الشعوبية تبعث من جديد


داخل حسن جريو
2024 / 2 / 13 - 07:23     

يولد الناس أحرارا وينبغي أن يعيشوا أحرارا ويتمتعوا بحياة حرة كريمة, دون أي تمايز بسبب اللون أو العرق أو العقيدة , فليس هناك سادة أو عبيد في مجتمعات تحكمها قوانين الأرض وشرائع السماء بعدالة, كما يؤكد ذلك الله سبحانه تعالى في القرآن الكريم :
بسم الله الرحمن الرحيم
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ . صدق الله العظيم .
ولا شك أن لكل شعب مزاياه وخصائصه وحضارته التي تكونت عبر العصور في مراحلها المختلفة وما رافقها من أحداث سلبا وإيجابا , فكما هو معلوم أن لكل حضارة بريقها في مرحلة ما ,وإنحدارها في زمن آخر ,لتحل محلها حضارة أمة أخرى وهكذا هو حال البشرية منذ الأزل . وهذا يقودنا إلى القول أنه ليس هناك أمما راقية وأخرى متخلفة بالفطرة ,كما يروج ذلك بعض دعاة العنصرية المتعصبين بدعوى تفوقهم المطلق في كل عصر وزمان على ما سواهم , وسعيهم لإستعباد الشعوب الأخرى وتسخيرها لخدمتهم كحق طبيعي لهم .
والمعروف تفاخر القبائل العربية بأنسابها وأحسابها منذ قديم الزمان وحتى يومنا هذا , وشعورها بالأفضلية على ما سواها . جاء الدين الإسلامي لتوحيد الناس ، وأن لا فرق بينهم سوى بالتقوى. عادت العنصرية العربية في زمن الدولة الأموية بتمييز العرب باستلام المناصب القيادية، فقد أثارت هذه الفترة حقد أبناء القوميات الغير عربية وبخاصة الفارسية , مما دفعهم إلى بث روح الكراهية للعرب عامة عبر حركة إجتماعية عرفت بالشعوبية .
الشعوبية هي حركة اجتماعية قومية ظهرت بوادرها في العصر الأموي، إلا أنها ظهرت للعيان في بدايات العصر العباسي. وهي حركة من يرون أن لا فضل للعرب على غيرهم من العجم. وقد تصل إلى حد تفضيل العجم على العرب والانتقاص منهم . قال عنها القرطبي هي حركة «تبغض العرب وتفضل العجم» وقال الزمخشري في أساس البلاغة: «وهم الذين يصغرون شأن العرب ولا يرون لهم فضلاً على غيرهم». تعرف الموسوعة البريطانية الشعوبية بأنها كل اتجاه مناوئ للعروبة . كان الشعوبيون يسمون حركتهم «حركة التسوية» (التسوية بين حقوقهم وحقوق العرب). ويرى المفكر الإسلامي الإيراني علي شريعتي أن الحركة الشعوبية تحولت تدريجيا من حركة تسوية إلى حركة تفضيل العجم على العرب وعملت عبر ترويج المشاعر القومية وإشاعة اليأس من الإسلام إلى ضرب سلطة الخلافة . كانت النزعة الشعوبية واسعة وقوية بين الفرس لعدة أسباب منها: أنه في عصر الفتوحات الإسلامية، كان الفرس أكثر تحضراً من العرب، وأكثر مدنية، فنما لديهم شعور بالاستعلاء يعمق نزعة التعصب لديهم بعد أن قام المسلمون ممثلون بالعرب بالسيطرة على بلادهم، كما أن الفرس قد دخلوا الإسلام بأعداد هائلة فتشكلت منهم أكثرية عددية بين الموالي . ومما يقوله الفردوسي في «الشاهنامة»: «من شرب لبن الابل وأكل الضب؟ بلغ العرب مبلغاً أن يطمحوا في تاج الملك؟ فتباً لك أيها الزمان وسحقا . يقول الباحث الفارسي ناصر بوربيرار: «كل الحركة الشعوبية هي من صنع اليهود. وقد صنعتها بقايا الساسانيين الذين هربوا إلى خراسان بعد هزيمتهم أمام جيوش المسلمين .
وفي منتصف القرن العشرين ظهرمصطلح الشعوبية الحديثة لتسمية المحاولات الحديثة للقوميات الأخرى, من مواطني البلدان العربية الذين عاشوا في كنف تلك البلدا ن في السراء و الضراء منذ زمن طويل شأنهم شأن الآخرين دون تمييز , وتقلدوا مناصب قيادية رفيعة في الدولة والتنظيمات السياسية والفعاليات الإجتماعية المختلفة بحسب مؤهلاتهم وقدراتهم وتوجهاتهم وإستحقاق كل منهم دون منة من أحد . ولا ننكر هنا تعرض البعض منهم أحيانا إلى التعسف وبعض المضايقات ومصادرة بعض الحقوق من قبل حكومات تلك البلدان , لكن ذلك لم يقتصر عليهم فقط بل كان شاملا لجميع مواطني تلك البلدان دون إستثناء , بحكم طبيعة نظمها السياسية الإستبدادية الشمولية .
يبدو أن حكومات الدول الإستعمارية وقادة الحركة الصهيونية وبعض حكومات الدول الأجنبية المعادية للبلدان العربية وجدت ضالتها بتوظيف ورقة الإقليات الأثنية والدينية والطائفية بوجه تلك الحكومات كلما إقتضت مصالحها ذلك , تارة بدعوى حقوق الأقليات القومية بوصفها مجاميع بشرية مضطهدة , وتارة بدعوى إضطهادها دينيا أو طائفيا , بينما تتمتع هذه الأقليات بحقوق المواطنة الكاملة التي يحسدها عليها الكثير من مواطني تلك البلدان المفترية بحق الكثير من بلداننا العربية ,على الرغم من قساد وتعسف حكومات البلدان العربية تجاه مواطنيها دون إستثناء .
كما نقول أن لا مصلحة لتلك الأقليات بشن حملة شعوبية ظالمة وفبركة شائعات وتوجيه إتهامات باطلة تجاه مواطنيهم العرب الذين عاشوا معهم بود وإحترام , وإستقبلوا الكثير منهم القادمين إليها لاجئين مطرودين من بلدان أخرى .
وقد أثبتت الوقائع والأحداث عدم جدوى الإتكاء على الدول الأجنبية لنيل المطالب المشروعة , إذ سرعان ما تتخلى عنها عندما تقتضي مصالحها ذلك . ولعل تخلي شاه إيران عن دعم التمرد الكردي عام 1975 الذي أدى إلى إنهياره بسرعة البرق, بعد عقد ما عرف بإتفاقية الجزائر بين الحكومة الأيرانية والحكومة العراقية التي نجم عنها خسارة العراق حقوقه التاريخية في شط العرب, بتنازله عن نصف مجرى الشط المحتل أساسا من قبل إيران منذ العام 1969 , إلاّ خير شاهد ودليل , وكذلك فشل مشروع إستفتاء حكومة إقليم كردستان العراق عام 2017 حول تقرير المصير. لتمهيد الإعلان عن إنفصاله لاحقا عن العراق ,عند إنضاج متطلبات ذلك , بسبب عدم تأييد الولايات المتحدة الأمريكية لهذا المشروع , لتعارضه مع مصالحها في المنطقة في ذلك الوقت حيث كانت حكومة الإقليم تعول كثيرا على هذا التأييد .
وفي الختام نقول أن مصلحة الجميع تكمن بتضامن القوى الوطنية المتطلعة إلى الحرية والديمقراطية والعيش الآمن الكريم لجميع الناس دون إنتقاص لكرامة أو مساس بحقوق أي منها , بالنضال المشترك ضد كل أشكال التفرقة والإضهاد العرقي أو الديني أو الطائفي , والدعوة لبناء مجتمعات مدنية حرة يتمتع فيها الناس بحياة كريمة وعيش رغيد وأمن وأمان , ونبذ كل أشكال الخطاب السياسي المحرض على العنف والحقد والكراهية , وتفتيت الأوطان التي لا تخدم سوى المستعمرين ومثيري الفتن وتجار السلاح . تبا لكل حاقد لئيم .