من أجل ثقافة جماهيرية بديلة-أصول الفلسفة الماركسية-بوليتزر33


عبدالرحيم قروي
2024 / 2 / 24 - 10:46     

أصول الفلسفة الماركسية
الجزء الأول
تأليف جورج بوليتزر، جي بيس وموريس كافين
تعريب شعبان بركات
الحلقة الثالثة والثلاثون

تأثير الأفكار في الحَيَاة الاجتماعِيَّة وأهمّيتها
-------------------------------------------------------
1 – مثال
2 – خطأ النزعة المادية الساذجة
3 – النظرة المادية الجدلية
أ) اصل الأفكار المادي هو الذي يضفي عليها القوة
ب) الافكار القديمة والافكار الجديدة
ج) عمل الأفكار الجديدة هو التنظيم والتعبئة والتحويل
4 – الخلاص
---------------------------------------------------------
1 – مثَالٌ
هناك قول باطل شائع يقوم على الاعتقاد بأن النزعة المادية الماركسية لا تقيم أي وزن للأفكار ولا تعترف لها بأية أهمية أو أي عمل.
وسوف يدلل هذا الدرس على أن هذا خطأ وأن الماركسيين يهتمون بالأفكار والنظريات على السواء، ولقد برهن على ذلك ماركس نفسه. فلو أنه لم يعترف للأفكار بأي سلطان لما كرس حياته لتكوين نظريته الثورية ونشرها. كما برهن على ذلك زملاؤه من المناضلين الشيوعيين الذين هم أول من يضرب المثل في أحلك ساعات النضال، ويضحون، عند الضرورة، ببطولة، بحياتهم في سبيل انتصار مثل الاشتراكية السامية.
فلنعد إلى المثال الذي قدمنا به للدرس السابق، إلا وهو الفكرة التي اذاعتها الأونسكو والقائلة بأن الحروب تولد "في وعي الناس" وأنه تكفي تهدئة العقول للقضاء على الحرب. رأينا أن هذه الفكرة لا تصمد أمام امتحان مادي، لأن الحرب ـ وفكرة الحرب ـ تصدران عن واقع المجتمعات المادي.
وبالرغم من خطأ نظرية الأونسكو هذه فأن لها أهمية كبيرة مع ذلك. فهي، عمليا، تقوم بدور محدد جدا: فهي تعمل، من وراء ستار محاربة الحرب، على الحيلولة دون البحث عن أسباب الحرب الحقيقية! لأن هذه النزعة المثالية، بادعائها أن "وعي الناس" هو مصدر الحرب، تخفي مسؤوليات المجرمين الحقيقيين الواقعية ألا وهم المستعمرون. تحسن هذه النزعة المثالية القول ولكنها تسيء إلى قوى السلم وتحبذ قوى الحرب. إذ ليس "دعاة تهدئه العقول" الحقيقيون هم أولئك الذين يخفون عن العقول، تحت ستار من النزعة المثالية، أسباب الحرب الموضوعية، بل هم أولئك الماديون، الذين يحللون هذه الأسباب ويفضحون المستعمرين المعتدين.
ليس صحيحا إذن أن الماركسية تهمل قوة الأفكار. ويقول ستالين: "لقد قلنا بأن حياة المجتمع الروحية هي انعكاس لظروف حياته المادية. أما فيما يتعلق بأهمية الأفكار والنظريات الاجتماعية، والآراء والمؤسسات السياسية ودورها في التاريخ فأن النزعة المادية التاريخية، بدلا من أن تنكرها، تشير، على العكس، إلى دورها وأهميتها الكبرى في الحياة الاجتماعية وفي تاريخ المجتمع .
ولما كانت الفلسفة الماركسية مادية فهي تبحث عن أصل الأفكار الاجتماعية في حياة المجتمات المادية. ولما كانت جدلية فهي تدلل على أهميتها الموضوعية وتحدد دورها الحقيقي: وهذا موضوع درسنا الثالث عشر.
2 – خَطَأ النزعة الماديَّة السَّاذجَة
أن من يأخذون على النزعة الماركسية إهمالها للأفكار يرفعون عليها دعوى باطلة عن قصد أو غير قصد. فهم ينسبون إليها خطأ النزعة المادية الساذجة. لأن نكران أهمية الأفكار موقف ضد العلم حاربته النزعة المادية الجدلية دائماً.
"يختلف تفكيرنا في القصر عنه في الكوخ" هذا القول لفورباخ وهو يدل على السذاجة والغموض. فهو ينسى أن من بين الظروف التي تحدد نظريات الإنسان الأفكار البالية. حتى أن ساكن الكوخ يمكنه أن تكون له مطامح أمير! كما يمكن للعامل أن تكون له مطامح البرجوازي الصغير! هل كان الحذّاء الجورجي الذي تحدث عنه ستالين يعتنق الأفكار الاشتراكية لو أن هذه الأفكار لم توجد ولم تقم بدورها في المجتمع؟
يضرب جاستون مونموسو في كتابه La Musette de Jean Brécot مثلاً حياً ـ أقرأ فصل " بقرة نبيل" ص 84 ـ على هذه الحقيقة، وهي أن بعض الأفراد يمكنهم أن يحتفظو وقتا طويلاً بأفكار تتعارض مع ظروف معيشتهم المادية.
أن النظريات الآلية في النزعة المادية المعارضة للجدلية ـ ونسميها بالنزعة المادية الساذجة، معارضة للنزعة المادية العلمية ـ خطيرة جداً. لماذا؟ لأنها تخدم النزعة المثالية. لأن النزعة المادية الساذجة بإنكارها عمل الأفكار تترك المجال أمام الفلاسفة المثالين لاحتلال الميدان الذي تركوه لهم. فنجد أمامنا من جهة نزعة مادية تفقر الواقع؛ ومن ناحية أخرى "فيض النفس" الذي تحمله النزعة المثالية "للتعويض عن هذا النقص" فما هو موقف النزعة المادية الجدلية؟
بينما ترى المادية الآلية أن الوعي ليس سوى انعكاس سلبي للوجود المادي، فأن النزعة المادية الجدلية تعتقد أن الوعي الاجتماعي هو انعكاس حقا ولكنه انعكاس فعال.
ونحن نعلم أن الواقع هو حركة (القانون الثاني للجدلية، راجع الدرس الثالث)، وأن كل مظهر من مظاهر الواقع حركة أيضاً. والأفكار والنظريات، وأن كانت لاحقة على المادة، فهي مظاهر من الواقع بأكمله. فلماذا لا نعترف لها بالصفة الأساسية لكل ما هو كائن؟ لماذا لا نعترف لها بالحركة والنشاط؟ الجدلية شاملة عامة: فهي تظهر إذن الأفكار كما تظهر في الأشياء، في الوعي الاجتماعي كما تظهر في الإنتاج.
والنظرية التي لا تعترف للأفكار بأي قوة أو سلطان هي نظرية معارضة للجدلية بمعنى آخر: ونحن نعلم (القانون الأول للجدلية، راجع الدرس الثاني) أن الواقع هو ترابط جميع مظاهر الواقع، وتأثير كل منها في الآخر. ينتج عن ذلك أن حياة المجتمع الروحية، لما كانت مشتقة من الحياة المادية، فأنها لا تنفصل عن هذه الحياة المادية؛ فهي تؤثر بدورها على حياة المجتمعات المادية.
ولهذا فأن تطبيق قوانين الجدلية لا يظهر فقط أهمية الأفكار والنظريات الاجتماعية بل ينتج لنا فهم عملها.
ولقد عبر عن هذه العلاقة المتبادلة وتفاعل المجتمع الأفكار كما يلي:
الوضع الاقتصادي هو الأساس ولكن صور النضال الطبقي السياسية ونتائجها ـ والدساتير القائمة بعد فوز الطبقة المنتصرة، والصور التشريعية وانعكاسات جميع صور هذا النضال الحقيقي في أدمغة المشتركين بها في النظريات السياسية والتشريعية والفلسفية والنظريات الدينية ثم تطورها فيما بعد إلى نظم عقيدية ـ كل ذلك يؤثر في مجرى ألوان النضال التاريخي ويحدد صورته. فهناك فعل ورد فعل تقوم بهما جميع العناصر .
كما كتب انجلز يقول: "يا لها من فكرة بلهاء تلك الفكرة التي ينادي بها المفكرون تقول بأنه لما كنا لا نعترف لمختلف الأفكار التي تقوم بدور في التاريخ بأي نمو تاريخي مستقل فأننا لا نعترف لها أيضا بأية فعالية تاريخية. ويقول انجلز أن هذه فكرة غير جدلية عن السبب والنتيجة كأنهما قطبان معارض كل منهما للآخر بصورة شديدة .
كما يقول يبدو له بديهياً القول بأن وجهة النظر الفكرية تؤثر بدورها على الأساس الاقتصادي ويمكن أن تغيره نوعاً ما، وحينما يدعي "بارت" أننا أنكرنا كل رد فعل للانعكاسات السياسية الخ، وانعكاس الحركة الاقتصادية على نفس هذه الحركة فأنه في ذلك يقف في وجه طواحين الهواء.
أن ما ينقص هؤلاء السادة جميعاً هي الجدلية. لا يرون هنا سوى السبب ولا يرون هناك سوى النتيجة أما أن مجرى الأشياء يحدث بصورة فعل ورد فعل لقوى غير متساوية وأهمها وأشدها وقعاً الحركة الاقتصادية فأنهم لا يرون كل هذا .
ويعتمد بعض العاملين على تبسيط النزعة المادية على أن القوانين الاقتصادية هي أساس التطور التاريخي فيخلصون إلى نتيجة خاطئة وهي أنهم يعتقدون أنه يكفي أن ندع هذه القوانين تعمل بنفسها دون أن نقوم بأي عمل. وهكذا يدعون الإنسان إلى العجز والتقاعس. بيد أن التجربة تدلل على أنه كلما ازدادت معرفة الناس لقوانين المجتمع الموضوعية كلما ازدادت فعالية نضالهم ضد القوى الاجتماعية الرجعية التي تعترض سبيل تطبيق هذه القوانين لأنها تضر بمصالحهم الطبقية.
فكيف ننكر من ثم عمل الوعي الذي يعرف هذه القوانين؟ كيف ننكر قوته وهو يتمتع بهذه النتائج؟
فإذا كان الناس يعلمون قوانين التطور الاجتماعي استعانوا بهذه القوانين وإذا كانوا يجهلونها كانوا ضحيتها. وهكذا تساعد معرفة أسباب الحرب الاستعمارية العلمية على النضال بصورة فعالة ضد هذه الحرب. فإذا ما قال الماركسيون، مع ستالين، أن الحروب "لا يمكن تفاديها بين الشعوب الرأسمالية.. تستنتج النزعة المادية الساذجة بأن الحروب قضاء مقدر. فيشبهون في ذلك نزعة اللاهوتي المثالية الذي يعتبر الحرب عقابا إلهيا. والقول بأن الرأسمالية تجعل من الصعب تفادي الحروب كالقول بأن الرأسمالية بطبيعتها تولد الحرب الاستعمارية. ولكن إذا كانت الرأسمالية السبب الضروري للحروب فلا يكفي وجودها لإشعال نار الحرب، لماذا؟ لأنه يجب أن ترضى الشعوب أيضا بخوض غمار هذه الحرب. يحتاج الرأسماليون إلى جنود. ومن هنا كانت سياستهم الحربية، وفلسفتهم الحربية التي تسعى إلى إقناع الشعوب بأنه يجب خوض غمار الحرب: ولهذا يسعون للعمل بشكل يتحقق معه قانون الرأسمالية لمصلحتهم. ولكن متى ناضلت الشعوب جنباً إلى جنب، دون أن تنتظر سياسة الحرب وفلسفة الحرب فأنها، تمنع الرأسماليين من تحقيق الظروف الممهدة للحرب. نرى من هنا أهمية الأفكار. لقد أصبحت فكرة امكانية التعايش السلمي بين نظامين اجتماعيين مختلفين حجر عثرة في وجه الحملة ضد الاتحاد السوفياتي. لماذا؟ لأن الجماهير قد أخذ يزداد تمسكها بهذه الفكرة. بينما الرأسمالية، التي هي بحاجة للحرب، (ولهذا كانت الحرب ضرورية لها) لا يمكنها ارضاء هذه الحاجة إذا قالت الشعوب، كلا (ولهذا كانت الحرب ليست قضاء محتوما).
3 ـ النْظريَّة المَاديَة الجَدَليَّة
أ) – أصْل الأفكَار المَادّي هُو الذي يُضفي عَليهَا القوَّة
تؤكد النزعة المادية الجدلية إذن، في نفس الوقت الذي تؤكد فيه طابع القوانين الاجتماعية الموضوعي ـ ولا سيما القوانين الاقتصادية ـ عمل الأفكار الموضوعي (مما يتيح للناس التعجيل بعمل القوانين الاجتماعية أو تأخيره، وكذلك تشجيعه أو اعاقته). وسوف يقول بعض سجناء النزعة المادية الساذجة: "هذا غير منطقي فإما هذا الأمر أو ذاك! اما أن نقول بقوة "العامل الموضوعي" أو نقول بقوة "العامل الذاتي". يجب الاختيار بينهما. وهذا موقف ميتافيزيقي.
لا تجعل النزعة المادية الجدلية من المادة والفكر مبدأين منفصلين. بل هما مظهران وكل منهما واقعي كالآخر.
فهما من طبيعة واحدة أو مجتمع واحد، ولا يمكن تمثيل كل منهما على حدة، فهما يعيشان وينموان معا وليس هناك ما يدعو إلى القول بأن كلا منهما ينفي الآخر.
ويقول ستالين أيضا: "الطبيعة واحدة لا تنقسم وهي تبدو في صورتين مختلفتين: صورة مادية وصورة فكرية، وكذلك الحياة الاجتماعية واحدة لا تنقسم وتبدو في صورتين مختلفتين: صورة مادية وصورة فكرية: هكذا يجب علينا إن ننظر لتطور الطبيعة والحياة الاجتماعية .
مع العلم بأن الصورة المادية سابقة على الصورة الروحية. ولهذا لا تقول النزعة المادية الجدلية بسلطان الأفكار على العالم بل هي تجعل هذا السلطان مفهوماً. وأما النزعة المثالية فهي، على العكس، تفصل الأفكار عن مجموع الواقع فتجعل منها كائنات سرية غامضة فنتساءل عندئذ كيف يمكن هذه الأفكار أن تؤثر في عالم (طبيعة أو مجتمع) لا علاقة لها به. لأن عزلة الأفكار الرائعة تصيبها بالشلل.
وميزة النزعة المادية الجدلية هي في أنها، بعد أن اكتشف أصل الأفكار الاجتماعية المادي، أصبح في مقدورها فهم فعالية تأثيرها على العالم الذي خرجت منه. وهكذا نرى أن أصل الأفكار والنظريات المادي لا يضر بأهميتها أو عملها بل يعيد إليها كل فعاليتها.
وليست النزعة المادية الجدلية هي التي تحتقر الأفكار بل هي النزعة المثالية التي تحولها إلى كلمات جوفاء، وتجعل منها أشباحاً لا قوة لها. اما النزعة المادية الجدلية فهي ترى في الأفكار قوة ملموسة لها نتائج مادية كقوى الطبيعة.
ويمكن لهذه القوة ـ بالرغم من أنها تصبح غير مفهومة إذا نظرنا إليها على حدة ـ أن تنمو بحركتها الذاتية. مثال ذلك: لقد ولد الدين على أساس ظروف المجتمع المادية والتاريخية. ولكن هذه المجموعة من الأفكار التي تكون الدين ليست سلبية. بل لها حياتها الخاصة فهي تنمو في أدمغة الناس لا سيما وأن هؤلاء الناس ـ لجهلهم أسباب الدين الموضوعية ـ يعتقدون أن الله هو الذي يسيِّر كل شيء. يمكن إذن للأفكار أن تنتقل من جيل إلى جيل بينما تكون قد تغيرت الظروف التي ولدتها. حتى إذا ما طال الزمن أثَّر مجموع هذا الواقع على هذا الجانب من الواقع الذي هو الفلسفة الدينية. للفكرة تطور مستقل نسبياً، حتى إذا ما اشتد التناقض بين الفكرة والعالم الموضوعي انحل لصالح العالم الموضوعي والافكار التي تعكس هذا العالم الموضوعي، فشقت النظريات الصحيحة طريقها في النهاية وفرضت نفسها على الجماهير ضد الأوهام والأكاذيب.
يتبع