ضوء رواية / الجمعة


ذياب فهد الطائي
2024 / 2 / 14 - 14:21     

الجمعة 03-07 -2022
الساعة الثانية عشر


تم اخراجي من غرفتي على السرير الذي كنت ارقد عليه ،الممر الطويل في الطابق الثاني مضاء بطريقة مبالغ فيها والجدران المطلية بلون ابيض كانت لامعة
كنت أشعر إني أواجه موقفا فارقا لأن وجه الدكتور كان مشدودا وهو يعلمني انهم سيقومون بفحوصات عن طريق أجهزة حديثة للتأكد من سلامة الدماغ ، لم يكن الموضوع مقلقا لأني تجاوزت مرحلة الخوف على حياتي
كنت في السنة الأولى من دراستي المتوسطة حين تعرضت لألم شديد بسبب التهاب أحد اسناني، احالتني الإدارة الى المستوصف القريب من المدرسة ..جلست انتظر دوري وكان مكان جلوسي مقابل باب طبيب الاسنان ...خرج رجل يتوجع ولكن ما اثار الرعب في قلبي هو الأجهزة التي كان يقف عندها طبيب اسمر اللون ضخم الجسم بملامح كأنها تعرضت لعملية فوضوية لتعطي انطباعا بالخوف ...بدا لي الطبيب العملاق مرعبا وشعرت بانه ربما سيقلع اسناني بيديه
دخلت فتاة من الواضح انها طالبة في المتوسطة أيضا ....شعرت بشيء من الاحراج وانا ارقبها تدخل بخطى ثابته
حين خرجت لحقت بها في الممر
-هل تسمحين بسؤال
نظرت نحوي باستغراب وهي تنزل يدها التي كانت تضعها على فكها
-نعم
-هل قلعت أحد اسنانك ؟
-نعم
- ولكن كيف تحملت الألم ؟
ربما أدركت خوفي فقد ابتسمت
-قبل قلع السن هناك إبرة مخدر تجعلك لا تشعر بالألم
فكرت .....اذا كان بإمكان الفتاة فعل هذا ،فلماذا أنا مرعوب ،كان الدرس الأول في امكان فعل شيء ما، ظل يلازمني طوال حياتي
كان الجهاز الذي ادخلوني به وأنا ممدد اشبه بكبسولة فضائية وهو يصدر أنينا متقطعا فيما يتحرك الحزام الناقل ببطء شديد وكان الجهاز يفحص كل خلية في جسدي ، شعرت بخدر لذيذ يأخذني الى طفولتي وأنا اسبح في نهر ديالى ..استلقي على ظهري محركا يدي ببطء ووجهي وحده فوق الماء فيما تداعب شعري موجات رخية تصنعها حركتي وأنا اجذف مندفعا مع التيار
حين نخرج من الشط ننشغل بقطف حبات الخيار المزروع على امتداد الشاطئ وحتى الجسر الحديدي الذي يعبره القطار الذي كنا نسميه القزم لأنه كان يسحب عربتين
كان شخص يجلس الى جانب الجهاز يشتغل على كمبيوتر بشاشة كبيرة ويحرك أصابعه فوق الجهاز بخفة احترافية مركزا بانتباه عال على الأرقام التي يسجلها الجهاز أمامه،
ليس من السهل معرفة الوقت الذي قضيته داخل الجهاز حين توقف، فقد كنت أعود الى غيبوبتي الواعية فافقد الإحساس بالوقت الذي يمر وكأنه بعيد عني ،سألت الممرض الذي يدفع سريري الى الغرفة عن نتيجة الفحص ،قال انه لا يعرف شيئا وعادة تظهر النتائج بعد ست ساعات على الأقل وغير مصرح للحديث عنها الا للدكتور احسان في حالتك أنت
إذا طبيبي اسمه احسان ...وهذا ربما يكون مطمئنا لأن الاسم بمدلوله ....قالت الممرضة الهندية والتي كانت ابتسامتها ما تزال مزروعة فوق شفتيها ، ولكن لأنها كانت متعبة لم تكن ممتدة الى عمق عينيها ،كانت محصورة في شفيها المنفرجتين حيث بدت اسنانها ناصعة البياض
-اتصل الدكتور احسان وقال انه سيحضر بعد ساعتين
كانت تنقل خبرا دونما اية مشاعر متعاطفة وكأنها تصرّ على اشعاري بأنها محايدة تماما وهي ليست اكثر من ممرضة تؤدي واجبا ، أشعرني هذا بشيء من تعكير المزاج فقد كنت انتظر منها تطمينا بعد تصرفها الإيجابي والمتعاطف أمس
-في أي يوم نحن
-الجمعة
هذا يعني اني هنا منذ أمس ،طلبت منها كأس ماء ،حين جلبته وضعته على الطاولة الى جانبي وفقدت الرغبة بشربه
فكرت أن أسألها عن سبب تغير مزاجها ولكني شعرت بتخاذل في قواي وارتفاع حدة الطنين ، كانت انتصار تقوم بتدليك رقبتي حين أحس بالتعب أثناء قيادة السيارة ونحن نسافر بين بغداد والحلة ...رغبت بذلك الان بقوة ....لم استطع طلبه من الممرضة الهندية
قال أبي- لماذا لم تذهب اليوم الى المدرسة ؟
قلت- لان مدرس التاريخ قرر ان يأخذ طلاب الخامس الابتدائي للسينما وانت ترفض ذلك
قال -ولكن الثورة الفرنسية جزء من المنهاج الدراسي
-هل يعني اني يمكن ان اشاهد السينما
-نعم
بعد هذه الموافقة كنت اذهب كل أسبوع للسينما بحجة الثورة الفرنسية ،
قالت امي – هل هناك يوميات مسجلة للثورة الفرنسية ؟
-لا اعرف ، ولكن لماذا ؟
-لأنك تذهب كل أسبوع
-يقول معلم التاريخ إن الثورة الفرنسية هي أطول ثورة في العالم
توقفت أمي عن الحديث ...وجدت إني تعلمت الدرس الثاني في حياتي

كان الطبيب يقف عند رأسي وهو يدقق النظر في مجموعة من الصور الشعاعية وورقة عليها رسوم بيانية متقاطعة ورموز على مساراتها
كنا في درس الإحصاء في كلية التجارة والاقتصاد ، كان الأستاذ يقف عند السبورة يخط موضوع المحاضرة ،كتب (نظرية الاحتمالات ) ، احتجت طالبة كانت تصر ان تجلس في الخط الامامي ...موضوعنا اليوم الاقتران!!!!
توقف الأستاذ وشمل الجميع بنظرة مستفهمة وقال :الانسة تريد الاقتران
ضج الجميع بضحكات ساخرة، تابع الأستاذ :انستي لماذا الاستعجال ؟
قال الطبيب :عزيزي الحاج
كانت نبرة صوته تعلن عن خبر لا يمكن وصفه بانه مطمئن
-ارجو الا تنفعل ....ولكن وضعك الصحي صعب
-ليس أمامي إلا أن أسمع الاخبار المحزنة ....أعرف إن ما تبقى من العمر يشرف على النهاية والنهايات المثيرة هي المحزنة كما إني اعتقد إن للموت مواقيت لا علاقة لها بوضعنا الصحي وإلا كيف غادرتنا انتصار وهي لا تشكو من اية أمراض في حين أظل أنا الذي اعاني من مجموعة منها ،
ربما لأني لم أكن أقف عند حدود المشاكل التي اواجهها و كنت ابحث عن حلول لها وكانت انتصار تقول اني املك قدرة استثنائية على التأقلم،
تطلعت الى وجهه
– فقط ارجو أن تخبرني بكل ما عندك دكتور
قال- لديك ارتجاج في المخ وقصور في القلب وليس في قدرتنا اجراء عمليات لمعالجة ما تعاني منه بسبب انك تعاني من السكري فضلا عن تقدمك في العمر...يمكن ان نعطيك المسكنات المتوفرة
تذكرت أبي الذي كان لا يؤمن الا بالكي ...كنت أراه حينما يضع سيخ الكباب على النار حتى يحمر ثم يرفعه ليضعه على ساقه وتنتشر رائحة حرق اللحم (الشعواط )
-لابأس دكتور ، ولكن متى أخرج من المستشفى ؟
-بعد ثلاثة أيام وستزورك الممرضة مرتين في اليوم
-أشكر اهتمامكم ولكن قد لا تسمح ظروفي المادية بدفع التكاليف
-لقد تكفل صديقك بذلك
- من المهندس رياض؟
-لا خضير
-ولكني لا اعرف خضير
-الرجل الذي زارك مرتين
-شكرا
حين خرج الطبيب طلبت من الممرضة هاتفي لأني نسيت أين وضعته ، فكرت أنه لابد من الاتصال برياض لأنه الوحيد الذي يمكن أن يتابع مراسيم مغادرتي الحياة ، ابنائي منشغلون ، ظل الهاتف يرن ولكن لا جواب....تركت له رسالة على اكثر من موقع طلبت فيها ان يتصل لأني في مستشفى الشفاء الأهلي ووضعي حرج
شعرت بأني أعود الى الغيبوبة ولكن هذه المرة لم تكن واعية ، كما شعرت إني أتقيأ على نحو لا إرادي
حين عدت أرى ما حولي كانت ساعة هاتفي تشير الى الخامسة مساء فيما اجتاحني شعور بالسكينة والراحة ولكن حين حاولت ان امسك بقدح الماء الى جاني سقط من يدي محدثا صوتا حادا متكررا
الممرضة التي جاءت مسرعة لم تكن الهندية ،كانت امرأة ربما تجاوزت العقد الرابع ممتلئة عيناها واسعتان تدوران بشكل ملفت
-كان بإمكانك أن تضغط على الجرس
كان في صوتها رنة عتاب لم أرتح لها
-أين الممرضة الهندية ؟
شملتني بنظرة حادة
-الكل يسأل عن الهندية ...
لم أعلق فقد دار بخلدي إنها ستسمعني كلاما أنا في غنى عنه
-لقد ابدلت فراشك ...تقيأت أكثر من مرة
-هل قال الطبيب هذه علامة سيئة
-لا أعرف !!!!
-هل انت بحاجة الى شيء
كانت قد أنهت جمع زجاج الكأس المبعثرة ومسحت الماء
صوت الهاتف يعلمني اني استلم رسالة على الوتس اب
-هلا ناولتني الهاتف
كانت رسالة من رياض يقول فيها إنه في دبي ولم يجد مكانا على رحلات اليوم المباشرة ولهذا حجز على السبت وسيكون عندي بعد الظهر
شعرت بارتياح فعلى الأقل سيحضر من سيعتني بتوديعي في الليلة الأخيرة لي