عن بعض الإيديولوجيا السائدة في الولايات المتحدة


الطاهر المعز
2024 / 3 / 13 - 20:49     

جذور الهيمنة الأمريكية خلال القرن العشرين
صاغت الولايات المتحدة، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، أُسُسَ نظام دولي مناهض للشيوعية، وتبيّن إن هذا النظام الدّولي هو نظام استعماري، تقوده الولايات المتحدة التي أشرفت على سيْر المؤسسات الدّولية، ومن ضمنها الأمم المتحدة، في إطار "الحرب الباردة" التي قَوَّضَتْ مَبْدَأَ حق تقرير المصير الذي كانت الشعوب المستعْمَرة تناضل من أجله، بل نظّمت الولايات المتحدة الإنقلابات للإطاحة بأي نظام ديمقراطي مُتّهَم بعرقلة مَسار الهيمنة الأمريكية على العالم، وقبل انهيار جدار برلين (تشرين الثاني/نوفمبر 1989) ببضعة أشهر (منتصف حزيران/يونيو 1989) نظّمت الإمبريالية الأمريكية لقاء شبيها بمؤتمر "بريتن وودز" (1944) اتّفِقَ على تسميته "وفاق واشنطن"، صمّمَ مخطّط الهيمنة الأمريكية لفترة ما بعد انهيار الإتحاد السوفييتي، وجمع هذا المخطط بين الأساليب "النّاعمة" عبر منظمات حقوق الإنسان ونَشْر الدّيمقراطية وحرية النساء وما إلى ذلك، والأسلوب العسكري بذريعة حماية الأمن القومي الأمريكي وإزاحة الأنظمة الدّكتاتورية وغيرها من الذّرائع الواهية، والهدف واحدٌ من الأسلوب "النّاعم" والأسلوب "الخشن"، وهو ترسيخ الهَيْمَنَة الأمريكية وتشكيل نظام عالمي وحيد القطب، بعد انهيار القُطْب السوفييتي...
وجّهت الولايات المتحدة الإستثمار، منذ أواخر القرن العشرين، نحو التّسلّح، إلى جانب كابلات الألياف الضوئية ( 99% من الكابلات الرابطة بين القارات تَمُرُّ عبر الولايات المتحدة ) ورقائق أشباه الموصلات التي تمتلكها الولايات المتحدة وحلفاؤها (تايوان وكوريا الجنوبية وهولندا...)، وتحويل البنية التحتية الرقمية إلى أسلحة تستخدمها – مع نظام "مقاصة" الدولار - لتأديب الحلفاء ومعاقبة الأعداء، ومَنْعِ منافسيها ــ وأهمهم الصين ــ من الوصول إلى التقنيات المتطورة، فيما أصبح يُعْرَف بالحرب الإقتصادية والتّجارية – ما أبْعَدَها عن شعار "حرية التجارة" ومبادئ منظمة التجارة العالمية – بهدف استدامة الهيمنة الأمريكية على قنوات العولمة النيوليبرالية واستخدام شبكات الاتصالات والتّجسس الأمريكية، والدولار الأمريكي لتنظيم عمليات تجسس وكالة الإستخبارات المركزية الأمريكية، ووكالة الأمن القومي (NSA) على المكالمات الهاتفية وسائل الإتصال في جميع أنحاء العالم، ولتتمكن وزارة الخزانة من قطع التمويل الدولي عن أي شخص او أي مجموعة أو دولة في أي مكان في العالم، وتتذرّع الولايات المتحدة بالتهديدات الأمنية الطارئة لتبرير جَمْعِ المعلومات الإستخبارية واستخدام أسلحة الحرب الاقتصادية، عبر إقصاء الدّول من استخدام الدّولار ومن استخدام منظومة التحويلات المالية الدّولية "سويفت"...
لم يكن باستطاعة الولايات المتحدة الهيمنة على العالم لولا التبعية الأوروبية وافتقاد الإتحاد الأوروبي لمقومات الإستقلالية عن الولايات المتحدة، سواء في المجال العسكري ( بسبب انخراط أوروبا في حلف شمال الأطلسي) أو الإقتصادي (بفعل هيمنة الدّولار) أو الدبلوماسي، بسبب افتقاد أوروبا إلى مُقومات السيادة التي تمكّنها من إقْرار نهج مستقل عن الولايات المتحدة، وتجسّدت هذه التبعية خلال إقرار العقوبات على إيران ثم روسيا والصين ومن خلال الموقف من الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني...
الوضع الدّاخلي الأمريكي
جرت العادة أن يلقي الرئيس الأمريكي كل سنة خطابًا عن "حالة الإتحاد" (الولايات الأمريكية المتحدة) وأكّد خطاب جوزيف بايدن لهذا العام ( 2024) إن الإمبريالية الأمريكية لا يمكنها الإستمرار بدون عَسْكَرَة العلاقات الدّولية وإطلاق الحروب والإبادة الجماعية، وأصبحت الولايات المتحدة تعتمد على حلف شمال الأطلسي لشن حروب عديدة في ذات الوقت بذريعة حماية "الأمن القومي" الأمريكي الذي يمتد من فنزويلا وكوبا إلى أوكرانيا وتايوان وسوريا والبحر الأحمر وإفريقيا، ولتغطية نفقات الحرب أكّد جوزيف بايدن ضرورة توفير ما لا يقل عن مائة مليار دولار إضافية لتمويل الحرب في أوكرانيا، بينما ازداد عدد من فقدوا الرعاية الصحية ب16 مليون أمريكي خلال سنة واحدة (من آذار/مارس 2023 إلى نهاية شباط/فبراير 2024) من بينهم أربعة ملايين طفل، بعد انتهاء برنامج توسيع نطاق الرعاية الصحية خلال جائحة كوفيد-19، وإذا كانت الدّولة الإتحادية الأمريكية تُهْمِلُ مواطنيها الفقراء، فكيف يمكن لها الرّفق بفقراء فلسطين أو اليمن أو سوريا؟
قُدِّرَ عدد الأميركيين الفقراء وذوي الدخل المنخفض بنحو 135 مليوناً سنة 2022 ويُطالب العاملون برواتب منخفضة منذ سنة 2015 رفع الحدّ الأدنى من 7,25 دولارا لكل ساعة عمل إلى 15 دولارا، ومعظمهم عمال بشركات عابرة للقارات (ماكدونالدز أو كوكاكولا أو وول مارت...) ومنذ بداية سنة 2024، أطلقت جمعيات الفقراء والعُمّال ذوي الأجور المنخفضة حملةً شملت 31 ولاية أمريكية لتعبئة وتنظيم الفقراء وذوي الدخل المنخفض، بالتوازي مع حملة الإنتخابات الرئاسية، وتقديم خطط لمواجهة الفَقْر باعتبار رابع عوامل الوفاة في أمريكا، وقد يرتفع عدد الموتى من الفقراء بسبب إغلاق المستشفيات أو تقليص خدماتها في الأحياء الفقيرة، وانتشار شبكات المصحّات الخاصة، في ظل ارتفاع عدد الأمريكيين الذين يُؤجّلون أو يلغون الفحوص أو شراء الأدوية بسبب الإفتقار إلى المال، وبلغت نسبتهم 28% من الأمريكيين سنة 2022، وبلغت الدّيون التي اقترضها الأمريكيون من أجل العلاج 220 مليار دولارا، سنة 2021، فيما انخفض متوسط العمر المتوقع للفقراء ب13 سنة مقارنة بالأغنياء، خلال أقل من أربعة عقود، وسوف يسوء الوضع الصحي للفقراء ومنخفضي الدّخل من العاملين، بعد تصويت أعضاء الكونغرس على تخفيضات في برنامج التغذية التكميلية الخاصة للنساء والرضع والأطفال (المعروف باسم WIC) ) وهو برنامج تم إقراره لمساعدة الأمهات والأطفال حتى سن الخامسة في الوصول إلى المواد الأساسية مثل الفاكهة والخضروات وحليب الأطفال، ويربطهم بموارد الرعاية الصحية، وهو في الواقع دعم مباشر لكبار الفلاحين حيث تشتري الدّولة فائض إنتاجهم لتوزيعه على الفُقراء الذين تُوجّههم مؤسسات الرعاية الإجتماعية والصّحية إلى هذا البرنامج للتخفيف من وفيات الأمهات والرّضّع...
بموازاة خفض الإنفاق على المرافق العامة، ارتفع الإنفاق العسكري الحقيقي إلى حوالي 1,54 تريليون دولارا سنويا، لو يتم إدماج تكاليف المستحقات والعلاج والتأمين على حياة قدماء المحاربين القدامى، والتأمين الصحي العسكري، والحصص العسكرية في نفقات الفضاء، ودعم الدّول الصديقة للإمبريالية الأمريكية (مثل الكيان الصهيوني) وتُدْرَجُ هذه النفقات ضمن الإنفاق الفيدرالي، وليس ضمن نفقات وزارة الحرب، فضلا عن الإنفاق "خارج المُوازنة" لفائدة التجسّس والإستخبارات العسكرية والعمليات السّرية الخاصة...
تُؤَدِّي النزعة العسكرية الأمريكية إلى دعم الإبادة الجماعية في فلسطين، لاستكمال ما بدأه الإستعمار البريطاني قبل النّكبة، بل رَوّجت الحكومة ووسائل الإعلام الأمريكية و"الغربية" بشكل عام الأكاذيب والادعاءات التي لا أساس لها، بهدف إضفاء الشرعية على عمليات الإبادة الجماعية للفلسطينيين، والإعتراض بمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة على وقف المجازر والدمار الناجم عن الأسلحة الأمريكية للدمار الشامل، وهي إحدى أهم أدوات الهيمنة الأمريكية، خصوصًا منذ انهيار الإتحاد السوفييتي حيث تَخَلّت الولايات المتحدة عن ورقة التّوت التي كانت تتغطى بها، واستبدلت النشاط الدبلوماسي بالحرب والإبادة الجماعية والنزعة العسكرية التي لا تزال على رأس جدول أعمال الولايات المتحدة، إلى جانب الحظْر والحصار الإقتصادي...
الحملة الإنتخابية 2024 – هل من جديد؟
تميزت الحملة الإنتخابية الأمريكية سنة 2024 بإهمال العديد من القضايا التي تهم العاملين والكادحين والفُقراء وذوي الدّخل المنخفض، كمسألة العدالة الإجتماعية والإقتصادية والحق في السّكن والرعاية الصحية والتعليم، وتم التركيز على التسابق بشأن خفض الضرائب على الأثرياء والشركات الكُبرى التي حصلت على العديد من المزايا والحوافز الأخرى التي مكّنتها من إخفاء قدر كبير من الأموال في الملاذات الضريبية الخارجية، فضلا عن العديد من الولايات الأمريكية التي تُنافس الملاذات الضريبية الخارجية، ويُؤَدِّي خفض الضرائب على الثروات وعلى أرباح الشركات إلى نقص في الموارد الجماعية التي يتم إنفاقها على البُنْية التحتية والمرافق العمومية والخدمات الأساسية، وقَدّر تقرير نشره "مركز الميزانية وأولويات السياسة" في بداية أذار/مارس 2024 خسائر الميزانية الإتحادية جراء التخفيضات الضريبية بين سنتَيْ 2024 و 2033 بنحو 3,5 تريليونات دولارا...
في مجال السياسات الخارجية، زعمت الولايات المتحدة، المروجة الرئيسية للعولمة، أن العولمة هي ترياق للصراعات، لكن كانت الولايات المتحدة هي المُبادِرة لمُمَارَسَة الحمائية، وهي حفار قبر التجارة الحرة، أما الدولار، الذي تم تقديمه كوسيلة عالمية للتبادل، فتحول إلى سلاح حرب، إذ قامت الولايات المتحدة بعسكرة العلاقات الدولية في المجالين الاقتصادي والسياسي، وحظَرت التجارة والتحويلات المالية والتعامل بالدّولار مع منافسيها وخصومها، ورغم الخطاب المنمق حول التعاون الدّولي فإن استرتيجية "حماية الأمن القومي" جعلت من هيمنة الولايات المتحدة على العالم الهدف الأساسي للسياسة الخارجية الأمريكية، وتراجعت الولايات المتحدة عن نفس قواعد اللعبة التي حدّدَتْها، بذريعة "بناء نظام عالمي أكثرَ حرّيّةً وديمقراطيةً"، لتكون الأولوية المُطْلَقَة للهيمنة الأمريكية على العالم، مهما كان الثّمن ون وبناء نظام عالمي أكثر ديمقراطية.
نموذج من الخرق الأمريكي لقواعد "حرية الأسواق"
أدّت إرادة الهيمنة المُطلقة الأمريكية إلى وضع حوالي ثُلُث الإقتصاد العالمي تحت العقوبات، بنهاية سنة 2023، واستولت الولايات المتحدة على أصول واحتياطيات إيران وأفغانستان وفنزويلا وروسيا، الموجودة في المصارف الأجنبية وهي أموال الصادرات وتخصص الدّول بعضها لتسديد ثمن الواردات، كما شنّت الولايات المتحدة حربًا على شركة غازبروم الروسية، وعلى الشركة الصينية للإتصالات "هواوي" التي كانت تستعد للسيطرة على البنية التحتية العالمية لشبكة الجيل الخامس، ما قد يُهَدِّدُ سيطرة الولايات المتحدة على الاتصالات العالمية ويُعرّض شبكات التجسّس الأمريكية للخطر، وفرضت الولايات المتحدة عقوبات أدّت إلى عَزْلِ شركة هواوي عن الموردين الرئيسيين، مثل شركة تصنيع أشباه الموصلات التايوانية ( TSMC )، وأدت الإجراءات الإنتقامية الأمريكية إلى تراجُعِ حصة هواوي في سوق الهواتف "الذكية" الدّولية من 20 %إلى 4% خلال ثلاث سنوات، وكان هذا القرار الأمريكي رادعًا لحفاء مثل بريطانيا وأستراليا الذين تخلّوا عن خططهم لبناء شبكات الجيل الخامس الخاصة بهم، ولم تكتَفِي الولايات المتحدة بذلك بل أقَرّت، بنهاية سنة 2022، مجموعة من العقوبات على أشباه الموصلات ومَنْع أي شركة أمريكية من توفير الإمدادات لأي شركة صينية مصنعة للرقائق، وضغطت الولايات المتحدة على الحلفاء للقيام بالمثل، لكي تتسع رقعة العقوبات حتى تشكل تهديدًا جِدِّيًّا للتنمية الاقتصادية في الصين، وفق شبكة (سي إن بي سي) التي ذكرت يوم 17 كنون الثاني/يناير 2024 أن واردات الصين من الرقائق انخفضت بنسبة 15,4% سنة 2023، مع اتخاذ الولايات المتحدة مزيدًا من الإجراءات لسد "الثغرات" في نظام العقوبات، غير إن شركة "هواوي" فاجأت العالم بطَرْح هاتف "ذكي" يستخدم أشباه الموصلات الأكثر تقدمًا في العالم...
تستخدم الولايات المتحدة موقعها المهيمن كسلاح لأن هيمنتها تتعرض للتهديد، وخاصة من جانب الصين الصاعدة، لكن العدوانية والتهديدات والإحتلال والعدوان هي من مقومات أي قوة امبريالية فلا توجد امبريالية "خَيِّرَة" أو حتى مُسالمة، ولذا يتوجب مقاومة الرأسمالية ( التي تُفضِي إلى الإمبريالية ) داخل كل بلد رأسمالي وخارجه، وفي البلدان الواقعة تحت الهيمنة، تتمثل أوْلَوِية المَهام في النضال من أجل بناء السيادة السياسية والاقتصادية وتعزيز العلاقات التجارية مع البلدان المجاورة وبالعملات المَحلّيّة والتقليل من استخدام الدّولار واليُورو والين والجنيه الإسترليني، ما يُؤهّل البلدان للقطيعة مع المؤسسات الدولية التي تهيمن عليها الولايات المتحدة مثل منظمة حلف شمال الأطلسي وصندوق النقد الدولي والبنك العالمي...