تفاقم أزمة البيروقراطيّة النّقابيّة


جيلاني الهمامي
2024 / 2 / 23 - 00:03     

1 - تقديم
كان من المفروض، مباشرة بعد إعلان نتائج التّصويت في المؤتمر الوطني للاتّحاد العام التّونسي للشّغل بالمنستير قبل سنة وبضعة أشهر، ومثلما هو معهود بعد كلّ مؤتمر، أن تنصرف الاهتمامات في القيادة الجديدة وفي مختلف هياكل المنظّمة إلى القضايا النّقابيّة الأساسيّة التي تشغل بال النّقابيّين والعمّال (الملفّات القطاعيّة، الأجور، الحقّ النّقابي...).
ولكن مظاهر الصّراع الذي خيّم على أجواء المؤتمر تواصلت بل وأخذت أحيانا طابعا أشدّ وأكثر حدّة. ولم تمرّ مناسبة نقابيّة إلاّ وعاد نفس الصّراع ليطفو على السّطح وليقابل بين نفس الأطراف ابتداء من الاحتفالات بذكرى تأسيس الاتّحاد (جانفي 2007) مرورا بمؤتمر الاتّحاد الجهوي بالكاف ودورات الهيئة الإداريّة الوطنيّة والمكاتب التنفيذيّة الموسّعة ومجالس القطاعات وإحياء ذكرى وفاة الزعيمين أحمد التليلي وفرحات حشاد وصولا إلى ماراطون الإحالات على لجنة النّظام الوطنيّة وحلقتها الأخيرة الخاصّة بملفّ جهة بنزرت وكاتبها العام السيد عبد الرزاق البجاوي الذي "حُكم عليه بالتّجميد لمدّة 5 سنوات.
فعلى امتداد كلّ هذه المدّة استمر الصّراع على أشدّه بين القطبين الذين تصارعا قبيل وأثناء مؤتمر المنستير حول الموقف من "الدّورتين"، بين شقّ من القيادة بزعامة الأمين العام وعضده الأيمن علي رمضان مسؤول النظام الداخلي، مدعوما بعدد من الإطارات النقابية من قطاعات وجهات مختلفة وحساسيّات نقابيّة "يساريّة" من جهة، وشقّ ثان من القيادة (وهوأقلّي) ولكنّه مدعوم من عدد أكبر من إطارات جهويّة وقطاعيّة ومن حساسيّات نقابيّة أخرى يساريّة ونقابيّين مستقلّين عُرف باسم "تحالف الشّمال" من جهة ثانية.
وقد أخذ الصّراع بينهما طابعا حادّا سواءأثناء الاحتجاجات النّقابيّة التي شهدتها كلّ من القصرين وتونس وقفصة ربيع السنة الماضية بمناسبة غرة ماي أو على خلفيّة ملفّ قطاع التّعليم الأساسي أو من خلال حملة "لجنة النّظام الوطنيّة".
وإذا كانت القيادة ترى في تلك الاحتجاجات "مخطّطا لإرباك المنظّمة ومحاولة لتعطيل نشاطها وبثّ الفوضى في صفوفها واستهتارا بقوانين الاتّحاد ومسعى لتلهية النّقابيّين عن نشاطهم ومهامّهم الحقيقية" فقد اعتبر الطّرف المقابل أنّ ذلك يدخل ضمن حيويّة الحياة الدّاخليّة وهو تعبير من النقابيّين عن رفضهم لتوجّهات القيادة وعن مردودها الهزيل فاستغلّت هذه الاحتجاجات ذريعة للقيام بحملة تصفية ضدّ خصومها وللتّخلّص ممّن يخالفها الرّأي. ويعتبر هذا الطّرف أنّ القيادة بإقدامها على حملة الإحالات على لجنة النّظام منذ مستهلّ الصّيف الماضي إنّما تستغلّ موقعها على رأس الاتّحاد ونفوذها في الجهاز لإضعاف المعارضة بغية تعديل موازين القوى والإعداد للانقلاب على قرار جربة/المنستير بخصوص الدّورتين. وضمن هذه الحملة يجري التّراجع في عديد المكاسب الدّيمقراطيّة الدّاخليّة والسّعي إلى إعادة تركيز منهج المركزة المشطّة والنّفوذ الفردي، وفي كلمة عودة إلى تشديد منهج التّحكّم البيروقراطي داخل الاتّحاد.
لقد بلغ الصّراع درجة من الاحتدام لا يبدو في الأفق ما يشير إلى إمكانيّة معالجته بالصّراع الدّيمقراطي وخاصّة من جانب الشقّ الموسوم بـ"التّوريث" والذي شرع بعدُ في عمليّة التّصفية التي يمثّل الكاتب العام للاتّحاد الجهوي ببنزرت أوّل ضحاياها.
ومن غير المستبعد أن تفتح هذه الحملة التصفوية إذا ما تواصلت بنفس الإصرار وروح التّشفّي على أزمة نقابيّة حقيقيّة قد تتّخذ أبعادا أخطر هذه المرّة على الشّغّالين في ظلّ الظروف الاقتصاديّة والاجتماعيّة الجديدة.
مظاهر الأزمة لا تنحصر في مظاهر الصّراع الدّاخلي وتبعاته. بل تتعدّاه في الواقع إلى عدد آخر من المعطيات والمؤشّرات تتّصل بمضمون التّوجّه المراد فرضه على المنظّمة وإخضاعها له وللموقع الذي يحتله الاتّحاد على السّاحة الوطنيّة وطبيعة دوره وأداء القيادة إزاء التحوّلات الجارية على الصّعيد الاقتصادي والاجتماعي والسّياسي وخصوصا على عالم الشّغل ومؤسّسة الإنتاج وانعكاس ذلك على الحقّ والحرّيّات النّقابيّة وعلى أوضاع العمّال الاجتماعيّة والمادّيّة وعلى حالة وعيهم.
إنّ عموم الحركة النّقابيّة في العالم تعاني في الحقيقة من صعوبات كبرى لم تعرفها منذ عقود من الزّمن جرّاء التّحوّلات الجارية منذ ما يزيد عن عشريّتين على نطاق العالم كلّه والتي كانت لها انعكاسات خطيرة ومؤلمة على ظروف حياة العمّال وظروف أداء المهنة وعلى مكاسبهم المادّيّة والاجتماعيّة وكذلك على حقّ الشّغل وحرّيّة النّشاط النّقابي. وقد كانت هذه الانعكاسات أشدّ وطأة وأكثر خطرا بالنّسبة إلى عمّال البلدان الشّبيهة ببلادنا والاقتصاديّات الضّعيفة والتّابعة مثل اقتصادنا.
2 - العولمة اللّيبراليّة الجديدة وأزمة النّقابات
من المعلوم أنّ النّقابات هي مؤسّسة من مؤسّسات النّظام الرّأسمالي أي أنّها كإطار لم تنشأ إلاّ في النّظام الرأسمالي، في اقتصاد الإنتاج الصّناعي الكبير، في نظام تقسيم العمل الجديد الذي ظهر مع ملكيّة وسائل الإنتاج ملكيّة فرديّة رأسماليّة، في نظام الأجرة ونمط الاستغلال الجديد لقوّة الإنتاج. فظهور النّقابات جاء نتيجة لحاجة موضوعيّة أفرزتها تناقضات المجتمع المعاصر، التّناقض بين الملكيّة الخاصّة لوسائل الإنتاج، أموالا ومصانع وعقارات... وبين الطّابع الاجتماعي للعمل، أي مساهمة الغالبيّة العظمى من قوى الإنتاج، غالبيّة المجتمع في النّشاط الإنتاجي. وظهورها جاء في الحقيقة نتيجة تعاظم حاجة القوى المنتجة الواقعة تحت استغلال ملاّكي وسائل الإنتاج كإطار لتنظيم المواجهة من أجل تخفيف عبء هذا الاستغلال وتلطيف وقعه عليهم. وقد شكّل ظهور النّقابات تتويجا لمسار طويل من النّضال والاحتجاجات كانت على العموم عفويّة وفرديّة وغير منظّمة، ثبت لدى الطّبقة العاملة أنّها غير مجدية وقاصرة عن الحدّ من الاستغلال، بل إنّها تحوّلت أحيانا إلى مجلبة لأشكال أخرى من التّعسّف والقمع والقهر المادّي والمعنوي.
فقبل أن تهتدي حركة نضال الطّبقة العاملة إلى بعث إطار الدّفاع والتّكافل والتّضامن، النّقابة، كان العمّال يوجّهون غضبهم لآلات الإنتاج العصريّة التي اعتقدوا أنها سبب مآسيهم. ولم يدركوا أنّ السّبب الحقيقي في ذلك إنّما هو نمط الإنتاج برمّته وتناقض مصالحهم مع مصالح أسياد العصر الجديد أي مع الملاّكين الرّأسماليّين الذين يستغلّونهم ويمتصّون دماءهم وعرقهم ويستأثرون بمنتوج جهدهم وتعبهم ويكدّسون الأرباح من عرقهم. ونتيجة تجربة النّضال المريرة وبفضل الأفكار الثّوريّة أدرك العمّال تدريجيّا أن لا مناص من تنظيم صفوفهم في إطار للنّضال الجماعي كانت النقابات أولى أشكاله. وأمام انتشار وتوسّع نضال العمّال اضطرّ الرّأسماليّون إلى الاعتراف بحقّ التّنظّم النّقابي وبعث المنظّمات النّقابيّة القطاعيّة والوطنيّة والعالميّة حتى لا يتجذّر الوعي العمّالي وينتقل سعيهم من أجل تحسين أوضاعهم إلى العمل على تغيير مجمل النّظام الجديد والقضاء عليه تماما. وعلى هذا الأساس ومن أجل تجنّب الأسوأ لم تتوان البورجوازيّة عن تقديم جملة من التّنازلات لفائدة العمّال تحت ضغط النّضال، ولكن أيضا في شكل مناورة "لتمييع وإفساد الوعي الطبقي" ولحصر النّضال في سقف المطلبيّة والتّحسينات المادّيّة والاجتماعيّة المحدودة وتحويل النّقابات إلى إطار للتّفاهم السّلمي وللتّعاون الطّبقي واستدامة هيمنة رأس المال وسلطته.
ورغم كلّ ذلك فقد أحرز العمّال بواسطة النقابات مكاسب كبيرة في مجال الدّفاع عن حقّ الشّغل وتقليص وتائر الاستغلال والتّنقيص من ساعات العمل وتحسين ظروف أداء المهنة والتّغطية على مصاريف الصحة والعلاج والشيخوخة... ويعود الفضل في ذلك بطبيعة الحال إلى النضالات والتّضحيات التي تكبّدها العمّال. ولكن جملة من الظروف الدّوليّة كانت قد لعبت أيضا دورا لا يستهان به في تحقيق هذه المكاسب وترسيخها وخاصّة بعد أن ظفرت الثّورة العمّاليّة في روسيا واضطرّت البرجوازية العالميّة إلى اتّباع مناهج وخطط تنمية تساعد على معالجة أزمات نظامها وتُضفي على استغلالها "طابعا إنسانيّا" لتحويل وجهة أنظار العمّال في العالم عن طريق الثّورة وعن التّجّار بالثّوريّة الظّافرة في بعض البلدان.
لقد دخل النّظام الرّأسمالي العالمي بعد انتصار ثورة أكتوبر في أزمة حادّة، لا فقط لأنّ الثّورة نجحت في ما يمثّل سدس الكرة الأرضيّة وقدّمت لشعوب العالم قاطبة ولبروليتاريا البلدان المصنّعة الحلّ السّياسي والعملي للخلاص من واقع القهر والاستغلال البرجوازيّين، ولكن أيضا لأنّ الرّأسماليّة نفسها قد تطوّرت تطوّرا بلغت معه درجة عالية من التعفّن والشّوفينية، مرحلة الامبريالية، وأصبحت تناقضاتها الدّاخلية تهدّدها جدّيّا بالانهيار لأنه وكما قال لينين "الامبريالية هي عشية الثورة الاشتراكية" فقيام ثورة أكتوبر وانتصارها حوّل التحليل الماركسي لطبيعة المرحلة على المستوى العالمي من مقولة نظريّة منطقيّة مجرّدة إلى حلّ عملي وبديل ملموس أنجزته بروليتاريا الاتّحاد السّوفياتي بقيادة الحزب البلشفي. وقد أكّد التاريخ ذلك خاصّة عندما اندلعت أزمة 1929 الكبرى التي هزّت أركان الاقتصادالرّأسمالي العالمي.
أمام ذلك اضطرّت الرّأسماليّة العالميّة إلى إجراء "تصحيحات" على مناهج التّنمية الاقتصادية الرأسماليّة وتدبير أمر التّناقضات الدّاخلية الحادّة وتمّ بموجب ذلك مراجعة منهج التّصرّف في سيرورة التّراكم الرّأسمالي اللّيبرالي بإعطاء الدّولة دورا أكبر في عمليّة الإنتاج والتّداول وتعديل السّوق. وضمن هذا التّوجّه الجديد (المدرسة الكينزية) أصبحت مراعاة الجوانب الاجتماعية في التنمية الاقتصادية الرأسمالية من أهم ركائز خطط التنمية. وضمن هذا التّوجّه أيضا منحت النقابات دورا أكبر وقدّمت لها اتّحادات أرباب العمل والدّولة والاحتكاريّون تنازلات منحت للعمّال امتيازات جديدة ولكن دوما في إطار نفس القوانين الاقتصاديّة والاجتماعيّة الرأسماليّة.
لقد تمكّنت الرّأسماليّة طيلة أكثر من ثلاثين سنة من تمويل "الطّابع الاجتماعي" و"المسحة الإنسانيّة" للاستغلال والقهر الرأسماليّين. ولكن كان لا بدّ لمرحلة سنوات الرّخاء الثلاثينية les trente glorieuses أن تنصرم ليعلن مجدّدا عن العودة لليبراليّة الاقتصاديّة المتوحّشة تحت تأثير ثلاثة عوامل أساسيّة هي: الأزمة الاقتصاديّة لخطّة التّنمية الاقتصادية الرّأسماليّة في نسختها الكينزية ونفاذ طاقتها على تمويل طابعها الاجتماعي من جهة وتفسّخ وانهيار الاتّحاد السوفياتي وبلدان أوروبا الشرقية من جهة ثانية وتراجع وضعف حركة التحرّر الوطني وحركة نضال الطّبقة العاملة من جهة ثالثة.
ولدت الليبرالية الجديدة مبكّرا إثر انتهاء الحرب العالميّة الثانية. ووجدت أسسها الفكريّة في كتاب النمساوي فون هايك (الطريق إلى العبودية) الذي يعتبر المرجع المؤسّس لليبرالية الجديدة. وكان صاحبها الذي اتّخذ من الحزب العمّالي البريطاني هدفا لهجومه من منطلق أنّ " الاشتراكية الدّيمقراطية رغم نواياها الحسنة إنّما تحمل العالم إلى نفس الخراب الذي كانت ستحمله إليه النازيّة، إلى العبوديّة العصريّة..." أسّس في بداية الخمسينات من القرن الماضي "جمعية مون بيرلان" بمعيّة أبرز دعاة اللّيبراليّة الاقتصاديّة وألدّ أعداء المدرسة الكينزية و"دولة الرّفاه"، هذه الجمعيّة التي أصبحت الإطار الفكري والنّظري المنظّم للمقولات اللّيبراليّة الجديدة.
ورغم أنّ أعمال هذه الجمعيّة، المخبر الفكري، لم تلق صدى على امتداد حوالي 30 سنة وظلّت مجرّد أطروحات نظريّة لم تعبأ بها حكومات وأحزاب البلدان الرأسمالية، فإنّ أصحابها لم ييأسوا وظلّوا يطوّرون أفكارهم حول "الدّور التّخريبي" للمساواة التي أرستها التّوجّهات الاقتصاديّة الكينزية و"دولة الرّفاه" حتى اندلعت الأزمة الاقتصادية لسنة 1974 والتي سجّلت أكبر نسب ارتفاع للتّضخّم المالي وأضعف نسب نموّ في البلدان الرّأسماليّة الكلاسيكيّة. واعتبروا أنّ أسباب تلك الأزمة ليست سوى الدّور الكبير والسّلبي الذي كانت تلعبه النّقابات والحركة العمّاليّة بصفة عامّة والذي نسف أسس التّراكم الاقتصادي الحر وعطّل الاستثمارات نتيجة المطالب المادّيّة المجحفة والذي أجبر كذلك الدّولة على الزّيادة وبلا حدود في حجم المصاريف الاجتماعيّة والعموميّة "الطفيليّة". وهو ما تسبّب، حسب رأيهم، في القضاء على هامش الرّبح بالنّسبة إلى مؤسّسات الإنتاج ودفعها إلى الزّيادة في الأسعار بما خلق دوّامة من التّضخّم أفضى في النّهاية إلى أزمة عامّة للاقتصاد الرّأسمالي.
وبطبيعة الحال فإنّ الحلّ، دوما حسب منظّري اللّيبراليّة الجديدة، لا يمكن أن يكون إلاّ بإعادة الاعتبار لـ"دولة قويّة" قادرة على كبح جماح النّقابات وعلى التّحكّم في تطوّر ونموّ الكتلة الماليّة، أي ما يستوجب انسحاب الدّولة من كلّ نشاط اقتصادي وحذف النّفقات العموميّة والاجتماعية وفسح المجال للمبادرة الخاصّة و"المزاحمة الخلاّقة" وتمكين مؤسّسة الإنتاج من التّحكّم في كلفة الإنتاج حتى وإن أدّى ذلك إلى ظهور "نسبة طبيعيّة من البطالة" وتعديل السّوق بما تُمليه نجوم السّماء كما يقول الاقتصاديّون الإنجليز القدامى الذين وضعوا أسس الاقتصاد الرأسمالي الليبرالي الكلاسيكي، قوانين السوق، العرض والطّلب.
ومع تعمّق واحتدام الأزمة الاقتصادية تحوّلت المقولات الليبرالية الاقتصادية الجديدة إلى برنامج حُكم كانت "تاتشر" و"رونالد ريغن" أوّل من طبّقه في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية قبل أن يتعمّم تطبيقه في كلّ شمال القارّة الأمريكيّة وفي معظم البلدان الأوروبيّة ثمّ في أمريكا اللاّتينيّة وآسيا واستراليا وزيلندا وكذلك في الاقتصاديات المتخلّفة عبر برامج "الإصلاح الهيكلي" الذي أملته مؤسّسات المال العالمي، صندوق النقد الدولي والبنك العالمي. وأصبحت الليبرالية الجديدة نظاما اقتصاديّا عالميّا ترعاه كبرى الاحتكارات والدّول وكذلك منتديات التّنظير والتّخطيط الكبرى، قمم الثمان الكبار ومنتدى دافوس وغيرهم.
وبالعودة إلى تطبيق قوانين الليبرالية الاقتصادية "الخالصة" من جديد تحت هيمنة الاحتكارات العابرة للقارات والمسيطرة على الدولة وعلى المؤسسات المالية العالمية جاءت أساليب الاستغلال الوحشي التي تقتضي محو آثار المرحلة الماضية أي التراجع في كلّ المكاسب الاجتماعية والامتيازات التي منحت للطبقة العاملة وللكادحين والشعوب. وبات بذلك من الضروري تقليص دور النقابات وتحجيم نفوذها باستعمال أشرس أساليب القمع عند الاقتضاء مثل ما قامت به حكومة تاتشر مع عمّال المناجم الإنجليز وما قام به ريغن حيال إضراب أعوان المطارات الأمريكية.
ووظّف الهجوم المضاد لرأسمال الاحتكاري جملة من المقولات الاقتصادية البحتة مثل العودة إلى العمل بقوانين السوق والمبادرة الحرة وتخلّي الدولة عن دورها التعديلي ووظيفتها الاقتصادية الاجتماعية كراعية للرفاه الاجتماعي والتحكم في النفقات والخدمات العمومية على أساس اعتبار كلفة الإنتاج. وضِمن هذا الهجوم الرأسمالي الليبرالي تراجعت قيمة الأجور وتدهورت المقدرة الشرائية وظروف العمل والتغطية على الصحة والشيخوخة، ولحق حقّ الشغل ضرر كبير فانتشرت البطالة وساءت ظروف العمل والحياة ككل.
في مثل هذه الظروف الجديدة فقدت النقابات كثيرا من أسباب قوتها وبدأت "تفقد الكثير من شرعية وجودها" (حسب بعض الدعايات) خاصة بعد أن راجعت الرأسمالية الضمانات القانونية التي كانت تحيط بالشغل في ظل أنماط التشغيل المستحدثة والتي فجّرت مؤسسة الإنتاج ومقوّمات تشكّل الطبقة العاملة من الداخل.
هذا هو الإطار العام لأزمة النقابات التي اتّخذت طابعا أشدّ بسبب تواطؤ شريحة الأرستقراطية العمالية المهيمنة عليها والماسكة بقياداتها. ولقد عملت البرجوازية على الدوام على إفساد الطبقة العاملة وتفكيك كيانها وتفسيخ وعيها الطبقي وخاصة وعيها بذاتها كطبقة، وتمكّنت بواسطة ذلك من اصطفاء نخب أرستقراطية فاسدة ركّزتها على رأس النقابات لتتحكّم فيها ولتستغلها كأداة لتلطيف الصراعات وإفشال النضالات مقابل مكاسب وامتيازات.
3 - القاعدة الاجتماعيّة للبيروقراطيّة النّقابيّة وللانتهازيّة والإصلاحيّة
ظهر مصطلح "البيروقراطية النقابية" في الأوساط النقابية التونسية منذ منتصف السبعينات وكانت القوى اليسارية وراء ظهوره وراحت تطلقه على القيادات النقابية في الاتحاد العام التونسي للشغل. وقد شاع وانتشر استعماله أكثر فأكثر مع توافد عدد كبير من العناصر اليسارية الشابة خرّيجة حركة الشباب الطلابي، على الحركة النقابية وتطور نشاطها في صلب النقابات وخاصة نقابات البرجوازية الصغيرة في التعليم الابتدائي والثانوي والعالي وعموم قطاع الوظيفة العمومية. وبعد تراجع استعمال هذا المصطلح خلال الأزمة النقابية لسنة 1978 عاد مجدّدا على الظهور بكثافة منذ مستهلّ الثمانينات بمناسبة عودة الحياة النقابية إلى مجراها الطبيعي بعد الحل التصالحي الذي جاءت به حكومة مزالي "التفتحية" لمعالجة ملف أزمة اتحاد الشغل.
إنّ استعمال هذا المصطلح بكثافة طوال العشريتين الماضيتين أدّى إلى تحوّل مفهوم "البيروقراطية النقابية" من مفهوم نقابي له دلالات سياسية طبقية إلى نوع من الشتيمة تُطلق في الغالب على قيادة المنظمة النقابية لتوصيف بعض السلوكات التي يرى فيها النقابيون انتهازية وقضاء مآرب شخصية خاصة. والحقيقة أنّ المسألة أعمق من ذلك بكثير.
إنّ ظاهرة "البيروقراطية النقابية" ظاهرة مرتبطة من حيث منشئها وتطوّرها بالحركة النقابية العمالية، وتترجم أوجها من أوجه الصراع الطبقي بين العمّال والبورجوازية. وهي في بلادنا ظاهرة ناتجة عن تجربة الحركة النقابية وخاصة تجربة الاتحاد العام التونسي للشغل، وانعكاس للصراع الذي قابل بين حركة الطبقة العاملة من جهة والبورجوازية العميلة منذ انتصابها على سدة الحكم السياسي ومسكت بدواليب الاقتصاد في بلادنا من جهة أخرى.
ولا تفعل البورجوازية التونسية في هذا الصدد غير اقتفاء خطى البورجوازية العالمية في البلدان الرأسمالية الكلاسيكية في أوروبا وأمريكا على وجه الخصوص. لقد عملت البورجوازية دوما على تحويل جزء من الطبقة العاملة إلى شريحة أرستقراطية عمالية انتهازية وإصلاحية لها امتيازات خاصة ولها مصلحة في بقاء النظام الرأسمالي، لذلك هي تخشى الثورة العمّالية وتناهضها وتعمل من داخل صفوف العمّال على تعطيلها ومنع قيامها. وتركّز البرجوازية على الشريحة العليا من الطبقة العاملة، شريحة العمّال المهرة، ذوي الاختصاص المهني العالي لتنفق عليهم جزء ممّا تجنيه من أرباح في شكل رواتب عالية وامتيازات مادية أخرى ومهنية ومعنوية لتقطعهم عن أصولهم العمالية. إنّ هذه الامتيازات التي تغدقها البرجوازية على الجزء المتذبذب من الطبقة العاملة ليست سوى رشوة لإفساد هذه الطبقة وخاصة جزء منها لتصبح له مكانة اجتماعية جديدة تدرّ عليه امتيازات خاصة. ولا تكفّ تلك الامتيازات عن إفساد وعيهم وتحويلهم تدريجيا إلى أعداء للحركة يخرّبونها من الداخل ويعرقلون تقدّمها ويمنعونها من تحقيق أهدافها. فالرواتب العالية والامتيازات والمنافع التي تجنيها هذه الشريحة تحوّلها إلى شريحة عمّالية أرستقراطية منقطعة عن بقية العمّال لا فقط اقتصاديا بل وكذلك ايديولوجيا، وتتحول بذلك إلى عجلة خامسة لإعانة البرجوازية على بسط هيمنتها على الطبقة العاملة والمحافظة على سيادتها في المجتمع. وتتبادل البرجوازية والأرستقراطية العمالية الخدمات والهدايا، فالأولى تتنازل لها عن جزء من أرباحها في شكل أجور عالية ومنح ومنافع مادية أخرى وتعيينات في مراكز مهنية وإدارية وسياسية وخدمات اجتماعية وترفيهية، والثانية تتولّى خدمة الرأسماليين بتخريب النضالات وإفشال التحركات والإضرابات بعناوين مختلفة وباستعمال شعارات ومقولات متعددة. وبطبيعة الحال تنتفع البورجوازية ببقاء الحركة النقابية سجينة الرؤية المطلبية الإصلاحية قاصرة عن تقويض نظام الاستغلال البورجوازي، وبالمقابل تنتفع شريحة الأرستقراطية بالحفاظ على مواقعها الممتازة وما تدرّه عليها من منافع وامتيازات مادية مختلفة. أمّا الطبقة العاملة فهي الخاسر الأساسي من هذا التحالف المبني على التقاء مصالح الرأسماليين وعملائهم من داخل الطبقة العاملة، شريحة الأرستقراطية العمالية.
لقد ساعدت البورجوازية دائما القادة النقابيين الذين ارتشتهم وربطتهم بنظامها (تعيينات في مراكز إدارية ومناصب سياسية برلمانية وغيرها...) وأفسدت وعيهم وحوّلتهم إلى أدوات دعاية وتأثير، ساعدتهم دوما على البقاء على رأس المنظمات النقابية ليلعبوا الدور الموكول إليهم. وكي يتسنّى لهم ذلك حوّل هؤلاء القادة منظماتهم إلى أجهزة بيروقراطية ممركزة تأتمر بأوامرهم. ومن هنا جاء مفهوم "البيروقراطية النقابية". إنّ البيروقراطية النقابية هي نمط تسيير وعمل يقوم على مركزة عمل النقابات تحت سيطرة القادة، تحت سيطرة خط/ نظرة/ رؤية الأرستقراطيين العماليين الذين يمنعون العناصر العمالية النشيطة من قيادة الحركات الجماهيرية والتأثير فيها. والبيروقراطية النقابية هي ذلك العدد الكبير من المسؤولين الذين يقع انتخابهم في البداية، وهم من أصول عمالية، الذين حينما يُدركون طبيعة وحجم المنافع التي يحرزونها من جرّاء مواقعهم القيادية، يتّخذون كل الإجراءات الانقلابية، وبالاعتماد على دعم الرأسماليين وأرباب العمل وأصحاب المؤسسات والأحزاب السياسية الحاكمة، لكي يحافظوا على مواقعهم لمزيد الانتفاع ولكن أيضا لمزيد محاربة العناصر الثورية والعمالية النزيهة المناضلة من أجل مصالح الطبقة العاملة.
ويستعمل القادة المتبقرطون كلّ الأساليب الدعائية والمناورات ويركبون كلّ الشعارات البرّاقة (الاستقلالية، النضالية، الديمقراطية) لإيهام العمّال بأنّ مصلحتهم تكمن في انتخابهم دوما على رأس نقاباتهم لقيادتهم. ولكنهم أي البيروقراطيون لا يتوانون عن استعمال "القانون" الداخلي لمنظماتهم وقوانين الدولة لفرض أنفسهم في سدة الحكم النقابي، كما لا يتخلّفون عن تدبير الانقلابات وعن طرد مخالفيهم الرأي (العناصر الراديكالية المناضلة) بالادّعاء عليهم بكلّ الدعاوي والاتهامات الباطلة كتحذير المنخرطين من أنهم "شيوعيّون" و"متطرّفون" و"مسيّسون" يستغلون بساطة وسذاجة العمّال لقضاء مآرب سياسية خاصة وما إلى ذلك من الاتهامات المفبركة. ويستند البيروقراطيون إلى دعم أصحاب المؤسسات وأجهزة الحكم والبوليس لطرد العناصر النقابية المناهضة لهم، ويدبّرون لهم المكائد لسجنهم وحتى لاغتيالهم كي يتخلّصوا منهم.
إنّ البيروقراطية النقابية ليست مجرد شتيمة تُوجه إلى القادة النقابيين بل هي توصيف لما يقوم به هؤلاء القادة من أعمال مختلفة للوصول إلى مراكز القيادة وما يتّبعونه من أساليب للبقاء في تلك المراكز ضد إرادة القواعد ومن أجل مصالهم الخاصة والاستمرار في التمتع بتلك الامتيازات التي تُغدقها عليهم البورجوازية للحفاظ على النقابات أطرا للتعاون الطبقي واستدامة لسيطرة هذه الأخيرة على المجتمع، تمسك بالحكم وتستأثر بملكية وسائل الإنتاج والثروة.
لقد نجحت البرجوازية في نشر مفهوم التعاون الطبقي وجعله الخط السائد، لا فقط في نقابات البلدان الصناعية الكبرى ذات التجارب النقابية العريقة بل وأيضا في البلدان التابعة التي يُعتبر ميلاد طبقة عاملة وحركة نقابية فيها أمرا حديثا نسبيّا. وارتبط انتشار أو تقلّص هذا الخط بتطور الحركة الثورية للطبقة العاملة أو تراجعها في البلدان المصنّعة من جهة أو كذلك بتطوّر أو تراجع حركة التحرّر الوطني في البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة من جهة أخرى. ففي هذه الأخيرة مثلا غالبا ما جلب إليها المستعمر الفكرة النقابية، فنشأت متشبّعة بروح الخط النقابي السائد في المركز ومنظماته النقابية الاستعمارية. وحتى إن تمكّنت الطبقة العاملة الناشئة إثر التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي أجراها على بنيتها الاستعمار المباشر، من بعث منظماتها النقابية الوطنية المستقلة، فإنّ هذه الأخيرة سرعان ما تحوّلت في ظلّ حكومات الاستقلالات الشكلية التي عرفتها هذه البلدان إلى أدوات في يد البورجوازية العميلة لتدجين حركة العمّال وصرف حركتهم النقابية عن خطّها النضالي الاستقلالي الذي نشأت عليه في بداية ظهورها.
وتنطبق هذه الحالة بدرجات متفاوتة من الدقة على التجارب النقابية في البلدان التابعة ولكنها تنطبق بتمام الوضوح على تجربتنا النقابية التونسية، وتحديدا تجربة الاتحاد العام التونسي للشغل.
4 - البيروقراطيّة النّقابيّة في تونس
كما هو معروف انبعث الاتحاد العام التونسي للشغل في قطيعة وتعارض مع النقابات الفرنسية الاستعمارية من الناحية التنظيمية ومن حيث البرنامج والأهداف والمطالب. ولئن أراد لنفسه أن يكون مستقلا عنها وممثّلا حقيقيّا للعمّال التونسيين ينطق باسم حالهم ويلهج بمطامحهم وأهدافهم، فإنّ قادته وخاصة بعد رحيل حشاد لم يتخلصوا من ثقافة العمل النقابي التي تلقّوها في المدرسة النقابية الفرنسية. ولم يقطعوا مع قيمها ومفاهيمها النقابية الفوضوية (anarcho-syndicaliste) التي ميّزت عموم المدرسة اللاتينية التي سادت في بلدان جنوب أوروبا (إيطاليا، فرنسا، إسبانيا). وقد انكشفت هذه الحقيقة بسرعة بعد اغتيال حشاد ووصول البورجوازية العميلة في تونس بقيادة الحزب الدستوري إلى مفاهمات "الاستقلال" سنة 56 وشروعها في بناء دولتها الجديدة.
والحقيقة أنّ الوزن الذي احتلّه الاتحاد العام التونسي للشغل في حركة التحرّر التونسية قبل 1956 والدور الذي لعبه فيها ونقاط التقاطع والتداخل الكثيرة بينه وبين الحزب الدستوري اقتضت أن يكون الاتحاد شريكا أساسيا، بل الشريك الأساسي في عملية بناء الدولة التونسية أجهزة وتصوّرا وبرنامجا. وحتى رجالات القيادة النقابية التونسية، قيادات الاتحاد العام التونسي للشغل، علاوة على أنها في أغلبيّتها كانت إطارات حزبية دستورية، فإنّها اضطلعت بأدوار ومكانة كبيرة في أجهزة الدولة الجديدة وفي اختياراتها، ومن ثمّة قاسمت البورجوازية المحلية العميلة أرباح وفوائد خطط التنمية وظلّت على الدوام لصيقة بها وجزء منها. وبصرف النظر عن جزئيات الصراع التاريخي الذي قابل شقوق البورجوازية الحاكمة ومواقع القيادات النقابية منها فإنّ شريحة الأرستقراطية العمالية المهيمنة على الاتحاد العام التونسي للشغل كانت دائما فاعلا أساسيا في الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المتّبعة في تونس، وكان الاتحاد العام التونسي للشغل مكوّنة أساسية في النظام الرأسمالي التابع. ولكي يظلّ كذلك عملت شريحة الأرستقراطية على إحكام قبضتها عليه حتى لا يخرج من تحت سيطرتها معتمدة سياسة إصلاحية انتهازية وخطّا بيروقراطيا ممركزا وقمعيا وشرسا في أحيان كثيرة.
لذلك وكلما نهضت الحركة العمالية وحاولت مواجهة اختيارات السلطة وخط التهادن البيروقراطي إلاّ ووجدت نفسها حيال قمع مزدوج، خارجي من قبل نظام الحكم وداخلي من طرف البيروقراطية النقابية. وحتى إن وجدت البيروقراطية النقابية نفسها مجبرة على مسايرة الحركة واستغلالها لحسم الصراعات التي تعيشها مع شقوق البورجوازية الخصمة (مثلما حصل في أزمة 26 جانفي 78) فإنّ ذلك لم يمنع الحركة النقابية التونسية من أن تقرن النضال من أجل الاستقلالية بمعركة الديمقراطية الداخلية.
ويمكن القول إنّ تاريخ الحركة النقابية التونسية كان على امتداد الثلاثة عقود الأخيرة هو تاريخ النضال من أجل الديمقراطية الداخلية أكثر من أيّ شيء آخر. ومردّ ذلك أنّ أفواج المناضلين الجدد الوافدين على هياكل الاتحاد وعوا أنّ مفتاح حسم الصراع مع السلطة من أجل تخليص الاتحاد من هيمنتها ومن أجل نيل المطالب المادية إنما يمرّ عبر تحرير الاتحاد من هيمنة الفرق البيروقراطية التي تعاقبت على قيادته.
فكما شهد الاتحاد صراعات ومواجهات ساخنة داخله زمن عاشور في الثمانينات (حملات التجريد) وفي التسعينات وقت السحباني ما تزال ذات الصراعات جارية اليوم من أجل دمقرطة الحياة الداخلية وتخليص المنظمة النقابية من سيطرة النهج البيروقراطي بقيادة جراد وغلاة البيروقراطية.
5 - المسألة الدّيمقراطيّة سبب بارز في الأزمة النّقابيّة
يمرّ الاتحاد العام التونسي للشغل اليوم بأزمة. وهناك مؤشرات كثيرة تؤكّد أنّ هذه الأزمة سائرة نحو الاحتداد. وإذا كان رموز القيادة يؤكّدون في كلّ مناسبة في تصريحاتهم العلنيّة أنّ أوضاع الاتحاد "على أحسن مايرام" فإنهم يعترفون في المنابر الداخلية الضيّقة، يعترفون بوجود مشاكل حقيقة. لذلك يركّزون على "المنجزات" والمكاسب وعلى ضرورة تكتيل الجهود ورصّ الصفوف لصيانة المنظمة من نوايا الذين يتربّصون بها وبمكاسبها.
وكي لا يكون الحديث مجرّد ادّعاء أو افتعال لما هو غير كائن حقّا سنحاول فيما يلي تبيان عناصر الأزمة أو المقدّمات الدالة على أنّ هناك شبح أزمة يتهدّد الاتحاد وهي دلائل مادية تحفل بها الحياة اليومية في الواقع النقابي الرّاهن.
في البداية لا بدّ من القول إنّ الأزمة القادمة – إن حدثت – سيكون مبعثها داخليا أي أنها، على خلاف أزمة 26 جانفي 78 وأزمة أكتوبر 80، سوف لن تكون نتيجة هجوم أو تدخّل سافر من الحكومة والحزب الحاكم بقدر ما ستكون نتيجة تصدعات داخلية والتي تتحمّل البيروقراطية النقابية المسؤولية الأولى والكبرى فيها.
لقد نجحت الدكتاتورية الحاكمة في تصدير عوامل الأزمة إلى الداخل ليكون مبعثها الاختلافات الحادة حول مناهج التسيير وطرق العمل رغم أنها، أي السلطة، هي الراعية لهذه الخلافات بصورة مباشرة وغير مباشرة. فكما فعلت سنة 2001 حين حرّضت شقّا من القيادة النقابية بقيادة جراد على الانقلاب على السحباني وإرغامه على الانسحاب لتحاكمه في ما بعد بعنوان سوء التصرف، وهي التي أمرته بذلك وشجّعته عليه وأدخلت الاتحاد في أزمة استوجبت عقد مؤتمر جربة الاستثنائي تتويجا لمسار التصحيح المزعوم، فإنها اليوم تقف بثقلها وراء التّحريض على افتعال أزمة للتخلص من قرار جربة/ المنستير الخاص بالدورتين. والذين يحصرون الصراع الدائر الآن داخل الاتحاد حول هذه المسألة في رغبة علي رمضان وجراد عن التراجع عن هذا القرار يخطئون جسيم الخطأ ولا يدركون المغزى الحقيقي لهذا الصراع.
فكما شاع في الأوساط النقابية، تضغط السلطة على قيادة الاتحاد للتعجيل بفسخ البند الخاص بالدورتين من القانون الأساسي بكل الطرق حتى تضمن عودة القيادة الحالية على رأس الاتحاد في المؤتمر المقبل سنة 2011. وربما ألمحت لها أكثر من مرة أنها ليست مستعدة لمنحها هدايا الآن (بخصوص المفاوضات الاجتماعية أو في ملفات أخرى) لتراها ترحل بعد سنوات تاركة مكانها لقيادة جديدة لا تعلم السلطة شيئا عن طبيعة توجّهاتها وعن مدى استعدادها للتعاون معها كما دأبت عليه القيادة الحالية.
إنّ السلطة متوجّسة ممّا قد ينتج عن عدم السماح لأعضاء القيادة الحالية بالترشّح لما بعد مؤتمر 2011 بسبب تطبيق البند الخاص بالدورتين. ومردّ خوفها هو احتمال صعود قيادة جديدة شابة تضمّ عناصر مناضلة غير مستعدة لانتهاج نفس نهج التواطؤ الذي اتّبعته البيروقراطية الحالية معها لتمرير خياراتها وهو النهج الذي تدرك السلطة أهميته والذي خبرت فوائده طيلة أكثرمن 20 سنة.
إنّ إقدام القيادة الحالية على القيام بكلّ شيء من أجل التراجع في بند الدورتين يكرّس في الحقيقة التقاء مصالح السلطة بمصالح القيادة، وإذا كانت السلطة لا تقبل برحيل عملائها عن قيادة الاتحاد وما قد يترتب عنه من مصاعب لها هي في غنى عنها فإنّ البيروقراطية لا تريد التّخلّي عن موقعها الذي طالما درّ عليها المنافع والامتيازات.
إنّ مسعى إعداد الظروف لإعلان التراجع عن قرار جربة/ المنستير بخصوص الدورتين (حملة التجريد والعمل على تغيير موازينا لقوى داخل الاتحاد قبل انعقاد المجلس الوطني أو المؤتمر الوطني الاستثنائي أو العادي) إنما يخدم مصلحة السلطة أوّلا والبيروقراطية ثانيا، لذلك هو مسعى أمرت به السلطة ويجري تنفيذه بأياد نقابية، ويحاول كلّ منهما إعطاءه الطابع "النقابي الداخلي" حتى لا تظهر السّلطة بمظهر المتدخّل المباشر في شؤون المنظمة إدراكا منها لحساسية المسألة وحتى تظهر البيروقراطية حريصة على استقرار الاتّحاد وسلامة الحياة داخله.
والواقع أنّ الإصرار على هذا التّمشّي ماانفك يعمّق الخلافات داخل الاتحاد ويقسّم صفوف النقابيّين بين مؤيّد له ومناهض. علاوة على أنه يُلهي المنظمة بمثل هذه الصراعات الداخلية عن مهامها الحقيقية، بينما الأوضاع المادية والاجتماعية قد تدهورت بصورة لافتة. فالمقدرة الشرائية لعموم الأجراء شهدت تراجعا حادّا جرّاء الزيادات المتتالية في الأسعار. والبطالة انتشرت بنسب مفزعة جرّاء انسداد آفاق التشغيل وتفاقم حملات الطرد والتسريح. وظروف العمل ساءت بشكل بليغ في ظلّ هيمنة أشكال التشغيل الهشّة، وأصبحت ظروف النشاط النقابي عسيرة جرّاء التقييدات والتعدّيات على الحق النقابي وعلى الحريات بصفة عامّة، وهو ما يملي على الاتحاد أكثر من أيّ وقت مضى تحمّل مسؤولياته لحماية حقّ الشغل والحياة وكرامة العمّال.
فإصرار القيادة على صرف الاهتمام إلى جوانب الحياة الداخلية وحصرها في الصراع حول مسألة الدورتين بعث ويبعث لدى جزء من النقابيين ولدى عموم العمّال شعورا بالخيبة والنفور من النشاط النقابي، الأمر الذي من شأنه أن يضرب مصداقية الاتحاد في العمق ويؤدّي إلى فراغ هياكله من المنخرطين ومن المسؤولين ويُضعفه ويُحوّله إلى جهاز بلا روح وعاجز عن مواجهة تبعات التحولات الاقتصادية والاجتماعية الجارية على اقتصاد البلاد وكذلك مواجهة أي هجمة قد تشنّها السلطة على المنظمة لتفكيكها وشلّها.
إنّ المتحمّسين من البيروقراطية وتوابعها لمراجعة مسألة الدورتين متجاهلين ما سينتج عن هذا الصراع من إضعاف للصف النقابي، إنما يضعفون المنظمة ويهيئونها للتلاشي والانحلال ويشجّعون بصورة صريحة على التعددية والانقسام والانشقاق.
وحريّ بالاتحاد أن يأخذ مأخذ الجد المحاولات الجارية الآن لبعث أطر نقابية موازية سواء منها تلك التي قد أعلنت عن نفسها بعدُ أو تلك التي ما تزال في مستوى النوايا لشعور أصحابها بانسداد أفق العمل داخل الاتحاد أو بسبب طردها والتعسّف عليها من قبل القيادة أو من أطراف داخلها تتمتّع بنفوذ خاص.
وإذا لم يتيسّر للمحاولات التي أعلنت نفسها أن تستجلب لها أعدادا كبيرة من المنخرطين فإنّ المزيد من التعسّف على النقابيين، مهما كانت المبرّرات، من شأنه أن يقضي على ما تبقّى من أمل لدى البعض في إصلاح الأوضاع الداخلية للاتحاد. وقد تجد نفسها مدفوعة دفعا إلى الانسحاب سواء للالتحاق بتلك التجارب التعددية أو لخوض غمار تجارب أخرى. وممّا لا شكّ فيه أنّ إذكاء نار الصراعات الداخلية إنما يُنضج الشروط الموضوعية للتعدد النقابي ولتفتيت الوحدة العمالية في ظروف اقتصادية واجتماعية وسياسية صعبة تستدعي أكثر ما تستدعي وحدة العمّال ووحدة نضالهم.
وانعدام الوعي بذلك أو التّعامي عنه بتبريرات غير مقنعة لدى شق البيروقراطية الذي يصرف كلّ جهوده في تشغيل لجنة النظام وإصدار المناشير الداخلية للتضييق على حريّة العمل النقابي في هياكل الاتحاد من المؤشرات التي لا تبعث على الأمل بقدر ما تؤكّد أنّ الاتحاد والحركة النقابية التونسية مقدمة على أزمة لا يمكن الآن التكهّن بميقات اندلاعها ولا بدرجة الضّرر الذي ستلحقه بالاتحاد وبالحركة النقابية ككلّ وبالعمّال بصورة أعم.
ولكن ما لا جدال فيه هو أنها ستكون ذات كلفة غالية بالنسبة إلى الاتحاد وإلى العمّال وإلى عموم الشعب التونسي.

المحرس – ماي 2008