من أجل ثقافة جماهيرية بديلة-أصول الفلسفة الماركسية-بوليتزر50


عبدالرحيم قروي
2024 / 3 / 13 - 02:55     

أصول الفلسفةالماركسية
الجزءالثاني
تأليف جورج بوليتزر، جي بيس وموريس كافين
تعريب شعبان بركات
الحلقة الخمسون
المادية التاريخية
تابع

وهكذا لا يكون وجود الكنيسة، في عهد الرأسمالية، أثرا باقيا، بل يعني ذلك أن النظام البرجوازي المستغل المضطهد يستفيد من أفكار ومن مؤسسة تتعلق بتكوين اجتماعي أقدم منها كان يسوده الاستغلال والاضطهاد.
ولهذا رأينا البرجوازية، حينما شعرت بالتهديد، أعادت الدين عن قصد وتبنته، بعد أن سخرته لخدمة حاجاتها فقوته ودعمته وجعلته جزءاً لا يتجزأ من البناء الفوقي الرأسمالي ثم أعلنت أن التعليم الديني والتعليم العلماني يتمم كل منهما الآخر. إذ تنص التعليمات الرسمية عام 1887، فيما يتعلق بالمدرسة الابتدائية، على ما يلي:
يتميز التعليم العلماني عن الدين دون أن يناقضه فلا يحل المدرس محل الراهب، بل يضيف جهوده إلى جهوده ليجعل من كل طفل إنسانا شريفا.
فإذا كانت البرجوازية لا تضع جميع بوضعها في نفس السلة فأنها، مع ذلك، تعرف كيف توفق بين كما ناتها!
يجب الإشارة هنا إلى ملاحظة أبداها ستالين: في الوقت الذي يستنكف فيه البناء الفوقي عن القيام بدور الأداة يفقد صفته فلا يعود بناء فوقيا. ولهذا حينما يستنكف أساتذة التعليم العام عن مقاومة أهداف البرجوازية الاستعمارية، تطرد هذه البرجوازية المدرسين الديمقراطيين. وحين لا نعود الشرعية البرجوازية تنطبق على متطلبات الاحتكارات السياسية ولا تعود أداة صالحة بين أيديها لتحقيق مصالحها، تسعى البرجوازية إلى التخلي عن الحريات الديمقراطية البرجوازية ولهذا كان على البروليتاري, عندئذ, أن يحمل لواء الحريات البرجوازية , وأن يتقدم به, لأنه يجد في الديموقراطية البرجوازية أفضل الظروف الممكنة، في النظام الرأسمالي, لنشر أراءه السياسية في الأمة ،.
لا يجب إذن أن نقدر المؤسسات والأفكار بصورة ميتافيزيقية، وإذا كان حقاً أن أصل هذه الأفكار والمؤسسات يحدد طابعها، فأن تغير الظروف التاريخية يحول دورها، بل يجب البحث دائما، بصورة جدلية: في خدمة أية طبقة يمكن لهذه الأفكار والمؤسسات أن تستخدم في وقت معين بسبب تغير الظروف الموضوعية؟
تبدو قوة البناء الفوقي الفعالة، ولا سيما قو ة الدولة، في مرحلة الرمق الأخير للرأسمالية. إذ لا تعود علاقات الإنتاج، في هذه المرحلة، تتفق وطابع قوى الإنتاج. فتقوم الدولة الرأسمالية باتخاذ جميع الإجراءات المفيدة لتثبيتها والوقوف في وجه تطبيق قانون الترابط الضروري بين علاقات الإنتاج وقوى الإنتاج، ولمحاولة أطالة أمد وجود الرأسمالية إلى ما لا نهاية، تصبح الدولة البرجوازية، تساندها الأفكار المناسبة،العثرة الرئيسية لتقدم المجتمع.
ولا يمكن إزالة هذه العثرة من الطريق ألا بنشاط القوى الجديدة الواعي. نعلم من الدرس السابق "الدرس الثاني عشر. المسألة 3" أن هذه القوى الاجتماعية والسياسية تتكون بتحالف البروليتاريا مع الطبقات الكادحة في القرية والمدينة. ونرى الآن أن مثل هذا النضال يهدف إلى تحطيم هذه العثرة، وهي الدولة البرجوازية وإقامة سلطة جديدة سياسية، هي سلطة البروليتاريا التي سيعمل دورها الفعال على تصفية الأساس القديم، والبناء الفوقي القديم. وإيجاد أساس جديد، وبناء فوقي جديد.
وهكذا تقوم الأفكار والمؤسسات، في بعض الظروف التاريخية، بدور فعال. تؤدي المادية الساذجة إلى "النظرية"الخاطئة القائلة بنمو المجتمع الآلي، "التلقائي"
وهي بذلك تبرر، عملياً، السلبية أمام العمل الذي تقوم به الدولة الرأسمالية لتمديد أجل أساسها. بينما الماركسية، على العكس، لا تهمل قط الدور الرئيسي الذي تقوم به مبادرة الجماهير الثورية، والواعي الاشتراكي. كما أنها لا تهمل قط النضال لتنمية النشاط السياسي ورفع مستوى الجماهير الفكري
4– ليس البناء الفوقي مرتبطاً مباشرة بالإنتاج
ليس البناء الفوقي مرتبطا مباشرة بالإنتاج ونشاط الإنسان الإنتاجي. فهو لا يرتبط بالإنتاج إلا بصورة غير مباشرة بواسطة الأساس. ولهذا لا يعكس البناء الفوقي التغيرات التي تحدث على مستوى نمو قوى الإنتاج بصورة مباشرة، بل أثر تغيرات الأساس، وبعد انعكاس تغيرات الإنتاج في تغيرات الأساس. يعني ذلك أن دائرة عمل البناء الفوقي ضيقة محدودة .
تحذرنا هذه الفرضية الماركسية من جميع الذين يهملون علاقات الإنتاج ونضال الطبقات، ويدعون أن "تطور التقنيات" يؤدي رأساً إلى تقدم الأفكار والمؤسسات.
ولقد اعتاد الفكر البرجوازي على ترديد القول بأن تقدم" المدينة الحديثة" المادي يجب أن يتبعه تقدم في الميدان الثقافي والفكري والأخلاقي. ويتيح التكذيب المستمر، الذي يقدمه الاستعمار، لهذا القول، الفرصة لشكوى المثاليين الذين ينتهزون الفرصة لمهاجمة تقدم التقنيات والعلوم.
أن ما يحدد المستوى الثقافي والفكري و الأخلاقي لمجتمع ما هو أساسه الاقتصادي. ولا يستطيع تقدم المعارف التقنية والعلمية أن يغير شيئاً في هذا الأمر. فهو لا ينعكس في البناء الفوقي ألا بواسطة الأساس. وكما أن قوى الإنتاج تنمو في حدود علاقات الإنتاج الكائنة فكذلك يقدر التقدم التقني والعلمي حسب معايير النظرية الفكرية التي تعكس هذا الأساس، فتقدره كل طبقة حسب مصلحتها الطبقية.
مر زمن أعلنت فيه البرجوازية الصناعية أن تقدم العلوم يفضي إلى التقدم المادي والثقافي للإنسانية. وهي في هذا الإعلان إنما تعبر عن إمكانيات نمو الرأسمالية الصناعية في هذه الفترة. غير أن هذه الفرضية – التي كانت فرضية النزعة الموضوعية – في ذاتها خاطئة.
ليس العلم والتقدم التقني، في عهد الرأسمالية المنحطة في خدمة الحاجات الاجتماعية قط، لأنهما في خدمة الربح الرأسمالي، بل أن الأفكار العلمية لا يمكنها أيضاً أن تتسرب كفاية إلى الجماهير فتعمل على رفع مستواها الثقافي، فتسيطر الأفكار البرجوازية الرجعية على الجماهير، كما يحدد البناء الفوقي مستواها الثقافي، فيظل هذا المستوى. حتما، متأخرا عن تقدم المعرفة العلمية. ولهذا كانت نظرية "أ. كومت" التي تعتقد بأن تقدم المجتمع والمؤسسات يتعلق فقط بنشر المعرفة بين الجماهير، نظرية خيالية جاءت بها البرجوازية التقدمية: ولقد دلل تطور الرأسمالية فيما بعد على هلهلتها.
تدلل الماركسية، على عكس النزعة الموضوعية، على أن نضال الطبقات وتغير الأساس الاقتصادي هما اللذان يتيحان للبناء الفوقي الجديد عكس التقدم التقني والعلمي. والطريق الوحيد لرفع مستوى المجتمع الثقافي والفكري والسير نحو تقدم الأفكار والمؤسسات هو نضال الطبقات والثورة الاشتراكية. إذ ليس للإلة ولا للعلم، في ذاتهما، القدرة على الانحطاط بالإنسان، كما أنهما لا يستطيعان الارتفاع به. وهما لا يكفيان لتحديد "المدينة" ولهذا فأن التقدم التقني في الولايات المتحدة لا يمنع من أن تكون الأفكار السائدة، في هذه البلاد، بدلا من أن تعبر عن درجة عالية من المدينة فإنها تقدم كل الدلائل على البربرية الرأسمالية.
إما الاشتراكية، فهي ليست "مدنية تقنية"، ولا هي انتصار النزعة العلمية المغالية. وما سموها الأخلاقي إلا انعكاس للأساس الاشتراكية الذي يولد نزعة إنسانية سامية.ولا يحرم الإنسان الحق النضال الطبقي، بل هو يشارك فيه لأنه يعلم أن هذا النضال هو الوحيد الذي يؤدي إلى نظام اقتصادي واجتماعي يمكن أن تطبق فيه الانتصارات الجريئة التي فاز بها العمل والذهن والإنساني.
5 – الخلاصة
لا يمكن لمجتمع يمزقه تناحر الطبقات أن يعرف حقاً الوحدة الأخلاقية والثقافية. يمكن للطبق السائدة، ولا شك، أن تفرض أفكارها، وأن تتوصل إلى كتم أصوات المضطهدين. وتنعم "بالسلام" ولكنه سلام القبور الذي يضع حداً للحرب بعد أن يكون أحد الفريقين المتحاربين قد فني وزال! فالمجتمع الوحيدة الخالي من تناحر الطبقات هو الذي يعرف حقاً الوحدة الأخلاقية والروحية، فهو لا ينكر قط نضال الأفكار الضروري لتقدم المعرفة.
يوجد في مجتمع كمجتمعنا نوعان فقط من الأفكار متناحران: الأفكار التي تخدم مصالح البرجوازية، وهي جزء لا يتجزأ من البناء الفوقي، ومن جهة ثانية أفكار البروليتاريا التي لا تجد التعبير العلمي عنها إلا في الماركسية.
لا يمكن أن يضاف إلى هذين الضربين ضرب من "الأفكار المحايدة".
غير أن هناك أفكاراً برجوازية متأخرة عن متطلبات الاستعمار الأثيم الفكرية، ذلك الاستعمار، عدو الشعب، والأمم، والإنسان، تلك هي الأفكار البرجوازية العقلانية، المعادية للفاشية، ذات النزعة الإنسانية. حتى إذا ما تناقضت هذه الأفكار مع متطلبات الاستعمار، أعلنت البرجوازية الحرب عليها. فيتضح عندئذ أنه على الطبقة العاملة والقوى التقدمية، أن تحتضنها، وأن تبعث فيه القوة والنشاط، وأن تدفع بها إلى الأمام بتنمية محتواها الديمقراطي.
وهكذا ليس هذان النوعان من الأفكار جامدين ثابتين. بل أحدهما في طريق الإنحطاط، يزداد رجعية يوماً بعد يوم وهو أقل شمولا. بينما يقوى الآخر في نضاله من أجل نزعة إنسانية جديدة.
تقتبس البروليتاريا من الثقافة القومية في الماضي، حسب مصلحتها الطبقية التي لا تنفصل من المصلحة القومية، العناصر التقدمية التي تعكس بصدق الحياة وتكون تراثا من الفن لا يفنى. كما تصد البرجوازية، حسب مصلحتها الطبقية التي تعارض مصلحة الأمة، عن التراث القومي، وعن تراثها الديمقراطي وعن الإنسان نفسه. وليس هناك، ولا يمكن أن يكون، نظرية فكرية محايدة، بل هناك أفكار صنعتها البرجوازية خلال تاريخها الطويل، والأفكار التي تنتج عن النقد العلمي للأفكار الأولى والتي تدفع بها الماركسية إلى الأمام وتتبناها البروليتاريا. إما أن تستطيع هذه الفكرة أو تلك الانتقال من معسكر إلى آخر حسب تطورات نضال الطبقات التاريخي، فأن هذا يدل على أنها ليست محايدة، بل لها محتوى معين ولهذا ترفضها البرجوازية حين تتحول مصلحتها.
أما المهمة التي تقع على عاتق قوى الطليعة، في المجتمع، فهي إعادة تقييم كل التراث الفكري والثقافي. لأن الماركسية هي، في الأساس، نقد لا يترك حجرا على حجر في بناء الماركسية الفكرية. ولهذا لا يمكن أن يكون ماركسيا حقا من لم يتمثل، بصورة نقدية، حضارة الماضي
يتبع