جزء من تأثيل الآيديولوجيا


المنصور جعفر
2024 / 2 / 24 - 16:47     

هذا تأثيل بسيط لبعض التصورات الشائعة عن الآيديولوجيا


*1. المنظار و المنظور:
من شغل سنين في موضوع الآيديولوجيا والميثولوجيا استعملت هذه الخبرة في الإطلاع على كتاب ..... عن أوضاع ودالات وجدالات الآيديولوجيا فوجدت انه كتاب محيط بكثير من الأوليات والأسماء/المواقف الشهيرة في هذا الموضوع واهم مزياتها واختلافاتها وفي نفس الوقت يقع في الإشكالات المألوفة عند محاولة معرفة أو استعراض كثير متنوع بمنظار بسيط محدود يقتصر مستعمله في عالم الفلسفة أو نقد أو نقض الفلسفة على عمليات نظر وعرض خطي Partially لكائنات فكرية ذات جذور وأبعاد متعددة العناصر والعلاقات والبنى ومركبة بشكل معقد Complexity وتتسم بانتشار شمولي Holistically وظروف تكوين وإرسال متنوع وكذلك تنتهي كلها أو بعض منها إلى فهوم متنوعة عند استقبالها جملة أو استقبال جزء منها أو بضعة أجزاء.*


*2 . بعض ظروف تنوع تكوين وإرسال وإستقبال وتداول الآيديولوجيا:
.تنوعات تكوين وإرسال وإستقبال آيديولوجيا معينة مثلها مثل تنوعات تكوين وإرسال وإستقبال كل الحيوات الذهنية فهي تنوعات تتأثر بظروف زمانها وظروف مجتمعات تكوينها وإرسالها وبظروف مجتمعات مرورها ومجتمعات استقبالها وكلها تتأثر بالوضع الطبقي لكل مكون أو معبر أو مرسل أو مستقبل للايديولوجيا.*


*3. قوانين الطبيعة تسري في كل مكوناتها وأشكالها:
كما في الطبيعة العامة كذلك في طبيعة الذهن وطبيعة المعرفة وطبيعة البحث العلمي التقني وطبيعة البحث العلمي الاجتماعي السياسي وطبيعة الثقافة السياسية لا يوجد "فراغ" أو "صفر" آيديولوجي، وعندما يزعم بعض الناس إزاحة بعض معالمها تظهر نفس الآيديولوجيا بأشكال أخرى أو في شكل ميثولوجيا سواء كانت ميثولوجيا خرافية أو ميثولوجيا أسطورية ففي كل ميثولوجيا توجد بذور أو جذور أو ذرات ومكونات آيديولوجيا تولد في المستقبل.*


*4. مكونا الايديولوجيا:
مع أو بعيداً عن الاكلشيهات المتكلمة عن ان الايديولوجيا تصف تتصور تبرر تصوغ أو وتوجه أو تقيد أو تطلق جزءً من التفكير في اتجاه معين مع أو ضد تفكير أو وضع آخر فايضا من خلال تعداد طبيعة مهماتها العامة عبر مختلف العصور السياسية يتبين ان كل آيديولوجيا تتكون من مركب عمليتين هما عملية نفي سلبيات الحاضر وعملية تركيب المستقبل.

في طبيعة الحياة اليومية وطبيعة الحياة الفكرية تتفاوت طبيعة كل آيديولوجيا وتختلف فيها أحجام وتركيزات وفعالية كل نفي وكل تركيب حسب صلة عناصر وبنى كل آيديولوجيا بالواقع المعيشي للكادحين وهم غالبية المجتمع وكينونة حياته الذهنية وحملة ومشغلي خلاصة أفكاره وتصوراته للواقع أو بالأصح حملة ومشغلي أفكار وتصورات نخبه للواقع والمستقبل.


كلما ابتعدت الأدلجة عن معيشة الكادحين والطبيعة العامة لحياتهم وتفكيرهم فقدت حيوية التنغيم الاجتماعي لمعرفة الماضي والحاضر والمستقبل كما تفقد التنغيم العقلاني للحركة الاجتماعية الذي حف ولادتها ككائن متميز بعد الثورة الفرنسية وبهذا البعد عن حياة غالبية حملتها ومجدديها صارت الآيديولوجيا أقرب إلى الميثولوجيا والحكاية القديمة بمعنى انها تفقد حيويتها الإجتماعية حتى وان كانت مسيطرة و مهيمنة على السلطة السياسية أو السلطات الأكاديمية أو الاعلامية والمعرفية.*


*5. فشل الآيديولوجيا الليبرالية:
عندما تمددت الرسملة بعد الثورات البرجوازية القيادة في هولاند وإنجلترا وأمريكا وفرنسا تغيرت طبيعة دولة البرجواز و شعاراتها الثورية الليبرالية ذات الحرية والإخاء والمساواة وتحولت إلى نظم وهيئات لإستغلال الكادحين واستعمار الشعوب من ثم فقدت الآيديولوجيا الليبرالية صلتها بالكادحين من جهة كونها أفكار حرية وإخاء ومساواة وفقدت من جهة أكبر كينونتها كنظام قيادة فكري لضبط موضوعات وإتجاهات التفكير والتعبير عنه، من ثم انهال ماركس عليها وعلى المعتقدين فيها ذماً وتقريعاً.*


*6. نهاية الايديولوجيا الليبرالية:
قبل فترة قصيرة من بداية تكون الآيديولوحيا الثورية العلمية في عصر لينين كانت الثقافة السياسية القديمة تتعامل مع الآيديولوجيا كبروتكول نصوص أو عيار فكري ثابت لصيد ونفي معالم الاقطاع عن عوالم الفكر والفلسفة والكلام الحقوقي والسياسي ولم ينشغل ذلك النفي الليبرالي الذي أكلته ظروف الحداثة الجديدة آنذاك بأهمية تركيب المستقبل.

آنذاك ابتعدت خلافات وأوهام فقه الآيديولوجيا عن معيشة الناس بكثرة جدالات البرجواز المشتغلين بأمور التعبير والتنظيم السياسي والفكر وغرقهم في أمور تاريخ وفلسفة وبيان وتحديد اصطلاحات وموضوعات "الحق" و"الصحة" و"الشرعية" و"الحقيقة" و"السعادة"، .. إلخ، حيث صارت حياة الآيديولوجيا آنذاك جدالات وسجالات أقرب إلى سجالات اللاهوت، وصار انتصار أحد مشتغلي أمورها لتعبير أو معنى يعادل في دائرة قراءه أو مشاهديه تغييراً للعالم يلبث في الأذهان يوماً أو بعض يوم حيث يداهمه في نفس اليوم أو غده رأي مثقف برجوازي آخر. جدل في جدل.*

*ترفاً صار الجدال والفكر يشتغل بأمور الفكر والجدال أكثر من اشتغاله بأمور معيشة الكادحين، المعيشة التي بدأ نفس الفكر الآيديولوجي حياته كتعبير عنهم لكن بتدهور معيشة الناس وسقوط مثالية الأفكار والزعوم الثورية انقلب الحالة وبدأ الناس (وفق التقاليد القديمة) يبحثون عن نهاية لمظالم معيشتهم في كلام وفكر الأكاديميين والمثقفين البرجواز متكلمي الليبرالية القدامى بدلاً لأن يستعمل الناس فكرهم (البروليتاري) الخاص في فحص صلاحية الحكم وصلاحية المعرفة وكشف ونقض أسس مظالم معيشتهم ومحاولة تغييرها. بل خلاف هذا القصور صارت الليبرالية ايديولوجيا لتبرير الإستغلال الرأسمالي والاستعمار من ثم وضحت حاجة معيشة الناس إلى أفكار تشرح طبيعة ازماتها وكيفية حلها.*


*7. بداية الآيديولوجيا العلمية الثورية:
ضد الفشل والضلال الذي انتهت اليه الايديولوجيا الليبرالية تحول تفكير ماركس من حالته القديمة التي كانت تشبه أسلوب النبي موسى (ع) في التعامل الانقادي والطلبي مع الظلم ثم الخروج منه.

بمثابرة منتظمات وكلام الكادحين انتقل تفكير ماركس إلى أسلوب يشبه النبي إبراهيم (ع) في اشهار الكفر بعقيدة الأجداد والآلهة القديمة وتحطيم أوثانها، بل بفضل توجيه وارشاد ودراسات الكادحين ومثابرات حججهم تجاوز تفكير انجلز وماركس عمليات نفي القديم وتحطيم أصنام الفلسفة الكلاسكية وآيديولوجيا الأوهام والأوهام الآيديولوجية وأشكال ومناظير البرجواز في مجالات المعرفة الحقوقية والإجتماعية والإقتصادية حيث ابتدأت عصبة العمال العالمية مع كل تحطيم لسلبيات أفكار الماضي والحاضر عملية تركيب بناء مناظير متجددة لفحص ومعالجة وأدوات بناء في المستقبل. من ثم شهد عهد "البيان الشيوعي" نهاية كبرى لأسس الآيديولوجيا البرجوازية و(بداية) غير مقننة بشكل تام لتكون آيديولوجيا ثورية جديدة.*


*8. اللينينية:
في بداية عصر لينين كانت نضالات الكادحين تمحص معالم الفكر الاقطاعي و معالم الفكر البرجوازي و معالم الفكر الاشتراكي العفوي و معالم الفكر الإشتراكي العلمي وأهتم البلاشفة بأسلوب أو نوع "التفكير" الذي بلور تلك الأفكار كما اهتم البلاشفة بدراسة الظروف والعناصر والعلاقات التي كونت/تكون كل فكر. من ثم بدارسة طبيعة التفكير وطبيعة الفكر وظروف تبلورهما تبلورت صيغة تأريخ مادي/موضوعي أو تنظير متكامل لأزمات المجتمع والفكر وكيفية ترتيب دراستها والتعامل الثوري المنظوم معها لتغييرها أي عبر منتظم لفئات الكادحين يرتب جهودهم المعرفية والنضالية.*

*وفقاً لتقاليد التسميات سميت أعمال الجزء الأول من النشاط الشيوعي الحديث باسم "الماركسية" أما فكرة تكريب وضبط الماركسية وممارستها بواسطة حزب/منتظم الكادحين فسميت على مبلورها لينين "اللينينية".

من ثم أصبح الشكل المشترك لأسلوبي الفكر والممارسة يسمي اجمالا في مجال الآيديولوجيا باسم "الماركسية-اللينينية" التي نمت بشكل خطي تتابعي حتى تنازعتها منذ الخمسينات إتجاهات "ما بعد البداية" في بلدان وظروف مختلفة لكن رغم تنوعات بلورتها وتعاملاتها بقيت "الماركسية اللينينية" متسمة بوحدة معالم فكرة "الحتمية التاريخية" ضد حالة الانكفاء على الحتمية التقنية وانتظار ان يقوم التقدم الرأسمالي والصناعي الفوضوي أو المنظوم البناء والتجارة بحل الازمات التي كونتها وتعيش عليها الرساميل وهو الانكفاء والانتظار الذي تتبناه الأحزاب الاشتراكية التي اتفق لينين مع ماركس في وصمها بالخيانة.*


*9. التناسق الفكري والتنافر العملي:
بحكم سيطرة الفئات المهنية والتكنوقراط على غالبية الأحزاب السياسية وغالبية الأحزاب الشيوعية صار جسد كثير من الأحزاب الشيوعية جزءً من النظم الليبرالية/البرجوازية بينما أفكارها وثقافتها وآمالها مهتمة ببناء المستقبل أكثر من نفي الحاضر أو مهتمة بنفي الحاضر أكثر من بناء المستقبل.

أدى ويؤدي هذا الاختلاف المألوف بين تنظيرات الفئات الكادحة والفئات المتوسطة اختلافا متفاوتاً في كمية التركيز على نفي الحاضر وكمية بناء المستقبل إلى خلل عند كثير من الناس في النظر إلى آيديولوجيا اتسمت أسسها بالتوازن وختى إلى شك بعضهم في صلاحيتها من ثم نشاط ثقافة و وسائط التحكم والتضليل الليبرالية أو البرجوازية واكثارها الكلام الفارغ عن نهاية الآيديولوجيات أو نهاية الفائدة منها وحتى عن نهاية التاريخ وبالتالي نهاية كل ما يتصل باستخلاص عظاته أو تلخيصها أو تنميتها.


*10، طبقية المهمة الآيديولوجية في المعرفة والمهمة المعرفية في الآيديولوجيا:
.من الصعب الإحاطة المعرفية بكل هذه العناصر والعلاقات والبني الآيديولوجية الدقيقة والشاسعة المنتظمة والعفوية المتشكلة أو المطلوب معرفتها في أزمان وظروف مختلفة ومن مواقع متغيرة وظروف مختلفة للصراع الإجتماعي السياسي للفئات وقوى ومنظمات الطبقة الكادحة وتنوع مصلحة فئاتها في نفي مختلف أسس الليبرالية وأشكالها الرجعية والحداثوية والتعبير عن هذا التنوع في حزبها ومدى تعبير حزبها أو جزء منه عن نفي القديم وبدء البناء المرتب علمياً/موضوعياً لأمور وأولويات تحقيق الإشتراكية بقيادة منتظمات الجماهير وحزبها الشيوعي.
يحتاج البحث في أمور فلسفة المعرفة ومدى اجتماعية تكوينها واهدافها إلى تناول قدر من الايديولوجيا كما ان التعامل الايديولوجي مع فلسفة المعرفة يحتاج إلى قدر من الامكانات والوسائل والضوابط العلمية.

من هاتين الحاجتين تتضح صعوبة في احاطة المعرفة النمطية التي تستعمل المنظار البسيط بكل تنوعات بذور وجذور وظروف بيئة وتكون ونشاط الآيديولوجيا الثورية العلمية الترتيب وأشكالها ذات التداخل والتوالد الشمولي وكذلك لتجاوز التوتر الكامن بين فئات الايديولوجيا الواحدة. كما يتضح خلل تقييم فلسفة معرفية معينة دقيقة بمنظار ايديولوجي كبير.

لحل ازمة التباين بين الناظر والمنظور وحل اختلافات التعامل الايديولوجي مع قضايا المعرفة وحل اختلافات التعامل المعرفي مع البنى الآيديولوجية بالامكان إستعمال أدوات "التأثيل" أي فحص تاريخ ومستقبل تكون وقراءة أو إستعمال الاصطلاحات وحيواتها الطبقية. وهو يختلف عن التاثيل أو التأصيل النمطي المهتم بالماضي الحروفي أو الإشتقاقي لوجود كلمة. *


*ختاما:
طبيعة عملية التفكير في هدم أو تغيير أو بناء آيديولوجيا هي عملية متوسطة إما ان لها ماضي و أسس ايديولوجية قديمة ظاهرة أو خفية أو انها تؤدي إلى تشكيل آيديولوجيا جديدة. سواء كان كلامها عن تجديد وإصلاح أو كان عن إلغاء كلي أو جزئي لكل الآيديولوجيات أو بعض منها لسبب سياسي إقتصادي إجتماعي أو ثقافي معين.*