من أجل ثقافة جماهيرية بديلة-أصول الفلسفة الماركسية-بوليتزر49


عبدالرحيم قروي
2024 / 3 / 12 - 00:59     

أصول الفلسفةالماركسية
الجزءالثاني
تأليف جورج بوليتزر، جي بيس وموريس كافين
تعريب شعبان بركات
الحلقة التاسعة و الأربعون
المادية التاريخية
تابع

2 – يتولد البناء الفوقي بواسطة الأساس
يتولد البناء الفوقي عن الأساس. ويزول معه ويكون مصيره مصيره. إذ تتولد الأفكار السائدة، في مجتمع معين من نموذج ملكية وسائل الإنتاج، التي تسيطر فيه. ليس البناء الفوقي، إذن، مجرد تراكم أفكار سياسية، تشريعية، فلسفية، دينية، الخ.. ذلك لأن لهذه الأفكار رابطاً داخلياً: فهي تعكس نفس الأساس. وهكذا يكون الأساس والبناء الفوقي كلا عضوياً. ولهذا فأن البناء الفوقي الأقطاعي مرتبط ارتباطاً وثيقاً في جميع أجزائه بالأساس الإقطاعي. وتكون وحدة الأساس والبناء الفوقي الجدلية محتوى المفهوم الماركسي لتكوين الاجتماعي.
وهكذا يكون البناء الفوقي كلا.وليس هذا الكل أبديا ولكنه كل حي، يولد مع أساسه ينمو معه ويزول أثره.
يطبع وجود الدولة, في المجتمعات الطبقية. جميع حياة البناء الفوقي بطابع خاص. فهو عنصرها المنظم، فهو، مثلا، الذي ينظم التعليم الطبقي.
ويزول البناء الفوقي، ككل عضوي بعد زوال نظام اقتصادي معين. لا يجب إذن أن نخلط بين البناء الفوقي، كفكرة أساسية للمادية التاريخية، وبين أية فكرة أو مؤسسة في نفسها مفصولة عن بناء فوقي معين. لأن كل فكرة حين تدخل في نطاق بناء فوقي جديد، تتحول بعمق، ويصبح لها معنى جديد من الكل الذي أصبحت جزءاً منه. ونسيان ذلك يؤدي بنا إلى النزعة الشكلية (formalisme)
نجد مثالاً ذا مغزى على ذلك في المدرسة الطائفية. زالت عن مسرح التاريخ مدرسة القرون الوسطى، في الوقت الذي زال فيه البناء الفوقي الإقطاعي، على يد البرجوازية الثورية، بعد زوال الأساس الاقتصادي الإقطاعي.
ومن ثم شجعت البرجوازية الفرنسية، في القرن التاسع عشر، المدرسة الطائفية، خوفاً من تقدم البروليتاريا الثوري، ولأنها لم تعد تخشى عودة الإقطاعية، وذلك كي تستخدم هذه المدرسة في أغراضها المناوئة للديمقراطية. غير أنها أعادت إليها الحياة، كعنصر من البناء الفوقي البرجوازي ولهذا حولتها لتجعلها ملائمة لظروف المجتمع البرجوازي .
لا يعني هذا قط أن البناء الفوقي الإقطاعي قد استمر بعد زوال أساسه، بل أن البناء الفوقي الإقطاعي البرجوازي قد تحول باتجاه رجعي، في زمن كانت فيه علاقات الإنتاج الرأسمالية تقدمية فأصبحت رجعية. ولهذا كانت المدرسة العلمانية، التي ورثت السنة الديمقراطية البرجوازية، في مثل هذه الظروف، أحد العناصر التي يمكنها أن تناضل الاتجاه الجديد لهذا البناء الفوقي. وعلى البروليتاريا أن تساندها في هذا النضال .
وهكذا لا يبدو الترابط بين البناء الفوقي وأساسه، في عصور انقلاب طريقة الإنتاج فقط، بل خلال مختلف مراحل النمو ودرجاته في فئة اجتماعية واحدة.
ترتبط الأفكار "التحررية" في السياسة والديمقراطية البرلمانية البرجوازية ) Iiberales) في نظام الرأسمالي، بمرحلة التنافس الحر، بينما ترتبط الرجعية على طول الخط، بمرحلة الاحتكار: فتعلن البرجوازية المحتكرة ضرورة "الدولة القوية" كما تعتدي على شرعيتها الخاصة، وتلقى بالحريات الديموقراطية البرجوازية جانباً. ويلاحظ, في الميدان الثقافي، حركة مزدوجة تتعلق جوانبها المتناقضة بمرحلتي الازدهار والانحطاط في الرأسمالية. إذ نرى في المرحلة الأولى – منذ عصر النهضة حتى أواسط القرن التاسع عشر – الثقافة البرجوازية تنمو وتزداد غنى، بواسطة تمثل نقدي لكل تراث الفكر الإنساني ولا سيما الثقافة القديمة.
كما أنها تصبو لاتخاذ طابع الثقافة الشاملة النهائية. ونرى في المرحلة الثانية الثقافة البرجوازية تلفظ، شيئاً فشيئاً، جميع العناصر التقدمية العقلانية الإنسانية التي كانت تحتوي عليها، ثم تأخذ بالتحلل سريعا. فلا تعود تستطيع احترام ماضيها الخاص. يتلو إذن عملية التمثل النقدي عملية لفظ كل ما تمثلته (discrimination) فتتخلى عن مطامحها في الشمول وعن تراثها الخاص. وتخرج ديدرو من بين الفلاسفة، كما تخرج ميشليه من صفوف المؤرخين، وفيكتور هوجو من زمرة الشعراء "المحض".
نخلص إلى القول في هذا الصدد، أنه لا يجب ، كي نفهم بصورة صحيحة فكرة أو مؤسسة، نعرض لها في ذاتها مجرد عن بنائها الفوقي الذي تنتسب إليه والذي يعكس أساسا معينا. وهذا ضروري، ولا سيما، فيما يتعلق بالدولة، ولهذا كانت فكرة الاشتراكية الديمقراطية المثالية عن الدولة "الوسيط" التي "تعلو الطبقات"، وتجسد "الصالح العام" أكذوبة. كما يصور الديمقراطيون المسيحيون الدولة على أنها تجسيد " للخير المشترك". بينما تظل الدول في الحقيقة – وهي ظاهرة ضرورية تاريخيا، ظهرت مع تقسيم المجتمع إلى طبقات متناحرة – في أصلها وطبيعتها دولة طبقة من الطبقات. ولهذا لا نستطيع التكلم عن ديمقراطية" على العموم وبصورة مجردة، دون أن نتردى في النزعة الشكلية، وهي خطأ علمي. ولهذا كان من الضروري أن نطرح هذا السؤال: ديمقراطية من أجل من؟ من أجل الرأسماليين أم من أجل الشعب؟
ملاحظة: الفوضوية (I’anarchisme) التي لا تزال تؤثر بعض التأثير في الحركة العمالية الفرنسية – هي عقيدة مثالية تجهل طبيعة البناء الفوقي ومهمته. فهي بهذا تجهل أصل الدولة الطبقي وعلاقتها الموضوعية مع الأساس الاقتصادي. بل هي ترى في الدولة ثمرة " لغريزة" السيطرة والقوة التي تكمن في أعماق الإنسان، بينما هي في الواقع ثمرة نضال الطبقات. ولهذا تنكر الفوضوية، في الميدان العملي، ضرورة عمل الطبقات السياسي والفكري لأنها لا ترى أن قوة الدولة الحقيقة هي دعم الشعب لها. وهكذا تؤدي الفوضوية، بتشجيعها عمل الفرد والأقليات، إلى المقامرة، وتصبح أداة للتحدي.
3 – البناء الفوقي قوة فعالة
يتولد البناء الفوقي عن الأساس. ولا يعني هذا أنه يكتفي بعكس هذا الأساس، وأنه سلبي محايد، لا يهمه مصير الأساس، ومصير الطبقات، وطابع النظام الذي يوجد فيه. بل هو، على العكس، لا يكاد يظهر إلى الوجود حتى يصبح قوة هائلة نشيطة، تساعد أساسها على التبلور والتوطد، فتتخذ جميع الإجراءات لمساعدة النظام الجديد للقضاء على الأساس القديم، والطبقات القديمة وتصفيتها.
ولا يمكن أن يكون الأمر غير ذلك. ذلك لأن البناء الفوقي يتولد عن الأساس لكي يقوم بخدمة هذا الأساس ومساعدته بنشاط كي يتبلور ويتوطد،و يناضل من أجل تصفية الأساس القديم البالي وبناءه الفوقي القديم. ويكفي أن يمتنع البناء الفوقي عن أن يقوم بدور الاداة, كما يكفي أن ينتقل من موقف الدفاع النشيط عن أساسه ليتخذ موقف اللامبالي بإزائه، كما يتخذ موقفا مماثلا نحو الطبقات حتى يفقد ميزته فلا يعود بناء فوقيا .
نعلم الآن أن الأفكار هي قوى نشيطة عاملة. غير أن ستالين يلح هنا على القول بأن البناء الفوقي يتولد كي يخدم أساسه ويدافع عنه. حتى إذا ما كف عن خدمة أساسه فقد صفته كبناء فوقي.
البناء الفوقي هو أداة، وثمرة مخطط، ونشاط واع تقوم به الطبقة السائدة. لا تبدع هذه الطبقة الأفكار من العدم. بالأفكار هي انعكاسات.
غير أن كل طبقة تستخدم، عن قصد، الأفكار التي تفيدها.
وصفنا البناء الفوقي ككل منسجم. فما الذي يحدد انتماء فكرة أو مؤسسة إلى هذا الكل؟ فائدتها الطبقية ودورها في خدمة الأساس.
ليس هناك من صدفة في حياة البناء الفوقي، وفي نضال الأفكار، وفي تطور المؤسسات. إذ تنظم البرجوازية بناءها الفوقي حسب مخطط. وهاك مثالا: خطاب الكونت مونتلمبير Montalembert من على منصة المجلس إثناء مناقشة قانون فللو (Falloux) بعد مضي بضعة أشهر على حزيران 1848 قال:
"سأضيف كلمة واحدة كملاك يتحدث إلى ملاكين بصراحة تامة، لأننا اجتمعنا ها هنا، كما اعتقد، كي يقول كل منا الحقيقة للأخر بدون تورية.
ما هي المشكلة اليوم؟ أنها مشكلة بعث احترام الملكية في نفوس الذين ليسوا ملاكين. وأنا لاأعرف إلا علاجاً لبعث هذا الاحترام، وجعل الذين ليسوا ملاكين يؤمنون بالملكية. ألا وهو جعلهم يعتقدون بالله! وليس هذا الإيمان باله مبهم كما تقول النزعة التلفيقية (électisme) أو أي مذهب آخر، بل الإيمان باله كتاب الصلوات (catéchisme)، الآله الذي أوحى بالتوراة، والذي يعاقب السارقين إلى الابد. تلك هي العقيدة الشعبية حقاً التي يمكنها أن تحمي بشكل فعال الملكية.. "
ندرك هنا، على الفور، تكوين البناء الفوقي الواعي، وإضطرار البرجوازية إلى أن تضم مؤسسة قديمة إلى بنائها الفوقي الذي يزداد رجعية.
لم تحرم الكنيسة الكاثوليكية الرق. ولذلك وجد رقيق في أوروبا في القرن الوسيط، في المستعمرات حتى عام 1848، وفي الولايات المتحدة حتى عام 1864.
ولقد علمت الكنيسة الأرقاء أن يطيعوا سيدهم.واضطرت الأسياد المحاربين، حقا، إلى احترام "هدنة الله" وهددنهم بالنار الأبدية. ولكنها باتخاذها هذا الأجراء قد إنقذت. قبل كل شيء، المزروعات الضرورية لحياة المجتمع، كما حفظت الإنتاج وأمنت تفشي المجاعة، واندلاع نار الثورة. وهكذا تحمي، في النهاية، الإقطاعية ضد تصرفات الإقطاعيين "المغالية"، غير أن مطران ريمس كان ينادي قائلا:
"أيها الأرقاء! أطيعوا، في كل وقت، أسيادكم . ولا تحتجوا بقسوتهم أو بخلهم. أطيعوا، ليس فقط الصالحين المعتدلين، بل الذين لا يعرفون الصلاح أو الاعتدال".
تقول تعليم الكنيسة بلغة أولئك الذين يدفعون الرقيق إلى العصيان, ولا سيما أولئك الذين يعلمونهن المقاومة الصريحة .
يضاف إلى ذلك أن الكنيسة حاولت، بواسطة النشرات (Eneyclique) التي أصدرتها في نهاية القرن التاسع عشر، أن تحمي الرأسمالية من "مغالاة" الرأسماليين كانت في الماضي تدعو إلى ضرورة وجود الأسياد والأرقاء في المجتمع، فأصبحت اليوم تنادي بضرورة وجود الرأسماليين والبروليتاريا
يتبع