملة ومجموع الطبقات الشعبية من جهة أخرى. وحل هذا التناقض يتم عبر سيرورة سياسية تاريخية تندمج فيها الطبقة العاملة المنظمة سياسيا في حزبها السياسي المستقل مع الطبقات الشعبية وتعبيراتها السياسية في إطار الجبهة الشعبية الواسعة/ جبهة الطبقات الشعبية.
ويلعب اليسار، سواء الثوري أو الديمقراطي، الدور الأساسي في سيرورة حل هذا التناقض إذا تحمل مسؤوليته التاريخية والسياسية في تأطير الطبقة العاملة والجماهير الشعبية في خوض الصراع الطبقي بمضمونه التحرري والديمقراطي.
لكن واقع اليسار اليوم المتسم على العموم بالضعف والتشتت والانقسام والصراعات البينية والعزلة عن الجماهير لا يؤهله للقيام بهذا الدور مما يفرض العمل الجدي الفردي والجماعي لتجاوز هذا الوضع. وتجربة "الجبهة الاجتماعية المغربية"، التي هي مكسب للشعب المغربي ولليسار، والتي عقدت عليها آمال كبيرة لتقوية النضال الوحدوي بين القوى اليسارية والديمقراطية ومواجهة الهجوم الرأسمالي المخزني على مكتسبات الشعب المغربي، تبين أن اليسار بصفة عامة لا زال يعيد إنتاج أزمته، وأنه يعاني من خصاص كبير في إرادة النضال الوحدوي مما يفوت على الطبقة العاملة والجماهير الشعبية الفرص للتراكم النضالي في معركة التحرر الوطني والديمقراطية.
وأولى خطوات قوى اليسار لتجاوز هذا الوضع هي:
- الوعي بالدور التاريخي والطبقي لليسار ورد الاعتبار له كقوة فكرية وسياسية واجتماعية فاعلة في المشهد السياسي ووسط الجماهير وتحظى بثقتها من خلال الانخراط في نضالاتها وتمثيلها وتأطيرها والدفاع عن مصالحها الآنية والاستراتيجية.
-رد الاعتبار للفكر الاشتراكي والماركسي كمرجعية لليسار ونشره وسط العمال والجماهير كفكر للتحرر من الاستغلال وهيمنة الفكر البرجوازي بأشكاله المختلفة.
- تقوية وتطوير النضال الوحدوي بين قوى اليسار كضرورة تاريخية وكخيار سياسي لبناء القوة الطبقية والسياسية الضرورية لهزم العدو الطبقي وتحقيق التحرر والديمقراطية والتقدم الاجتماعي.
وتحقيق الخطوات أعلاه يرتبط بفتح حوار ونقاش فكري وسياسي حقيقي بيت قوى اليسار لصياغة أرضية فكرية وسياسية للنضال المشترك في أفق بناء الجبهة اليسارية الديمقراطية على قاعدة خدمة مصالح الجماهير وتحقيق مهام المرحلة في التحرر الوطني والديمقراطية. وهذه الجبهة ضرورية كنواة محركة للجبهة السياسية الشعبية الواسعة.
إن نجاح النضال الوحدوي بين قوى اليسار سيساهم بالتأكيد في دعم النضال أجل وحدة جميع قوى التغيير المعارضة للنظام القائم والمتواجدة ميدانيا في ساحة النضال، وتوطيد العلاقات فيما بينها وتطوير الحوار فيما بينها في أفق بلورة برنامج سياسي واجتماعي واقتصادي حد أدنى يكون الأرضية السياسية للنضال المشترك من أجل التغيير.
وتشكل "الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع"، كإطار وحدوي بين قوى التغيير المختلفة، نقطة ضوء منيرة كتجربة ناجحة لحد الآن، تبين أن النضال المشترك بين اليساريين والإسلاميين المعارضين للنظام ممكن شريطة توفر الإرادة السياسية. وهي تجربة مستلهمة من دروس حركة 20 فبراير المجيدة ومن التحديات التي تفرضها موازين القوى الحالية والمائلة بشكل كبير لصالح النظام والكتلة الطبقية السائدة.
إن من شان استلهام روح هذه التجربة الوحدوية توسيع أفق تفكيرنا السياسي الجماعي في اتجاه فتح آفاق جديدة للنضال الوحدوي بين قوى التغيير تمس قضايا التحرر الوطني والتغيير السياسي والاقتصادي والاجتماعي ببلادنا. وما يبعث على التفاؤل هو الإشارات السياسية الإيجابية في كلمات ممثلي القوى السياسية في الجلسة الافتتاحية للمجلس الوطني للجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع" والتي أكدت على أهمية تعزيز النضال الوحدوي وتوسيعه ليشمل المعارك الأخرى للشعب المغربي.
إن شعار " الهجوم الوحدوي" الذي يتبناه حزب النهج الديمقراطي العمالي تكتيك سديد يقوي ويعزز مكانته ودوره في تقوية وتوسيع النضال المشترك بين قوى التغيير. وسيتقوى هذا الدور أكثر بالتقدم في سيرورة بناء الحزب المستقل للطبقة العاملة وسيرورة بناء وتقوية التنظيمات المستقلة للجماهير الشعبية وما تتيحه من إمكانيات للتجذر والالتحام بالعمال/ات والكادحين/ات وبالتالي بلترة وتقوية وتصليب الحزب.
خلاصة عامة:
إن النضال الوحدوي بين قوى اليسار وبناء الجبهة الديمقراطية ضرورة استراتيجية في معركة التحرر الوطني والتغيير الديمقراطي الحقيقي، وشرط أساسي لبناء جبهة الطبقات الشعبية، مما يفرض على مكوناته فتح حوارات سياسية بينية وجماعية حول قضايا ومهام التغيير لبلورة البرنامج السياسي للتغيير، ويتطلب منها إطلاق مبادرات سياسية ونضالية وطنية ومحلية حول القضايا السياسية والاجتماعية والبيئية والثقافية لشعبنا مع العمل على تقوية وتوسيع وتفعيل الجبهات الميدانية القائمة كالجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع والجبهة الاجتماعية المغربية، ومواجهة الصعوبات والعراقيل التي تعترضها والتي يجب العمل على تجاوزها عبر طرح الحلول والمبادرات الوحدوية الضرورية والمناسبة.