ضوء على العلاقة بين عبد الكريم قاسم والحزب الشيوعي العراقي


فاضل عباس البدراوي
2024 / 2 / 10 - 20:50     

يوم ٨ شباط المشؤوم من عام ١٩٦٣ كان يوما مفصليا في تاريخ العراق الحديث، كلما يعود بنا ذكرى ذلك التاريخ من كل عام نستذكر فيه ضحايا الانقلاب الفاشي الاسود والذي غيَّر مجري التاريخ السياسي للعراق ونعيش تداعياته حتى يومنا هذا.
هل علينا فقط ان نستمر في البكاء على الاطلال، وعلى ما جرى في ذللك اليوم الاسود من إبادة جماعية وانتهاك فض لحقوق الانسان علي يد عصابة فاشية مجرمة نفذت جريمتها بتمويل ودعم من الامبريالية العالمية ونظام عبد الناصر الدكتاتوري دون ان نؤشر عن الاسباب الحقيقية التي سهلت للمتأمرين من الاستيلاء على السلطة بتلك السهولة ام نشخص بشجاعة مسؤولية القوى السياسية بالاخص الحزب الشيوعي العراقي والزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم عما جرى؟

هذه شهادة شخصية مني انا الذي عايشت تلك السنوات والاشهر والايام التي سبقت وتلت ثورة ١٤ تموز عام ١٩٥٨ حيث كنت كادرا وسطيا في الحزب الشييوعي العراقي (عضو اللجنة العمالية للمشاريع الصغرى) ربما شهادتي هذه لا تعجب البعض لكن ذلك لا يمنعني ان أضع النقاط على الحروف توخيا للحقيقة التاريخية التي يتهرب منها البعض، وأقول لهؤلاء الاخوة والرفاق ألم يحن الوقت لكشف كل الاوراق دون قفز على الحقائق او مجاملة لمشاعر البعض؟.
لم يكن الزعيم عبد الكريم قاسم قبل الثورة ولا بعدها يحمل فكرا ديمقراطيا او قريبا من الحزب الشيوعي العراقي، انما كان وطنيا عراقيا متأثرا الى حد ما بالحزب الوطني الديمقراطي ( عند مقابلة جرت بينه وبين زعيم الحزب الوطني الديمقراطي الراحل كامل الجادرجي بطلب منه في النصف الثاني من عام ١٩٦٢ قال الزعيم للجادرجي انا أبن جماعة الاهالي وتلميذكم اجابه الجادرجي لا انت لست تلميذا للاهالي مذكرا ايها بانفراده بالسلطة وباستمرار الفترة الانتقالية وعدم قيام المؤسسات الدستورية ). صحيح ان عبد الكريم طلب من صديقه المدني رشيد مطلك الاتصال بالحزب الشيوعي قبل الثورة والطلب منه عند قيام الثورة ان يضمن تأييد الاتحاد السوفيتي لها خشية ان تتكر تجربة انقلاب ١٩٤١ ويتدخل حلف بغداد لانقاذ النظام.
بعد نجاح الثورة بالاطاحة بالنظام الملكي السعيدي وفي ايامها الأُول بدأت بوادر الانقسام في صفوف جبهة الاتحاد الوطني، بين الحزب الشيوعي والشخصيات الديمقراطية والحزب الوطني الديمقراطي الى حد ما والحزب الديمقراطي الكردستاني من جهة وبين القوى القومية، البعث والناصريين من جهة اخرى، حيث ارادت الجهة الثانية فرض الوحدة الوحدة الفورية مع العربية المتحدة بقيادة عبد الناصر على العراقيين، وانعكس ذلك ايضا على العلاقة بين قطبي الثورة عبدالكريم وعبد السلام عارف، لما شعر البعثيون والقوميين انهم لا يشكلون سوى مجموعة قليلة من الشعب العراقي بدأوا باستخدام القوة ضد الاخرين الذين يخالفونهم الرأي والالتجاء الى طريق التآمر، لما شعر الزعيم بخطورة هؤلاء على الجمهورية (الخالدة) كما كان يطلق عليها وهي تعني ان العراق لن ينصهر في بوتقة نظام عبد الناصر. أخذ يميل للحزب الشيوعي كتكتيك لكبح جماح القوى الوحدوية،.
في بداية عام ١٩٥٩ مُنح الحزب امتياز اصدار جريدته اليومية(اتحاد الشعب) واُطُلق حرية التنظيم النقابي والمنظمات المهنية التي فاز فيها كوادر وأصدقاء الحزب الشيوعي بالاغلبية الكبيرة من خلال انتخابات ديمقراطية جرت بكل حرية.
بعد كل تلك المكتسبات المشروعة التي حصل عليها الحزب هل تمكن من احتواء الزعيم؟ أقول مع الاسف لا اذ وقع الحزب في وهم بأن الزعيم اصبح في (الجيب).
جاءت المسيرة الجماهيرية الكبرى التي انطلقت في بغداد في الاحتفال بعيد الاول من أيار، ليحمل أول استفزاز لعبدالكريم قاسم عندما رُفع شعار حزب الشيوعي بالحكم مطلب عظيمي، (حاول بعض قياديي الحزب ان يغطي على ذلك الخطأ الفاحش بأنه لم يكن ذلك الشعار من ضمن شعارات الحزب انما رفعه البعض دون علم قيادة التظاهرة) لكن الحقيقة غير ذلك والدليل عليه بعد المسيرة بأيام استمرت جريدة الحزب بنشر مقالات تؤكد على ضرورة اشتراك الحزب في السلطة، كما ان تعليمات الحزب كانت تأتينا بعقد ندوات في المقاهي والساحات العامة لشرح أهمية مشاركة الحزب في الحكومة وكنا نقوم بذلك،
الاستفزاز الثاني للزعيم أتى عند انعقاد المؤتمر الاول لاتحاد نقابات العمال في بداية شهر ايار من نفس العام الذي عقد في سينما الخيام حيث حضر فيها الزعيم والقى خطابا طالب المندوبين الحاضرين بطرح مطالبهم لكن الجميع وبصوت وحدا اخذوا يرددون ..أعدم.. أعدم.. جيش والشعب وياك، طبعا كانوا يقصدون اعدام المتأمرين على الجمهورية، عند ذاك غادر الزعيم القاعة غاصبا.
بعد ما جرى بدأ العد التنازلي في تدهور العلاقة بين الزعيم والحزب الشيوعي، ففي اواسط حزيران اصدر الزعيم قرارا باحالة ستة ضباط شيوعيين واصدقاء للحزب على التقاعد، وهم الشهداء الذين أُأعدموا بعد انقلاب شباط الاسود، قائد الفرقة الثانية العميد الركن داوود سلمان الجنابي، الرائد خزعل السعدي والنقيبين حسون الزهيري وعباس الدجيلي والرائد الركن الراحل عربي فرحان والرائد شاكر الخطيب.
نهاية شهر أيار وبداية شهر حزيران من نفس عام ١٩٥٩ اصدر الحزب الوطني الديمقراطي قرارا بتجميد نشاطه بغياب رئيسه كامل الجادرجي الذي كان في رحلة علاج في الاتحاد السوفيتي (بعد عودة الجادرجي الى ارض الوطن لم يرض بقرار الحزب وأعدّه تشجيعا للزعيم بالاتفراد بالسلطة واستمرار الفترة الانتقالية ووضع الحزب الشيوعي في موقف مواجهة مع عبد الكريم) اما الحزب فكان ردة فعله قويا حيث قام بحملة استنكار لقرار الوطني الديمقراطي.
في الاحتفالات التي جرت في كركوك بمناسبة الذكرى الاولى للثورة جرت احداث مؤسفة بين الكرد والتركمان اللذان احتفلا بذكرى الثورة كل بطريقته وقع ضحيتها عدد من المواطنين التركمان وانجر بعض الشوعيين الكرد الى تلك الاصطدامات بدون اية توجيهات من قيادة الحزب واثبتت التحقيقات ذلك ولم تكن أياد شركة نفط الشمال الاجنبية بعيدة عن تلك الاحداث. لكن الزعيم لم يأخذ بنتائج التحقيق القضائي الذي اثبت بأن لا دخل للحزب الشيوعي بتلك الاحداث انما أخذ بالاخباريات الكيدية الكاذبة التي قدمها له عدد من الطورانيين التركمان حيث قدموا له اسماء قادة المنظمات المهنية وبعض الكوادر الشيوعية متهمين اياهم المساهمة بتلك الاحداث وقد اصدر المحلس العرفي العسكري احكاما بالاعدام بدون أية دلالة قانونية بحق تلك المجموعة (نفذت بهم الاحكام بعد انقلاب شباط الاسود) في نفس الفترة القى الزعيم خطابا في كنيسة مار يوسف هاجم فيه الشيوعيين ضمنا واسماهم بالفوضويين ووعد بالاقتصاص منهم.
لكن الاحداث بدأت بالتسارع اذ بدأ الزعيم يستعمل سياسة التوازن بين الشيوعيين من جهة وبين البعثيين وكل قوى الردة الرجعية من جهة اخرى، ( في الحقيقة لم تكن تلك السياسة من بناة افكار الزعيم لأنه لم يكن بذلك النضج السياسي ليتبع تلك السياسة لكنها جاءت بمشورة من بعض السياسيين المقربين منه في مقدمتهم نائب رئيس الحزب الوطني الديمقراطي الراحل محمد حديد ) لكن التوازن أخذ يختل بالتدريج لصالح قوى الردة كما سنبينه لاحقا.
ردا على سياسة الزعيم العدائية ضد الحزب الشيوعي، بادر الرفيقان سكرتير اللجنة المركزية سلام عادل وعضو المكتب السياسي جمال الحيدري بعقد اجتماع على عجل مع عضو اللجنة المركزية مسؤول منطقة بغداد الراحل صالح مهدي دكلة واخبراه بوضع منظمات الحزب تحت الانذار كما جرى اتصال اخر مع عضو المكتب العسكري الراحل عطشان الازيرجاوي بوضع الخط العسكري كذلك في الإنذار للقيام بعمل ما لوقف الزعيم عند حده وحماية الحزب مما تؤول اليها الأيام المقبلة بسبب سياسته التي أخذت تعادي الحزب ( اكد الراحل دكلة ذلك التوجيه في مذكراته لكن لم يوضح طبيعة العمل الذي سيقوم به الحزب) بعد الاجتماع الذي عقده المكتب السياسي رُفض قرار الرفيقين المذكورين بالاجماع
جاءت الطامة الكبرى عندما تسرب الخبر الى الزعيم من الذي سربه لا نعلم؟ لكن الثابت ان عضو المكتب السياسي الراحل عامر عبدالله قام بزيارة للزعيم بتوجيه من المكتب السياسي ليهدأ من روعه ويدخل الطمأنينة الى نفسه بان الحزب لا يضمر عداءا له بالرغم من اجراءاته ضد الحزب لكن ذلك لم يقلل من حنق الزعيم على الحزب ويقينه الخاطئ طبعا، بأن الحزب يعمل للاطاحة به. تلك كانت اخر مرحلة من قطيعة بين الحزب والزعيم.
بعد محاولة اغتيال الزعيم من قبل البعثيين تصورنا بأنه سوف يغير من سياسته بعدما اتضح له بأن البعث وحلفائه هم الذين يريدون ان ينقضّوا عليه ويسقطوا سلطته، (هذا ما حدث بالفعل) بعد خروجه من المستشفى حدث عكس ما كنا نتصوره بدأت سياسته بالتراجع حيث أخذ يحابي البعثيين والقوميين وتقوم اجهزته الامنية بالتدخل في الانتخابات النقابية والمنظمات الوطنية حيث يتم تسليمها بالتزوير للبعثيين،
والتغاضي عن حملة الاغتيلات التي طالت عدد كبيرا من نشطاء الحزب واصدقائه بالاخص في مدينة الموصل وبعض مناطق بغداد وعدم اجراء أي تحقيق بحق الضالعين بالاغتيالات.اضافة لزج قادة الحركة النقابية في السجون والمعتقلات دون اي تحقيق قضائي او مسوغ قانوني (امضيت شخصيا سبعة اشهر في معتقل الموقف العام الذي كان كائننا في باب المعظم مع بقية رفاقي النقابيين دون اي تحقيق وقد اطلق سراحي بكفالة مع عدد من زملائي قبل الانقلاب بعشرة ايام ).
لقد ازدحمت السجون والمعتقلات بالشيوعيين وأصدقائهم وفصل المئات منهم من وظائفهم واحيل على التقاعد وجمد العشرات من الضباط الموالين للثورة واخليت المؤسسة العسكرية لصالح الضباط المتأمرين.، كلما كانت تشتد حلقة التآمر كان الزعيم يتراجع وعندما كان الحزب الشيوعي يحاول بشتى الطرق ان يعيد الاوضاع الى مسارها الصحيح رغم كل تلك التنازلات لعبدالكريم لكنها لم تجدي نفعا ( رفع الحزب شعار تضامن كفاح تضامن، الشعار الذي لم ينتج شيئا) وقع الحزب بين مطرقة عبد الكريم وسندان القوى المتامرة، يقدم للزعيم المذكرات محذرا اياه من خطر التآمر لكن دون جدوى اذ كان الزعيم يتصور ان الشيوعيين يبالغون بتلك المعلومات ليخلو لهم الجو.
وما زاد في الطين بلة كما يقال اندلاع الحركة المسلحة في كردستان الذي قابلها الزعيم باستعمال القوة بدلا من التفاوض، والخطأ الفاحش للقيادة الكردية بتعاونها مع القوى المتامرة ضنا منها باستحصال حقوقهم القومية من قوى رجعية شوفينية لا تؤمن اصلا بالحقوق القومية للقوميات والأقليات الشريكة في الوطن.
ووقعت الكارثة التي لم يحتسب له اي من الطرفين حسابا دقيقا لا الحزب الشيوعي ولا الزعيم ذلك عند انقضاض قوى الثورة المضادة على حكومة الزعيم واسقطتتها بسهولة.
لقد تخلى قادة الجيش عن الزعيم، منهم من كان متأمرا او مؤيدا للمؤامرة وبين من أجبن، تركوا الزعيم مع ثلة صغيرة من الضباط لوحدهم في ( عرينهم) يقاتلون، اما الحزب الشيوعي الذي كان يملك تنظيمات عسكرية غير قليلة بالاخص في بغداد ورغم علمه بموعد المؤامرة لم يتخذ اي اجراء فعلي لإنقاذ نفسه والبلاد من الكارثة ووقع في تخبط وارتباك غير معروف. وانتهت الرواية بضياع الثورة والامل بمستقبل أفضل للعراق.
انا شخصيا لا أحمل المسؤولية للقوى التي اغتالت جمهورية ١٤ تموز بتخطيط امبريالي واسقططت النظام الوطني لان نهجها التأمري كان معروفا، لكن احمل الزعيم عبد الكريم قاسم والحزب الشيوعي مسؤولية عدم اتخاذ القرار الحاسم لقطع دابر التآمر ووضع البلاد على سكة نظام ديمقراطي دستوري.