من أجل ثقافة جماهيرية بديلة-أصول الفلسفة الماركسية-بوليتزر37


عبدالرحيم قروي
2024 / 2 / 28 - 04:53     

أصول الفلسفة الماركسية
الجزء الأول
تأليف جورج بوليتزر، جي بيس وموريس كافين
تعريب شعبان بركات
الحلقة السابعة والثلاثون

– تأثِير الاشْتراكية العِلميَّة
أ) - دَمجُ الاشتراكيَّة مع الحَركة العماليَّة
لم يوجد ماركس الحركة العمالية بل هي واقع موضوعي مستقل عنه وقد بعثها وجود الرأسمالية. ولكنه أمد هذه الحركة، بوضعه للاشتراكية العلمية، بالبوصلة التي تضيء طريقها وتجعلها منيعة لا تقهر.
وهكذا تم بواسطته دمج الاشتراكية مع الحركة العمالية، ذلك لأن البروليتاريا المضطهدة، التي شغلها النضال من أجل لقمة العيش، لم يكن لديها الوقت أو الوسائل لتكوين العلم الاجتماعي والاقتصادي السياسي. فجاءها هذا العلم من الخارج بفضل ماركس الذي تمثل أفضل ما أنتجه الفكر الإنساني فجاءت الاشتراكية العلمية تتويجا لهذا التمثل. وهكذا تكون الاشتراكية العلمية من عمل المفكرين البرجوازيين المتقدمين. ولكن هؤلاء البرجوازيين لم يستطيعوا النجاح بمهمتهم الا بعد الانفصال عن طبقتهم. فلماذا؟ لم تكن البرجوازية، التي كانت قد دعمت ازدهار العلوم الطبيعية، ـ وكانت هذه العلوم ضرورية للتجديدات التقنية التي كانت تستفيد منها ـ لم تكن تستطيع ـ بعد الانتصار على الإقطاعية ـ أن تشجع العلم الاجتماعي بدون أن تسيء لمصالحها كطبقة مستغلة، لأن هذا العلم كان يفضي إلى زوال الرأسمالية المحتم! فأعلنت البرجوازية الحرب على العلم الاجتماعي وكانت حرباً ضروساً أدت بها إلى شكوى الماركسية أمام المجالس القضائية في شخص انصارها وهم الشيوعيون. كما حكمت الإقطاعية في الماضي على جاليله لأنه برهن على أن الأرض تدور حول الشمس.
لم يعد الأمر معرفة ما إذا كانت هذه الفرضية أو تلك حقيقة أم لا، بل معرفة ما إذا كانت تسر أولا الشرطة، وما إذا كانت مفيدة أم مضرة للرأسمال. وحل محل البحث المجرد التضارب المأجور كما حل محل البحث الخير سوء الظن والدعاية السخيفة .
وقد قطع كل من ماركس وانجلز علاقتهما بطبقتهما وناديا بوجهة نظر البروليتاريا. ولم تكن البروليتاريا، على عكس البرجوازية، معادية للعلم قط بل أن مصلحتها الطبقية كانت تتفق موضوعياً ومصلحة الاشتراكية العلمية. ولما كانت طبقة مضطهدة فقد وجدت في الاشتراكية العلمية تفسيراً لآلامها وإمكانية للقضاء عليها.
لا بد لكل نظرية من أن تؤكدها التجربة. ولقد برهنت التجربة للعمال على فضائل الماركسية التي لا مثيل لها. كما أثبتت النظرية الماركسية، منذ قرن من الزمن أنها التعبير الوحيد عن مصالح البروليتاريا.

ب) – ضَرُورَة الحِزْب الشيُوعي ـ نَقد التلقائية
كيف تحقق دمج الحركة العمالية بالاشتراكية العلمية؟ بتكون الحزب الذي يضم طليعة البروليتاريا وينظمها، والذي يتسلح بالاشتراكية العلمية فيقود نضال طبقة العمال وحلفائها الثوري.
ذلك هو حزب الشيوعيين الذي يحدد ماركس وانجلز مهمته في "البيان الشيوعي". يحمل الشيوعيون، في الميدان العالمي وفي كل بلد، إلى البروليتاريا فهماً واضحاً لظروف الحركة البروليتارية وسيرها وغاياتها العامة .
وضرورة مثل هذا الحزب معطى أساسي من معطيات الاشتراكية العلمية، وهو يتفق مع تعاليم النزعة المادية الجدلية والتاريخية. فلماذا؟ لأنه إذا صح أن البروليتاريا التي تستغلها البرجوازية مضطرة مادياً للنضال ضدها فلا يعني ذلك قط أن وعيها اشتراكي تلقائي. لأن نظرية التلقائية معارضة للماركسية، والنظرية الثورية علم، وليس هناك من علم تلقائي .
ولقد قام لينين في كتابه "ما العمل؟" بنقد كلاسيكي للتلقائية؛ ويجب أن نعود لهذا النقد لأن كثيراً من الذين يخيل إليهم أنهم شيوعيون يقولون بأن الماركسية ليست سوى "غريزة طبقية". وهذا يفضي إلى المساواة بين البروليتاري المثقف والبروليتاري الذي لا يعرف أين يسدد ضرباته لأنه لا يعي وعياً صحيحاً مصلحته.
فلماذا لا تكون الاشتراكية ثمرة تلقائية للبروليتاريا؟ لأن النظرية الفكرية التي تعرض تلقائيا للبروليتاريا في النظام الرأسمالي، هي النظرية الفكرية البرجوازية، كالدين مثلا أو الأخلاق اللذين يلقنان في المدرسة ويدعوان البروليتاريا إلى "التذرع بالصبر" لأنه لا بد "من ثواب الفضيلة" ولا تعتمد النظرية الفكرية البرجوازية على قوة التقاليد فقط بل تعتمد أيضاً على الوسائل المادية الضخمة التي تمتلكها البرجوازية الحاكمة.
يقولون غالباً: "تسير البروليتاريا تلقائياً نحو الاشتراكية وهذا القول صحيح بمعنى أن النظرية الاشتراكية تحدد أسباب مصائب الطبقة العمالية، لأنها أعمق وأصدق من سائر النظريات، ولهذا يتمثلها العمال بسهولة إذا لم تستسلم هذه النظرية أمام التلقائية، وإذا ما أخضعت هذه التلقائية لها.. تنجذب الطبقة، العمالية تلقائياً نحو الاشتراكية. غير أن النظرية الفكرية البرجوازية هي التي تفرض نفسها تلقائياً على العامل .
ويلاحظ لينين أن حركة البروليتاريا التلقائية لا يمكن أن تؤدي بالبروليتاري إلى ابعد من مرحلة تأليف النقابات التي نضم العمال من مختلف المعتقدات السياسية، وتهدف للنضال من أجل رفع مستوى الحياة والأجور. ولكن ليس هناك من نقابة تستطيع، بصفتها هذه، أن تحمل للعمال ما يحمله الحزب السياسي الماركسي ألا وهو أمل الثورة والعلم الثوري. وبهذا تتضح جذور الاستغلال الرأسمالي. تستطيع الاشتراكية العلمية، إذن، بنضالها المرير ضد النظرية الفكرية البرجوازية المنتشرة في كل مكان أن تجد طريق طبقة العمال. وهي مهمة يستحيل تحقيقها بدون وجود حزب يعتمد على العلم الثوري، ويتصل بالجماهير الكادحة ويحمل لهذه الجماهير الوعي الاشتراكي. مصلحة البروليتاريا الثورية تأمرها بالدفاع عن الحزب الشيوعي ضد أي هجوم وتقويته، لأن وجوده ضروري لانتصارها. أما نظرية التلقائية فهي تضع البروليتاريا تحت حماية البرجوازية.
لأن نظرية التلقائية هي الأساس المنطقي لكل نزعة انتهازية .
يفسر دور الحزب الثوري العلمي هذه الميزات التي حددها لينين منذ خمسين عاماً. ويعجز العمال الذين يتأثرون بالنظرية الفكرية البرجوازية عن إدراك هذه الميزات. وهاك بعض هذه الميزات:
أ) للخطأ صور وأشكال عديدة ولكن العلم واحد. ومن هنا كانت وحدة المبادىء التي تميز المناضلين الشيوعيين. وليس هذا تفكير القطيع. فلقد اتفق جميع الفيزيائيين على الاعتراف بقوانين الطبيعة. ولهذا كان من العبث ادعاء عالم بأن له علمه الخاص به. وكذلك لا يتعلق علم المجتمعات بمزاج هذا العالم أو ذاك . والنتائج التي يصل إليها مستمدة من التجربة، ولهذا فهي حقائق موضوعية تصح عند الجميع. وهذا ما يفسر "وحدة" الحزب الماركسي.
ب) أن النقد والنقد الذاتي اللذين يخضع لهما المناضلون الشيوعيون عملهم هما شرط مطلق لتقدم العلم.
ويجب على كل علم ـ ومنه العلم الاجتماعي ـ أن يراقب مناهجه ونتائجه. وهذا مهم جداً لنجاح النضال الثوري ولمصلحة العمال. ولهذا فأن محرري جريدة "البوبولير" حينما يسخرون من النقد الذاتي قائلين بأنه "يدنس" الذين يستعملونه، أنما يعبرون عن امتهانهم لمصلحة العمال.
ج) الإدارة الجماعية ضرورة علمية أيضاً في جميع مستويات الحزب الثوري. ذلك لأن قراراً ما أو شعاراً ما لا يمكن أن يعكسا تماماً مصالح الحركة الا إذا كانا نتيجة لنقاش جماعي يشترك فيه جميع المناضلين فيحمل كل منهم معه التجربة التي استفادها من اتصاله بالجماهير ويعمم الحزب في مجموعه كل هذه العلاقات. النظرية هي تجربة الحركة العمالية في جميع البلاد في صورتها العامة .
أوليس من الطبيعي أن يكون هذا التعميم، الذي يعكس مختلف مظاهر الحركة لزمن معين، قانوناً لكل مناضل؟

5 ـ الخلاصة
استطاعت الطبقة العاملة، منذ مئة عام، أن تقدر بُعد نظرة الاشتراكية العلمية وقدرتها على التنبؤ. كما أن العمال أخذوا يتمثلون بعمق هذا العلم وغذوه بتجربتهم. ويحفظ هذا الاتصال الدائم بين النظرية والتطبيق العملي الاشتراكية العملية من الشيخوخة. كما يظهر بهذا طابعها العلمي لأن العلم الحقيقي في تقدم مستمر.
وأن ما حققته الاشتراكية العلمية من تقدم في النظرية والتطبيق، بعد مضى قرن من الزمان، لمدهش حقا. وهكذا تتحقق جملة ماركس: "تصبح النظرية قوة مادية متى ما تسربت إلى الجماهير ."
ولقد عرف كبار خلفاء ماركس كانجلز ولينين وستالين كيف يسلحون الاشتراكية العلمية بتعميمات جديدة والاستغناء عن النظريات التي لم تعد تلائم الوضع التاريخي مثال ذلك: دخلت الرأسمالية، في مطلع القرن العشرين، في طورها الاستعماري. فاعتمد لينين على مبادىء الاشتراكية وحلل الظروف الموضوعية التي سببها الاستعمار للحركة العمالية. واكتشف قانون نمو البلاد الاستعمارية غير المتساوي، وانتهى إلى هذه الخلاصة الجديدة: وهي إمكانية الثورة في أن تنتصر على جبهة الرأسمالية العالمية، في اضعف مواضعها، وهكذا تنتصر الاشتراكية، في بادىء الأمر، في بلد أو بضع بلاد كما حدث في روسيا عام 1917 ثم في بلاد أخرى فيما بعد.
ولقد تم بناء الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي ثم السير نحو الشيوعية بقيادة ستالين، وانتصارات الديمقراطيات الشعبية الرائعة، وهي صورة جديدة لدكتاتورية البروليتاريا ـ تم كل ذلك على ضوء الاشتراكية العلمية. وهو ضوء يرتجف منه سماسرة العالم القديم.
يجب أن نحصي، أمام هذا الإحصاء لألوان النضال والانتصار، أسماء الذين حاربوا الاشتراكية العلمية داخل الحركة العمالية.
بدأنا، في هذا الدرس، بالاشتراكية الخيالية، ودللنا على أن ماركس قد رفض نظريات الخياليين ليعتمد على الإلهام الاشتراكي. فكيف كان ذلك؟ بأنه جعل النضال الطبقي في المكان الأول وهو العامل في الانتقال إلى الاشتراكية.
ولقد قام أعداء الماركسية، منذ برودون وبلوم، بعكس ذلك تماماً. فقد كانوا عبيداً للبرجوازية، وظلوا يدعون البروليتاريا إلى التعاون الطبقي وأن لوحوا لها، لتخديرها، بنظرياتهم الخيالية، وهكذا أراد زعماء العالمية الثانية، في مطلع الاستعمار، الذين جعلوا من أنفسهم مصلحين للاشتراكية العلمية (ومن هنا نشأت اسم المصلحين) أن يقنعوا العمال بأن النضال الطبقي يمكن أن يزول لأن الرأسمالية ستتحول من نفسها إلى اشتراكية ومن ثم كان على بلوم أن يقدم خضوعه للاستعمار الأميركي على أنه أول مرحلة من مراحل الاشتراكية.
وفي الحقيقة فأنه في اليوم الذي تكونت فيه الاشتراكية العلمية فقد أصبحت كل اشتراكية خيالية رجعية. لأن عمل مثل هذه النظرية لا يمكن أن يكون الا عمل الهاء يهدف لفصل البروليتاريا عن النضال الطبقي. والطريق الثوري الوحيد هو طريق الاشتراكية العلمية. أما الأحلام الخيالية فلا يمكن أن تكون من ثم سوى سم ضد الثورة.
ومن هنا ظهرت حقيقة كبرى: كانت الانتصارات الضخمة التي حدثت بفضل الاشتراكية العلمية انتصارات لهذه الاشتراكية ضد أعدائها في الحركة العمالية. ولهذا فليس النضال القاسي ضد الأفكار المناهضة للماركسية مظهراً ثانوياً من نضال البروليتاريا العالمي. بل هو مظهر ضروري لأن عدم النضال لانتزاع العمال من تأثير نزعات برودون والإصلاح وبلوم القاتل هو وأد للمستقبل. ولقد ضرب كل من ماركس وانجلز المثل على ذلك: فلقد قاما، طيلة حياتهما، بحرب لا هوادة فيها ضد الاشتراكيين المزورين الذين هم أفضل حلفاء الرأسمالية.
يتبع