عودة إلى موضوع “الوشاية”


حمه الهمامي
2024 / 2 / 23 - 00:11     



أثارت افتتاحية عدد “صوت الشعب” حول “الوشاية” أو بالأحرى “القوادة” بعض الجدل. ولئن استحسن عدد من القرّاء تناول هذا الموضوع بعد أن أصبحت “القوادة”، وسيلة لافتعال قضايا “التآمر على أمن الدولة” ضد معارضي سلطة الانقلاب، فإنّ أنصار هذه السّلطة استنكروا ما جاء في تلك الافتتاحية معتبرين أن “القوادة” “سلوك وطني” لأن من “يبلّغ” على “مؤامرة ضدّ أمن الدولة” إنّما “يخدم وطنه”. وهذا الرّهط الثاني من الناس يتعمّد، قصد المغالطة، الخلط بين أمرين إثنين لا رابط بينهما، أحدهما محمود في نظر الناس ويعتبر فاعله نبيلا وحقّانيّا بل بطلا أحيانا، والآخر مذموم أخلاقيّا واجتماعيّا سواء كان ذلك في مجتمعنا أو في المجتمعات الأخرى ويعتبر فاعله نذلا، ينبذه النّاس ويتحاشون الاختلاط به فلا يتحدّثون بحضوره ولا يطلعونه على أي شيء، بل إنّه محقور حتى ممّن يستخدمها، إذ أنّه لا يحترمه ويُذلّه ويهينه بمناسبة أو غير مناسبة، وإذا حصل أن خالفه في أمرٍ ما فهو سرعان ما يذكّره بأنه “قوّاد” وإذا لم “يلتزم حدّه” فإنه يهدّده بأنّه سيفضحه أمام الناس أو يطرده شرّ طردة.
ومن خصائص “القوّاد”، وهو ما يزيد من حقارته داخل المجتمع، هو “قلبان الفيستة”، فهو كالحرباء يتلوّن مع الظروف شعاره “الله ينصر من صبح”.
إنّ التّبليغ عن جرائم حقيقيّة مثل القتل، أو التّخطيط لعملية إرهابيّة، أو الاغتصاب، أو السّرقة أو حتى عن عنف عائلي ضحيته زوجة أو طفل، يعتبر واجبا مدنيّا (devoir civique)، بل إنّ عدم القيام به يعدّ جريمة في كل نظام ديمقراطي، في كل دولة قانون. ويعتبر المبلّغ في هذه الحالة في مقام من قام بواجبه لأنّه أنقذ شخصا أو مجموعة أو جنّب وطنه مصيبة. أمّا “الوشاية” بالعربية الفصحى أو “القوادة” بلهجتنا العامية فهي شيء آخر، لأنها تعتمد الكذب والتلفيق وتحريف الوقائع ولا هدف منها غير إلحاق الضرر بالغير باطلا لتحقيق غاية خبيثة أو مصلحة شخصية أو فئوية سواء كان ضحية هذه الوشاية أناس عاديون أو من معارضي نظام الحكم ومنتقديه. وفي هذه الحالة فإن الوشاية أو “القوادة” تكون ببادرة فردية كما يمكن أن تكون بطلب جهة من الجهات، فردا أو مؤسسة، بضغط أو دون ضغط. وتمثّل هذه الظاهرة خاصّة من خواص المجتمعات المتخلّفة التي يحكمها الاستبداد والظلم والتسلّط والعسف، لسبب بسيط وهو أنه في النظام الديمقراطي يوجد إعلام حر كما توجد مؤسسات مستقلة في مقدمتها القضاء قادرة على التحرّي والتثبّت وكشف الحقيقة. أما في أنظمة الاستبداد والدكتاتورية والفاشية فلا توجد إلا “حقيقة واحدة” حتى لو كانت كذبة، وهي “حقيقة” هذه الأنظمة التي تفرضها على الجميع بقوة القمع.
إن البعض يشي أو “يقوّد” ليتسلّق في شغله. والبعض الثاني يفعل ذلك للانتقام من غريم أو خصم، والبعض الثالث للحصول على منافع مادية (رخصة، مال…). والبعض الرابع ليُغَضّ الطرف عمّا يقوم به من أنشطة غير قانونيّة، والبعض الخامس لأنّه ضحيّة عملّية ابتزاز(chantage) والبعض السادس يريد النجاة بنفسه مقابل توريط غيره، والبعض السابع خوفا من السلطة أو أحد أجهزتها المتسلّطة الخ… وبالطبع فإن الأمثلة التي تعرّضنا إليها في افتتاحية العدد السابق من جريدتنا إنما تدخل في باب “القوادة” ولا علاقة بأعمال التبليغ المحمودة التي تحدثنا عنها. فالواضح أن الوشايات المعتمدة سواء في قضية غازي الشواشي ورفاقه أو في القضيتين الأخيرتين المورّط فيهما “كيسنجر” و”ناتنياهو” هي وشايات مفتعلة بغاية الإضرار بأشخاص نتيجة مواقفهم السياسية أو معارضتهم أو انتقادهم سلطة الانقلاب. وهذه الوشايات مرغوب فيها من هذه السلطة سواء كان أعوانها هم الذين افتعلوها أوهم الذين أوْحوا لبعض “قوّاديهم” بتبليغها وصياغتها في تقارير، أو هم الذين استغلّوا بعض ما بلّغه راغبون في مصلحة أو حتّى معتوهون ووظّفوه إرضاء للحاكم بأمره وتملّقا له. إن كل من يطّلع على ملف غازي الشواشي ورفاقه والمعتمد، من بين ما هو معتمد، على وشاية ثلاثة أشخاص غير مصرّح بهويتهم (X1, X2, X3) بدعوى “الخوف على سلامتهم” وفقا لقانون الإرهاب، يقف بسهولة عند خلوّه من أيّ أفعال جدية يمكن اعتمادها لتوجيه تهمة “التآمر” للمعنيين بهذه القضايا والتنكيل بهم وإبقائهم رهن الاعتقال لمدة طويلة دون بحث أو محاكمة. أما الملفّان الآخران (13 و14) فهما مؤسسان كلّيا على وشاية، وهما في الحقيقة يثيران الضحك من جهة لتفاهة ما فيهما من تخريف والبكاء على وصلته بلادنا من بؤس وتفاهة وظلم وتعسّف من جهة ثانية، مع العلم أن الواشيين في هاتين القضيتين معروفين باسمهما لكن أحدهما (قضية كيسنجر) فنّد تفنيدا قطعيا ما نسب إليه وطالب بتتبّع المدّعي عليه في حين أن الثاني (وهو امرأة أجنبية) فأغلب الظنّ أنها مختلة المدارك.
إن الوشاية أو “القوادة” في هذه الملفات التي كنّا ذكرناها في افتتاحية عدد سابق لا هي تخدم الحقيقة ولا الوطن ولا أي قيمة من القيم النبيلة وإنما هي كذب ونذالة وانحطاط ولا هدف منها غير ضرب حرية المواطنين والمواطنات الذين يجرؤون على نقد سلطة الانقلاب أو حتى مجرّد التفكير في منافسة الحاكم بأمره في “الانتخابات” التي ينوي تنظيمها لتنصيب نفسه حاكما فرديّا مطلقا بعد إلغاء دستور 2014 وتفكيك المؤسسات الناجمة عنه. لقد عادت “القوادة” بعد انقلاب 25 جويلية 2021 ومع اشتداد القمع والخوف ونزعة الاستبداد والفاشية ستعود كما كانت زمن بن علي وسيلة للتقرّب من الحاكم بأمره للحصول على منصب أو لكسب مصلحة. ويكفي متابعة ما يجري في العديد من وسائل الإعلام العمومية والخاصة حتى نفهم أن القوادة اتسع نطاقها لتصبح مهنة رسمية. إن “قوّادة” سلطة الانقلاب يتصدّرون العديد من البرامج الحواريّة، صباحا، مساء ومنتصف نهار، للدفاع بأكثر الوسائل والأساليب تفاهة وقذارة ونذالة عن كل ما تقوم به سلطة الانقلاب من اعتقالات وقمع وتبريره وتجميله. وهم يُسمّون أنفسهم “الوطنيّون الصادقون” على غرار أولئك الذين انقلبوا على قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل في عام 1985 تنفيذا لمخطط بورقيبة-مزالي لتمرير سياسة التقشف المُملاة من صندوق النقد الدولي وسمّوا أنفسهم “الشرفاء” وهم لا شرف لهم.
وما من شك أن موضوع الوشاية و”القوادة” ليس جديدا في تونس وتحديدا في عالم السياسة. فقد رافق كل أنظمة الاستبداد التي عرفتها بلادنا. ففي العهد الاستعماري كانت “القوادة” حرفة، للوشاية بمعارضي الاستعمار من سياسيين ونقابيين ومثقفين ومقاومين مسلّحين. وقد استشهد الكثير نتيجة “قوادة” من هذا العميل أو ذاك. وكان “القوّادة” يطلق عليهم اسم “القُومية” ويمثّلون عامّة عملاء الاستعمار وخدمه. وفي عهد بورقيبة استشرت “القوادة” عقب “إعلان الاستقلال” واستفحال الصراع بين جناح بورقيبة من جهة وجناح صالح بن يوسف من جهة ثانية. فكل متقرّب من بورقيبة الماسك بالسلطة وكل من يريد الانتقام من خصمٍ كان “يبلّغ” أن “فلان” أو “علّان” “يوسفي” ليجد نفسه عرضة للتنكيل. واستمرت الوشاية لمدة فترة حكم بورقيبة التي دامت أكثر من ثلاثة عقود، وكانت متفشّية حتى داخل الحزب الحاكم. أما في عهد بن علي فقد كانت “القوادة” ممارسة ممنهجة في كافة المستويات والمجالات بل إنها غزت المجتمع ذاته. وبلغت أوجها بشكل خاص بمناسبة الحملة القمعية على حركة النهضة في مطلع تسعينات القرن الماضي. إن العديد من المواطنين الأبرياء وجدوا أنفسهم في السجن بمجرّد وشاية من شخص بلّغ أنّهم يؤدّون صلاة الفجر (كان القيام باكرا وأداء صلاة الفجر شُبهة في ذلك الوقت…) أو أنّهم اجتمعوا مع “النهضاوي فلان” أو أنّهم قدّموا معونة بسيطة لعائلة سجين “إسلامي”…
ولكن التاريخ بيّن أن كل أنظمة الاستبداد إلى زوال… ولا يبقى سوى العرض القذر لوُشاته و”قوّاديه” الذين تلاحقهم اللّعنة جيلا بعد جيل… إن الاستبداد يعلّم الناس الانحناء ويفسد أخلاقهم وطبائعهم، أما الحرّية فترفع رؤوسهم وتعلّمهم قيم الصراحة وعدم الخوف من الإصداح بالرأي… إن مجتمع الوشاية مجتمع مريض ومتعفّن ودواؤه هو الحرية والديمقراطية التي لا تتحقّق إلا بوضع حدٍّ للاستبداد والدكتاتورية…