سيرْ تْضِيمْ ، وسير حتّى ..


سعيد الوجاني
2024 / 3 / 5 - 15:12     

إذا كانت الحرب هي السياسة بوسائل أخرى في كل اللغات، فان السياسة بدورها هي الحرب بوسائل أخرى.
من شأن هذا التعريف ان ينزع عن السياسة اقنعتها واوهامها ومساحيقها المختلفة . انها فن إدارة الصراع بأساليب وأدوات تمتد من العنف الفزيائي الى العنف الرمزي . والصراع السياسي هو صراع حول المصالح العاجلة والآجلة للأفراد والفئات : مصالح احتياز السلطة ، واحتياز المال ، واحتياز الحظوة والجاه والنفود .
كل سلطة تعرف ان لها حظوة وحظ ، تحكم في مسار المجتمع كله ، وحظوة وحظ تحكم في ثروته المادية والرمزي ، وانها موضع تطلع الجميع ، ورغم انه يفترض انها تمثل المجتمع كله ، والمصلحة العامة ، فان لديها حسا اوليا في التمييز بين مصلحتها ( مصلحة السلطة ) و مصلحة الدولة مما يدفعها الى المزاوجة الرفيعة بين مصلحتها في البقاء والاستمرار ومصالح الدولة .
اذا ما استلهمنا كتابات ماكيافيلي الذي كان اول من استوعب المفهوم الحديث للسياسة وممارسة السلطة ، نستطيع ان نميز بين ثلاث استراتيجيات كبرى للسلطة . ذاتها وتحقق لنفسها الاستمرار ، انطلاقا من تصور ليبرالي للسياسة ، قوامه انها صراع حول الخيرات والسلطات والرموز ، انطلاقا من تصور ليبرالي قوامه انها صراع حول الخيرات والسلطات والرموز ، او بكلمة واحدة صراع مصالح . وهذه الاستراتيجيات الكبرى هي : استراتيجية الشراسة ، استراتيجية الكذب واستراتيجية الوهم .
استراتيجية الشراسة ، هي استراتيجية القوة السافرة ، والصرامة المطلقة ، وهي على النقيض من خطط الضعف ، لأنها تقوم على ان أي تهاون او تنازل او تسامح ، معناه انفتاح ثغرة ضعف في كيان السلطة . فمشاعر العطف والحشمة والحنو ، لا مجال لها في عالم السياسة ، لأنها مؤشر ضعف وحاجة . فكل شبهة تردد او حبة تساهل ، ستقرأ على انها مؤشر ضعف ، يمكن ان يسيل لعاب الطامحين والطامعين . وكل تنازل سيجر وراءه سلسلة من التنازلات ، وهو ما سيفتح باب التداعي والانهيار .
الاستراتيجية الثانية ، هي استراتيجية الكذب والخداع .
تعلم السلطة ، كامل العلم ، ان الكذب ، الذي هو رذيلة أخلاقية ، هو هنا فضيلة سياسية من الدرجة الأولى ، وذلك لأنه كذب وظيفي هدفه تيسير اشتغال وادائية نظام السلطة ، وتمكينه من الاستمرار . والكذب هنا يعني اظهار بعض الأشياء على غير حقيقتها . وبما ان حبل الكذب قصير كما يقولون ، فان ذاكرة الشعب بدورها قصيرة . وفي هذا المجال يستحسن تجنب الكذابات الكبرى ، وتقسيط الكذب الى وحدات صغرى ( كُذيبات او كْذيبات ) .
الكذب السياسي في مظهريه السلبي ( الانكار والاخفاء ) ، و الإيجابي ( الادعاء والاظهار ) ، من حيث هو رواية غير مطابقة للواقع ، يستهدف تجميل وجه السلطة وتحسين صورتها ، بإخفاء ما هو شاذ وقبيح او غير مقبول . فالأكاذيب قد اعتبرت في زمننا هذا بمثابة أدوات ضرورية ومشروعة ، ليس فقط بالنسبة لمهنة رجل السياسة او الديماغوجي ، بل أيضا لرجل الدولة . فالسياسة والسلطة ليستا مملكة الحقيقة ، وربما لم تكن كذلك في يوم من الأيام .
اما الاستراتيجية الثالثة ، فهي استراتيجية الوهم والايهام . فالمعطى الأساسي في عصرنا هذا ، هو الطفح الديمغرافي الهائل . وهو علة عدم التوازن بين الخيرات والبشر . فالتفاوت بين الناس في الأنظمة الليبرالية المعاصرة ، ليس فقط حتمية طبيعية او اقتصادية ، بل ربما كان ضرورة وحاجة أيضا . وبما انه من المستحيل في ظل هذا النظام إرضاء الجميع ، وعلى الأخص الطبقات الدنيا ، وتحقيق الاشباع للجميع ، وتوفير السكن والاستشفاء والتعليم لكل الناس ، فان دغدغة الاحلام ، والوعد بالجنة الأرضية ، يفرض نفسه كإحدى الاليات الأساسية لشد الناس الى النظام السياسي ،باعتبار انه سيحقق يوما هذا الامل .
والنظام السياسي الناجح ، هو الذي لا يكتفي بتقديم الوعود ، بتنفيذ المطالب الشعبية ، والنقابية ، والاجتماعية ، والسياسية المطروحة . بل يعد بتحقيق الآمال والاحلام الكبرى في التقدم والعدالة والحرية وغيرها . فهو يعلم ان اليأس هو الموقد للثورة ، وان الأمل هو الترياق الذي يمكن من استمراء الحياة حتى ولو كانت قاسية .
والاداة الأساسية في هذا الباب ، هي الخطابات والبلاغات واللغة المعسولة عموما . ودور وسائل الاعلام الحديثة ، هو تبليغ هذه الوعود ، واشاعتها على نطاق واسع ، وحفز الآمال وقمع اليأس القاتل .
ومن بين اشهر تقنيات الوهم والإيهام ، الالتفاف على المشاكل عن طريق تشكيل لجان ومجالس ( عليا او جهوية ، دائمة او مؤقتة ) ، ترصد لها ميزانيات وبنايات واجور وموظفون رمزيون ، حتى تكون السلطة قد تملصت من كل مسؤولية عدم الإنجاز .
الشراسة ، الكذب ، الإيهام ذاك هو الثالوث الاستراتيجي في عمل اية سلطة تريد لنفسها الاستمرار . وبما ان كل سلطة هي بطبعها وطبيعتها ميالة الى الخلود والاستمرار ، فان تلك هي – في منظور ماكيافيلي – أقاسيمها الثلاثة .......