-كل أرض ... ولها ميلادها-


خالد بطراوي
2024 / 2 / 18 - 16:21     

ذات يوم كنت أجلس مع والدي – رحمه الله – عندما أتى لزيارتنا شاب يافع – آنذاك – ودار حديث وصل الى أحدى الشخصيات الفلسطينية اليسارية.
عندها إنتفض هذا الشاب اليافع منتقدا الشخصية اليسارية ناعتا إياه بالمتخاذل والرجعي المرتمي في أحضان اليمين.
بهدوئه المعتاد، إستفسر منه والدي إن كان هذا الشاب "الثورجي" يعرف هذه الشخصية وإن كان قد إلتقاه أو إستمع إليه أو تحاور معه. ولما كانت الإجابة بالنفي، عاد والدي مستفسرا إن كان هذا الشاب قد إنتبه لوجود تشوهات في وجه هذه الشخصية وإن كان يعرف سبب هذه التشوهات. فلما كانت الإجابة بالنفي أردف والدي قائلا أنها تشوهات نجمت عن إنفجار طرد بريدي في وجهه عام 1972 أرسله له الموساد الإسرائيلي.
إلتزم الشاب اليساري "الثورجي" الصمت وكانت رسالة والدي – رحمه الله – مبطنة تفيد بضرورة إحترام كل شخص مهما قدّم ومهما إختلفنا معه في الرأي طالما أن هذا الشخص بقي في دائرة العمل الوطني ولم يرتم في درك العمالة.
"إتقوا النار ولو بشق تمره، فمن لم يجد فبكلمة طيبة" هي وصية صلوات الله عليه وسلّم.
لذلك أيها الأحبة، وفي تداعيات وردود الأفعال حول العدوان على أهلنا في قطاع غزّة ينبغي علينا أن نرى ونضع الأمور في نصابها الصحيح، فلا مجال هنا للملامة أو التخطيء أو المحاسبة في الوقت الراهن، ولا مجال أيضا في المغالات بالتوقعات والتحليل الذي تطرب له آذان المستمعين، ولا مجال للمزاودة، ولا مجال لأي شيء أو فعل، إلا لتكريس كافة الجهود لهدف واحد وحيد ألا وهو وقف العدوان وتجنيب أهلنا في قطاع غزّة المزيد من الويلات والكوارث.
كل جهد يجب ان لا يستهان به وهو ركيزة للبناء عليه لجهود إضافية أخرى تنطلق بالأساس من قناعتنا أن معركتنا مع الإمبريالية ورأسها حربتها في المنطقة كيان الاحتلال الغاصب هي معركة طويلة الأمد، وهي مسألة وجود تحتاج الى طول النفس والإدراك التام للظروف الذاتية والموضوعية وبلورة الإستراتيجية والتكتيك على هدي دراسات رفيقنا العراقي نهاية سبعينات القرن المنصرم الرفيق صالح مهدي "سعد صالح" تحت عنوان " في الاستراتيجية والتكتيك الثوريين".
ثمة مسألة أخرى تكتسي أهمية كبرى هذه الأيام تتعلق بعدم المغالاة في التوقعات وتضخيم الإنجازات ورؤية أي حدث في سياقه الميداني العملياتي من ناحية وظروفه الذاتية والموضوعية من ناحية أخرى بالإضافة الى تداعياته ونتائجه وإستخلاص العبر والنتائج.
وفي هذا السياق لا يستقيم أبدا إسقاط تجربة بلد ما على بلد آخر أو حقبة زمنية على الحقبة الحالية، فلا يستقيم هنا أن نراجع كتاب " كيف إنتصر الفيتكونغ" ونتحدث عن تجربة التحرير الفيتنامية كما لو أننا نريد تطبيقها حرفيا على أحداث السابع من أكتوبر الى الان، ولا يستقيم أيضا أن نتحدث عن ثورة المليون شهيد في الجزائر ( رغم أن عدد الشهداء أكثر بكثير) عام 1954 ضد المحتل الفرنسي الذي ظل يحتل الجزائر لمدة 132 عاما بالقول أن ظروفها تنطبق على المد الثوري في السابع من أكتوبر عام 2023.
كتب الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش قصيدته " عن الأمنيات" التي تقول:-
لا تقل لي
ليتني بائع خبر في الجزائر
لأغني مع ثائر
لا تقل لي
ليتني راعي مواشٍ في اليمن
لأغني لانتفاضات الزمن
لا تقل لي
ليتني عامل مقهى في هافانا
لأغني لانتصارات الحزانى
لا تقل لي
ليتني أعمل في أسوان حمّالاً صغير
لأغني للصخور
يا صديقي
لن يصب النيل في الفولغا
ولا الكونغو، ولا الأردن، في نهر الفرات
كل نهر، وله نبع... ومجرى... وحياة
يا صديقي... أرضنا ليست بعاقر
كل أرض، ولها ميلادها
كل فجر، وله موعد ثائر

ربما ومن خلال هذه القصيدة لخّص الراحل محمود درويش جدلية وديالكتيك الحياة ومعادلات النضال ضد الإمبريالية، وربما أضاف على هذه الرؤيا شاعرنا الكرمي عبد الناصر صالح عندما ذكر في قصيدته " المجد ينحني أمامكم " واصفا معتقل أنصار 3 في صحراء النقب بالقول :-
هو السجن
مدرسة للنضالات
إضبارة للعلاقات
شمس تخلف أجسادنا
مضغة للسواد.
لذلك كله ... أيها الأحبة .. يجب أن لا نجعل من أجساد أهلنا في قطاع غزّة ومعاناتهم مضغة لكلام وأحاديث وتحليلات الصالونات السياسية وأولئك الثوريين المتمترسين خلف شبكات التواصل الإجتماعي المغالين في توقعاتهم ومطلقي المقولات الثورية الرنانة وهم يحتسون "النسكافيه" في المقاهي الدافئة بتكلفة تكفي عائلة غزّة لتأمين قوت يوم واحد لها ... إن توفر الطعام.