من أجل ثقافة جماهيرية بديلة-أصول الفلسفة الماركسية-بوليتزر48


عبدالرحيم قروي
2024 / 3 / 11 - 00:36     

أصول الفلسفةالماركسية
الجزءالثاني
تأليف جورج بوليتزر، جي بيس وموريس كافين
تعريب شعبان بركات
الحلقة الثامنة و الأربعون
المادية التاريخية
تابع

البناء الفوقي
------------------------------------------------
1 – ما هو البناء الفوقي
2 – يتولد البناء الفوقي بواسطة الأساس.
3 – البناء الفوقي قوة فعالة.
4 – ليس البناء الفوقي مرتبطاً مباشرة بالإنتاج.
5 – الخلاصة.
------------------------------------------------

1 – ما هو البناء الفوقي
درسنا في الدرس الثاني عشر والثالث عشر مصدر الأفكار ومهمتها في الحياة الاجتماعية: ولقد رأينا أن حياة المجتمع الفكرية انعكاس لحياته المادية. فهل من الصواب إذن أن نطلق كلمة البناء الفوقي (Superstructure) على جميع الأفكار والمؤسسات التي توجد في مجتمع معين؟
نستطيع الإجابة على هذا السؤال بدقة الآن، وقد عرفنا نظريات المادية التاريخية الأساسية.
يوجد في كل مرحلة من مراحل التاريخ، في جميع المجتمعات، جنبا إلى جنب، أفكار مختلفة متناقضة لأنها انعكاس لتناقضات المجتمع الموضوعية. ومع ذلك فلا تتساوى هذه الأفكار في القيمة. منها ما يصبو إلى الإبقاء على المجتمع في أوضاعه القديمة، ومنها ما يسعى إلى تجديد هذا المجتمع، وتكون حركة الأفكار المتعارضة انعكاساً لنضال الطبقات في المجتمعات التي يوجد فيها نضال الطبقات المتعارضة. كما يمكن لنزاع الأفكار أن يتخذ شكلا قاسياً زجريا. وتخلو الاشتراكية من تعارض الطبقات، غير أن النضال بين القديم والحديث موجود وهو ينعكس في النزاع الفكري.
يدرك الناس المشاكل التي تنشأ في زمنهم من خلال نزاع الأفكار الذي يفتح الطريق لاكتشاف حلول يعرضها الواقع نفسه. ولهذا يعتقد المثاليون، كهيجل، أن جدلية الفكرة هي التي تولد الحركة التاريخية.
ولهذا من الخطأ القول بأنه وجدت عصور مباركة، لم تعرف نزاع الأفكار، وحل فيها الانسجام بين الأفكار والقلوب، كما اعتاد بعض المؤرخين تصوير الماضي بصورة ميتافيزيقية. فلقد وجدت أفكار معارضة قضت عليها الطبقات المسيطرة ولم يذكرها التاريخ الرسمي، فلقد هاجم العصر الوسيط، بعنف، الأكليروس والإقطاعيين في مؤلفاته الشعبية اللاذعة سواء كانت خرافات أم أغاني.
أما اضطهاد الأفكار الجديدة، ونزاع الطبقة المسيطرة الفكري المنظم، فهما من ميزات المجتمعات التي يوجد فيها استغلال الإنسان على يد أخيه الإنسان.
ولقد خيل للبرجوازية أنها تشتهر إذا ما أعلنت عن حرية النزاع الفكري، أما الواقع فهو أن الأمر لم يتعد حرية الرأي، ضمن نطاق الفلسفة الفكرية البرجوازية. وهذه حقيقة ستزداد وضوحا مع انحطاط هذه الطبقة.
ولا تستطيع سوى الطبقة القادرة على إزالة التناقضات الطبقية أن تكون رائدة النزاع الفكري الحر. ولهذا يستحيل، في المجتمع الذي يسرع في تقدمه، أي في الاشتراكية، أن لا ينمو النزاع الفكري بشدة.
والمادية التاريخية هي الوحيدة التي تعلم المناضل، كما تعلم العالم أن لا يضيع في معركة الأفكار، وأن يساوي بينها في القيمة، وأن يميز المصالح الطبقية التي تخفيها.
لا شك أن سلطات النظام الرأسمالي تقدم فكرة على أخرى عن طريق الصحافة مثلا. فإذا ما قرأنا في صحيفة أن عدد صغار التجار الكبير هو سبب الصعوبات الاقتصادية، يجب علينا أن نكتشف وراء هذه "النظرية" مصلحة رأس المال الكبير، فهو يسعى، مدفوعا بقانون الربح الأكبر، ميزة الرأسمالية الحالية، إلى تخفيض نصيب بائعي المفرق من فائض القيمة إلى أقصى حد. وإذا ما قرأنا أن أفضل نظام للضرائب هي الضرائب الغير المباشرة، لأن جميع الناس يدفعونها، فأن هذا القول يخفي أيضاً المصالح الرأسمالية، لأن الضريبة الغير المباشرة، التي تفرض على الاستهلاك، تمس أصحاب الأجور والفلاحين والطبقات المتوسطة بصورة اشد مما تمس الرأسمالي.
غير أن هذه الأفكار لا تكتفي بفلسفة النظام الموجود. بل هي وسائل للنضال، فيسعى رأس المال بإذاعتها إلى المحافظة على الوضع المواتي له، كما أنه يهيء الأذهان لتقبل المقررات الجديدة من قوانين وإجراءات سياسية توطد أركان الرأسمالية.
وهكذا تعكس هذه الأفكار، التي تنشرها الطبقة المسيطرة، مصالحها كما أنها تخدم هذه المصالح. ابتدأنا ندرك ما نعنيه بالبناء الفوقي (Superstucture)
وما يصح على فكرة معينة تنشرها الصحافة يوميا، يصح أيضاً على النظريات الفلسفية.كتب انجلز يقول بصدد نظرية كلفن عن القضاء والقدر كانت العقيدة الكلفانية تتفق وحاجات البرجوازية في ذلك العصر. فقد كانت عقيدة القضاء والقدر تعبيرا دينيا إذ كان النجاح والفشل، في عالم المضاربة التجاري لا يتعلقان بنشاط الإنسان أو مهارته بل بظروف خارجة عن أرادته. لم تكن هذه الظروف تتعلق بإرادة الإنسان أو بعمله، بل هي تخضع لقوى اقتصادية عليا مجهولة.
وكان هذا حقا، لا سيما في عصر ثورة اقتصادية حل فيه محل مراكز التجارة القديمة والطرق مراكز وطرق أخرى، كما فتحت الهند وأميركا أبوابها للعالم، بينما أخذت أكثر سلع الثقة الاقتصادية احتراما، بسبب قدمها – كقيمة كل من الذهب والفضة - تنهار .
وهكذا أصبحت مجرد ظاهرة اقتصادية عمل الحكمة الإلهية التي تكتنفها الأسرار. ولقد عانت البرجوازية تجربة المضاربة، غير أن روح العصر الديني كان يخفي عنهم طبيعتها الاقتصادية الصرفة، كما أن فكرة "القضاء" نقلت إلى مستوى النظرة إلى العالم، وأخذت تتسرب إلى الديانة. وأخذ التجار يشكون من آثار المضاربة، وإن عاشوا بفضلها وأثروا. إذ كانوا يريدون المضاربة بدون أثارها. ولكنهم تعزوا عنها بالفكرة القائلة أن الناس يجب أن يعانوا قضاء مقدار عليهم من قبل.
وهكذا وطدت فكرة "القضاء والقدر" الإنتاج التجاري، بعملها على قبول أثار المضاربة في الفئة التي تعيش منها.
كان من الطبيعي أن لا يرضى الإقطاعيون، الذين كانت التجارة البرجوازية تحمل الخراب إليهم، بهذه العقيدة، ولهذا حرمتها الكنيسة الكاثوليكية، سيف الإقطاعية الروحي. غير أن الاقتصاد التجاري، بتنميته لقوى الإنتاج، كان تقدماً على الاقتصاد الاقطاعي. ولهذا قامت النظرية الكلفانية بدور تقدمي بالنسبة إلى عقيدة القرون الوسطى. بينما أصبحت هذه العقيدة، في أيامنا هذه، بالية، لأن نزعتها للإيمان بالقضاء والقدر تتعارض مع الفكرة الثورية القائلة بأن الإنسان سيد مصيره. ولما كانت فكرة كبار أصحاب المصارف البروتستنت فهي لا تسعى إلا لقبول "القضاء والقدر" في الأزمات الاقتصادية والاضطرابات الاقتصادية في الرأسمالية.
يظهر هذه المثال، بصورة بديهية، أنه يمكن لنفس الفكرة أن تحتل، حسب الظروف الاقتصادية، موضعين مختلفين: فهي تستطيع الإساءة، إلى صورة الاقتصادي السائد، وذلك شأن عقيدة "القضاء والقدر" في النظام الأقطاعي، كما تستطيع خدمة علاقات الإنتاج السائدة، وهذا شأن نفس العقيدة في النظام الرأسمالي، ولا نقول عن هذه العقيدة بأنها عنصر من عناصر البناء الفوقي (Ia Superstructure) إلا في الحالة الثانية. وهكذا لا ينطبق لفظ البناء الفوقي على أية فكرة أو مؤسسة، بل هو يتحدد بالنسبة إلى أساس المجتمع الاقتصادي. وهكذا يشمل البناء الفوقي الأفكار والمؤسسات التي تعكس علاقات الإنتاج السائدة فتسود هي أيضاً.
الأساس هو نظام المجتمع الاقتصادي في مرحلة معينة من نموه. أما البناء الفوقي فهو النظرات السياسية والقانونية، والمؤسسات السياسية والقانونية، وغيرها التي تتعلق بهذا النظام.
ولكل أساس البناء الفوقي، الذي يتعلق به ولهذا كان للنظام الرأسمالي بناءه الفوقي ونظراته السياسية والقانونية وغيرها مع المؤسسات المتعلقة به، كما كان للأساس الرأسمالي البناء الفوقي الخاص به، وكذلك للأساس الاشتراكي بناؤه الفوقي الخاص به. حتى إذا ما تغير الأساس أو زال تغير معه البناء الفوقي أو زال، وإذا تولد أساس جديد تولد على أثره بناء فوقي يناسبه .
ولنلاحظ أن المؤسسات السياسية، أي الدولة. هي جزء من البناء الفوقي. وذلك لأن الدولة "تتعلق"، حسب قول ستالين، بالنظرات السياسية والأفكار السياسية السائدة، وهي تنظم حسب المبادىء التي تعكس المصانع الطبقية. الدولة هي صورة تنظيم لسلطة الطبقة الأقوى، تلك التي تشخص علاقات الإنتاج السائدة. فالأساس الاقتصادي هو الأولى ثم تأتي الدولة. وهكذا يتولد التنظيم السياسي عن الأفكار السياسية وهي القوة المنظمة. وليست قوى الدولة، في آخر الأمر، سوى قوة الأفكار التي هي بدورها انعكاس لحيوية الأساس الاقتصادي. وتكمن القوة السياسية في السند الطبقي الذي توفره الأفكار السائدة الدولة، ويمكن تبرير هذا السند الطبقي أو لا يمكن: إذ يمكن للجماهير أن تخدع إلى حد ما من التطور التاريخي، فتكمن قوة سلطة الطبقات المستغلة في الكذب، حتى إذا ما ضعف هذا السند الطبقي ضعفت الدولة: وأصبح استخدام القوة الصريحة على يد الطبقة الحاكمة الدليل على ضعفها ونهايتها القريبة. لأن الأفكار التي تتملك الجماهير هي العامل الفعال
يتبع