العقل و الوجود بين هايدغر و اركون


الطيب عبد السلام
2024 / 2 / 6 - 16:47     

ما يجمع هايدغر و أركون هو سعيهما للحفاظ على حيوية الوجود و تجدده بل و إيقاظه في الأثر و الفعل الإنساني.
فإن كان هايدغر أيقظ الوعي الإنساني من نسيانه للكينونة و لمفعول الصيرورة كونها تصوغ الفاهمة البشرية و تصاغ منها، ساعيا لتوضيح ذلك "الأثر الحي" الكامن في العمل الفني الذي "يصون الوجود و ينبته" فإن أركون سعى لقول الشيء عبر إيقاظه ل "حرارة المعنى" الكامنة في النص و إعادة تأويله بما يوقظ "الوجود" الكامن فيه و يبعث الكينونة من وهدة التوصيف و الترديد و المصادرة.
بهذه المقدمة المكثفة نستطيع إقامة ذلك الحوار المتخيل بين فيلسوفين اقاما منهجا جديدا في الفهم البشري و هو الفهم التأملي الذي يجعل السؤال حاضرا بوصفه وجها من وجوه الإجابة و الإجابة بوصفها اليد الناهلة من نهر السؤال "المتجدد".
و انا كعادتي لا أتقيد بالمسميات الأكاديمية او حتى الدقيقة لما نحته الفلاسفة بل أناقش الأفكار الكامنة خلف تلك التساؤلات و أفتح ازهارها.
ان العالم في نظر العقل الغربي قبل هايدغر منقسم الى ذات وهو العقل الغربي العلمي و بردايم العقل الديكارتي الذي يجعل الانا البشرية في علاقة متعاليه تجاه الواقع تنتج مفاهيمها و تصوراتها الباردة عنه في مناهج و طرائق علمية أكاديمية جامدة تجعل من الوجود خاضعا لحالة من التعريف المسبق و النسيان المغلق في القوانين و الرموز "العلمية" التي يقف الواقع تجاهها أشبه بالصنم الحجري، واقع عليه ان يكون التعريفات، لقد ارتاع هايدغر من هذه الحياة الفكرية الأوروبية "النمطية" التي أعادت "تعريف الحقيقة" و اقامت "انجيل علمي أكاديمي" لها و كنائس اسمها الجامعات و المؤسسات، هذا هو هاجس هايدغير الحقيقي و نقده المضمر للعقل الأوروبي اليد ظل يدور في فلك "مأسسة الحقيقة" باعتبار أن المؤسسة في العقل الغربي هي التي تشكل الحضور و الحياة و العلن و ما يعدوها هو "الهرطقة" حينما كانت المؤسسة الأوروبية الحاكمة هي الكنيسة، و خرافة حينما صارت المؤسسة الحاكمة هي الجامعة.
فهو يسجل نقدا مسبقا للمنهج العقلي الأوروبي كونه ظل عقلا لا تأمليا لا واقعيا بل متعاليا و غيبيا حارما نفسه من تقييم جدواه و قيمته في خضم الوجود و حارما الوجود من الإفصاح عن نفسه و الحضور خارج ما رسم له من الحدود لذا صار العقل الأوروبي هو عقل نسيان الوجود و عقل للا مفكر فيه بتعبير أركون، و الحل الذي يطرحه هايدغر لهذه المعضلة هو "الحل الجمالي" عانيا بذلك أن العمل الفني بالرغم من التصاقه بالوجود و وصفه له إلا انه يحافظ على إيراقه و إشراقه المستمر و تخلقه الدائم مستندا في ذلك الى ريشة فان جوخ هذه الريشة التي تعيد الروح الإنساني للفن فيمتزج فيها "الشعور و الانطباع الإنساني بمجريات الوجود" فتكون شخصياته المرسومة هي في حالة مستمرة من الإحالة لبعضها، فالنافذة هي الحقل و الحقل هو السماء و السماء هي عباد الشمس و عباد الشمس هو بورتريه فان جوخ نفسها، أذن فالوجود في نظر فان جوخ و هايدغر من خلفه هو وجود للامتزاج و التداخل المستمر بين الموجودات و الانسان، الوجود في نظر هايدغر هو "الحالة الدائمة من التبادل" و ليس وجودا "للذات و الموضوع" حيث الهمود و الجمود و البرود و حيث يسبح كل شيء في عدمية الوصف و التعريف، هو وجود للقادم و المتحلل الدائم،هو وجود ينبغي الإصغاء له و الانغمار في تأتياته فتتحول الفاهمة البشرية من فاهمة وظيفية اكاديمية الى فاهمة مفعمة بالوجود و متفاعلة معه.
بدون الغرق في تفاصيل هايدغر بمنطق أكاديمي فإننا هنا "انبتنا" هايدغر المنظور و الرؤية، هذا المنظور الذي سنستشعره كمشارقة يحضر في أذهاننا الإسلام في طريقة تفكيرنا و وعينا بصورة أكبر مع محمد أركون، هذا الفيسلوف الذي صادم ذات المشكلة و أقترح هو الأخر "حلا تأمليا" لها.
فاذا كان هايدغر صادم العقل الأوروبي الوصفي الوظيفي الذي يلغي الوجود لصالح المفهوم، فإن اركون صادم و -على جبهتين- العقل المشرقي الذي يلغي حيوية الوجود و دوام تجدد و إنسانيته لصالح النص الديني الذي يرتفع به الى أفق الحقيقة المطلقة و الكلمة النهائية، و بالتالي يتحول العقل المشرقي الى مجرد نص "مفسر" و مغلق يهدر زهرة عقله في هموم "الهوامش" ناسيا "هموم الأصول" هذه الأصول التي كانت يوم ولادتها في حالة من الانفتاح و النقاش العقلي المستفيض بل و نجحت هذه "الحيوية الأولى للنقاش حول الأصول" من إقامة عصر التدوين في القرن الرابع الميلادي حيث كان الفضاء الديني الإسلامي هو فضاء التعدد و النقاش، لإن الأصول يومها كانت مرتبطة بالحياة و المعاش و قريبة من الواقع و ملتحمة مع "أسباب نزولها".
و من جهة أخرى العقل الاستشرافي الأوروبي الذي يحاكم النص الديني "بالمسطرة و البرجل" و يستخرج قياسات منه يسقطها على كل النصوص الأخرى، هذه العقلية الأوروبية التي "تنسى" تفاعل النص و مفاعيله في عالمه و تعزله من سياقاته لتجرمه و تضعه في سجن "الا حقيقة"
و بالتالي تستكين لتعريفها المضمر تجاه "الا أوروبي".
في توجهه للعقلية المشرقية يفتح أركون "ملف الانسان المنسي في النص" فيشير الى ان فهم النص هو حصيلة التفاعل بين الإنسان و البيئة التي تنتج الثقافة المحلية و المحكية هذه الثقافة هي التي تشكل العقل و المخيال و بالتالي هي التي تستقبل النص و تفهمه، يقول اركون ان المجتمع المسلم في داخله هو عبارة عن مجالات انثربولوجية متعددة و متصلة و متداخله، هذه الكتل الانثربلوجية المتعددة تخلق فهما متعددا للاسلام و تجعل له "قيما محورية" مختلفة وفقا لظروفها البيئية و التاريخية و السياسية، و على سبيل المثال فالجهاد بالنسبة ل إسلام الجزيرة العربية هو قيمة مبدئية و عليا في الإسلام و ذلك ناتج من ضغط البيئة التي تجعل من اسنان الجزيرة العربية مكافحا مقاتلا بينما قيمة "الشفيع" امام الموت هي القيمة المحورية في الإسلام المصري باعتباره مجتمعا زراعيا مستقرا لا يحتاج الى الكفاح العسكري بقدر ما يبحث عن ضمانات لاستمرار هذه الحياة الهادئة بعد الموت، لذا تركزت الثقافة الدينية الشعبية المصرية حول معنى "الشفاعة" في فهمها للإسلام، و قد عرفنا ذلك عبر التحليل لكتابات تلك الشعوب المدونة في كتبها و أشعارها الثاوية في تراثها و تاريخها المحفوظ، اذا هو بحث و تنقيب و "حفر" حي في الذاكرة الثقافية و تجلياتها الحاضرة تمنحنا "متسعا" امام النص و تجعلنا نجس دم الإنسان "الا مفكر فيه" و "المهمل" و "المنسي" في حناياه، و بالتالي نفتتح مساحات عمل واسعة مع النص تنزله من علياء التقديس و التلاوة الى واقعية التفكير و المعاودة.
أراد هايدغير تقريب هذه الفكرة باستخدامه للمعنى الجمالي امام عقلانية أوروبية اكاديمية فجة صادرت الواقع لصالح التصورات الجامدة، و بالتالي إنقاذ هذا الانسان من هذه الغيبوبة و تحقق ذلك الانسان الذي يفتح زراعيه للوجود و يجتمع به مجددا بعد طول فراق و "نسيان"..يحقق الذات الراعية للوجود بتعبيره هو.
بينما توسلها اركون بالانثربلوجيا و التاريخ امام نص "غيبي" يصادر الواقع و ينفيه و ينساه في فكرة وجود جامد لا حيلة للإنسان ازاءاه غير الاستسلام و الخضوع، و بالتالي تحقق الذات المُسلمة الواعية المُستخلفه.