هل ناقض أندريه غروميكو التفسير الماركسي لحركة التاريخ؟


رابح لونيسي
2024 / 2 / 3 - 16:50     

تعد مذكرات وزير خارجية الإتحاد السوفياتي أندري غروميكو "من الذاكرة" الممتدة على أكثر من ألف صفحة، والتي نشرها عام1989مهمة جدا لأي متتبع لتاريخ العلاقات الدولية وصراعاتها منذ الحرب العالمية الثانية إلى منتصف ثمانينات القرن الماضي. فغروميكو شارك في هذا التاريخ، وساهم بفعالية في صنعه ليس فقط بصفته كان وزيرا للخارجية السوفياتية لمدة لا تقل عن 30سنة، أي منذ 1957 إلى 1985، بل لتوليه أيضا من قبل مناصب سياسية ودبلومسية كبرى ومؤثرة جدا، ومنها نائب سفير ثم سفيرا للإتحاد السوفياتي في الولايات المتحدة الأمريكية منذ إندلاع الحرب العالمية الثانية في عام1939، فشارك في ربط مختلف التحالفات الأمريكية-السوفياتية-البريطانية ضد النازية الهتلرية الألمانية، كما شارك في كل الوفود التي قادها ستالين في مختلف المؤتمرات التي صنعت عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، ومنها مؤتمري يالطا وبوتسدام، ثم أصبح مندوب الإتحاد السوفياتي في هيئة الأمم المتحدة، وساهم في إنشاء هذه المنظمة الدولية في سان فرانسيسكو.
خصص غروميكو في مذكراته لكل مؤتمر من هذه المؤتمرات فصلا أو أكثر من فصول طويلة لمختلف النقاشات التي كانت تدور بين الحلفاء الثلاث أمريكا وبريطانيا والإتحاد السوفياتي، كما خصص أيضا فصلا طويلا لنشأة هيئة الأمم المتحدة. فقد كان الجزء الأول من هذه المذكرات غنية جدا حول أكبر الأحداث الدولية أثناء الحرب وما بعدها وكيف صنع النظام العالمي الذي جاء بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، مما يجعلنا نفهم جيدا عالم اليوم والصراع الروسي- الغربي الذي نشب بعد الحرب الروسية-الأوكرانية. أما الجزء الثاني من هذه المذكرات، فقد بدأها بالحديث عن توليه منصب سفير الإتحاد السوفياتي في لندن عام1951 ثم تعيينه نائبا لوزير الخارجية مباشرة بعد وفاة ستالين في 1953، ليصبح وزيرا للخارجية منذ1957 إلى 1985.
تتميز هذه المذكرات بحديث مفصل أحيانا ومختصر أحيانا أخرى عن مختلف الأحداث العالمية، لكنها تشبه صورة بانورامية عن مختلف البلدان والدول التي زارها غروميكو بصفته دبلومسي، فأهتم بشخصياتها السياسية والفنية والثقافية ورواية لقاءاته مع الكثير منها دون أن يهمل الإشارة إلى الآثار التاريخية والأماكن السياحية لهذه الدول، فهذه المذكرات تشبه تقريبا رواية رحالة يقوم بزيارة عدة بلدان ومناطق، بل يغوص في إعطاء معلومات تاريخية وسير لشخصيات ألتقى معها وقيامه بدراسة لذهنيتها ونفسيتها وطرق وأساليب تعاملها.
لكن ما يثر الإنتباه، ويطرح عدة تساؤلات هو ما يوحيه صاحب هذه المذكرات من إهتمامه الكبير بالشخصيات، خاصة أصحاب السلطة وصناعة القرار، فكأنه يقول لنا بأنهم هم الذين يصنعون السياسات، ويغيرون مسار التاريخ، ويؤثرون في حركته. فمثلا يقولها صراحة أنه لو لم يمت فرانكلين روزفلت، لكان من الممكن جدا أن لا تندلع الحرب الباردة، وسيستمر التحالف الأمريكي- السوفياتي، لكن مجيء هاري ترومان وإستبعاد مجموعة روزفلت دفعت العالم إلى الحرب الباردة. ونجده مثلا يقول أنه لو لم يمت جمال عبدالناصر في مصر، لكان وضع مصر اليوم ليس وضعها بعد مجيء أنور السادات، ولا كان الصراع في الشرق الأوسط على نفس هذا الوضع اليوم.
نشير بأنه خصص فصلا كاملا لمنطقة الشرق الأوسط بسبب أهميتها الإستراتيجية، لكن لم يكن مقنعا ومفصلا في القضية. فيبرز فيه أن الإتحاد السوفياتي من دعاة الحل بدولتين مستندا على الشرعية الدولية التي أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة عند تقسيمها فلسطين في1947. يلاحظ قاريء هذه المذكرات بأن غروميكو لم يتحدث عن زعماء منطقتنا بإستثناء عبدالناصر والسادات وحافظ الأسد والملك فيصل وشاه إيران، لكن لا وجود في مذكراته أي ذكر لأي أحد من هؤلاء الذين ملأوا الأرض صراخا مستخدمين إعلام دولهم لإبراز دورهم وتأثيرهم الكبير في العلاقات الدولية، إلا أنه عندما تتبع وتقرأ مذكرات كبار وزعماء العالم مثل غروميكو أو غيره، فلن تجد لهم أي وجود، بل لا تذكر حتى دولهم. وهو ما يدل على أنهم يغطون فشلهم الداخلي بالكذب وصناعة أوهام عن دور دولي كبير، وهم في الحقيقة يقومون بمجرد دعاية وصخب إعلامي وضحك على ذقون الشوب المسكينة. فبودي أن أنصح القاريء الكريم إن أراد معرفة واسعة حول علاقة الإتحاد السوفياتي بمنطقة الشرق الأوسط أن يعود إلى مذكرات يفغيني بريماكوف التي نشرها عام2006 بعنوان"الشرق الأوسط-المعلوم والمخفي-" بحكم مناصبه المتعددة التي لها علاقة كلها بالمنطقة لأكثر من نصف قرن.
فبعد هذا الإستطراد نعود إلى قضية دور الأشخاص في حركة التاريخ أو دور الأبطال كما يسميها الباحث الإيكوسي توماس كارليل(1775-1881) صاحب كتاب "الأبطال" أو التي يعتبرها عالم الإجتماع الألماني ماكس فيبر بالشخصيات الكاريزماتية التي تظهر، وتكون وراء نهضة الأمم ويقظتها، والتي يعتبرها أهم عامل رئيسي في حركة التاريخ. فقد لاحظ غروميكو من خلال مذكراته أهمية ودور الأشخاص، ويبدو كأنه تبناها نسبيا، لكن شعر بأنه يناقض بذلك التفسير الماركسي للتاريخ الذي يفسره بالعامل الإقتصادي والصراع الطبقي، ولهذا نجده يقول عندما تحدث عن ستالين الذي عرفه عن قرب بأنه لا يمكن نفي دور الأشخاص في صناعة التاريخ، ثم يعود إلى ماركس وأنجلس ولنين، فيقول لنا بأن حتى هو لم ينفوا ذلك، وبأن الأشخاص تصنعهم البيئة والظروف الإقتصادية والإجتماعية ثم هم بدورهم يغيرون، ويؤثرون في حركة التاريخ، لكن لم يأت لنا بأي أدلة قاطعة كنصوص مثلا حول هذه المسألة، ولو أننا لا يمكن لنا أن ننفي أن هناك علاقة جدلية بين الوضع الإجتماعي والأفراد.
لكن رغم ذلك، فإن غروميكو يعود إلى المصلحة الطبقية في وضع السياسات، فمثلا يجعلنا نفهم جيدا لما أمريكا تركز على سباق التسلح بقوله بأن المجمع الصناعي العسكري الأمريكي هو وراء ذلك، ويورد ما قاله له جون كنيدي بأنه من المستحيل قبول الطلب السوفياتي بخفض التسلح لأن الإقتصاد الأمريكي كله مبني على صناعة السلاح. ويذهب أبعد من ذلك، ويتهم هذا المجمع بأنه وراء إغتيال كنيدي في1963 لأنه كان مستعدا على قبول الإقتراح السوفياتي بخفض التسلح الذي كان أحد الأسباب في تدهور العلاقات الأمريكية-السوفياتية. فيريد أن يظهر غروميكو في مذكراته أن السوفيات مع السلام والقضاء على الأسلحة، خاصة النووية منها، لكن تشعر من خلال المذكرات بأن الإتحاد السوفياتي كان يعي بأن هناك إبتزازا أمريكيا وسياسة جر الإتحاد السوفياتي إلى سباق التسلح كي يقلل من الإنفاق الإقتصادي والتنموي، مما سيدفع المجتمع السوفياتي إلى التذمر، ومنها ما سمي ب"حرب النجوم" في عهد رونالد ريغان الذي كان يرفض أي إتصال أو تفاوض مع السوفيات، ولم يلتق غروميكو معه إلا مرة واحدة عشية تحضير ريغان لعهدتة الرئاسية الثانية في 1984 بهدف إنتخابي فقط، وكي لايقول الأمريكيون أنه لم يسع، ويعمل من أجل السلام والتعايش مع الإتحاد السوفياتي. لكن يدرك غروميكو والسوفيات بأن الأمريكيون يجرون، ويضغطون على الإتحاد السوفياتي بالسباق نحو التسلح كي يضعف إقتصاده، وهو ما وقع فعلا بعد سنوات عندما انهار الإتحاد السوفياتي إنهيارا مدويا.
تظهر هذه المذكرات أن السلطات السوفياتية لم تكن تستشرف ذلك السقوط، ولم تشعر به أصلا، فعندما قال ريغان لغروميكو في 1984 بأن الإتحاد السوفياتي يهدد المصالح الأمريكية، ويريد إقامة نظاما إشتراكيا بدل النظام الرأسمالي في الغرب رد عليه غروميكو بالفلسفة الماركسية التي تقول بالحتمية التاريخية، وبأن سقوط الرأسمالية ومجيء الإشتراكية مكانها هي حتمية تفرضها التطورات التاريخية دون أي حاجة لأي تدخل سوفياتي في أمريكا أو غيرها. لكن ما وقع يعد سنوات قليلة جدا من ذلك هو إنتصار الرأسمالية على الإشتراكية، وهو ما يحتاج إلى تفسير آخر، وقد قمنا بذلك في عدة مقالات من قبل، وأيضا في كتابي "النظام البديل للإستبداد-تنظيم جديد للدولة والإقتصاد والمجتمع-" أين فسرت قدرة النظام الرأسمالي على التكيف والخروج من أزماته الدورية بأساليب شتى، فمثلا واجه أول أزمة دورية له في النصف الأول من القرن19 بإستعمار البلدان بحثا عن المواد الأولية والأسواق ومناطق للإستثمار، ثم ربط البلدان المستعمرة بإقتصاديات المراكز الرأسمالية. فهل كان غروميكو يدرك هذا التكيف الرأسمالي، وأنه ما دام دول الجنوب مرتبطة بمراكز النظام العالمي الرأسمالي الذي وقع في العهد الإستعماري، فإن الرأسمالية ستستمر، ولن يقضى عليها إلا بفك الإرتباط النهائي والتام مع هذه المراكز الرأسمالية، وقد قمنا بتفسير طريقة وأسلوب تحقيق ذلك بالتفصيل في كتابنا "النظام البديل للإستبداد" وعشرات المقالات في هذا الموضوع.
لكن ما يهم هو أن تهديد السلم العالمي ودخول العالم في حروب دموية سببه هو المصالح الطبقية الرأسمالية التي تحتاج إلى أسلحة وإستخدامها في مختلف أماكن العالم كي تتحرك الآلة الصناعية العسكرية الأمريكية بإعتراف ليس فقط جون كنيدي بذلك، بل أيضا حتى إيزنهاور في أواخر حياته حيث حذر من هذا المجمع العسكري الإقتصادي الأمريكي الذي سيتحكم في الأمريكيين وفي العالم، ويجعله طوع يده وأوامره خدمة لمصالحه.
ولهذا يمكن لنا القول أن تفسير غروميكو تفسير صحيح نسبيا، لكنه أدرك أن للأشخاص دورا فعالا في حركة التاريخ لأن السلطة بكل مستوياتها وأشكالها هي التي تحرك الإنسان منذ أن أكل سيدنا آدم من "شجرة الخلد وملك لايبلى"، والمقصود بملك لايبلى السلطة بكل أشكالها، وما السلطة المالية والإقتصادية إلا جزء منها إلى جانب سلطات أخرى يبحث عنها الإنسلن مثل السلطة الدينية والعلمية والثقافية والمعنوية وغيرها. فكل الصراع العالمي هو حول السلطة، ولهذا السبب أصبحت السياسة تهتم فقط بهذه الصراعات دون غيرها لأنها هي المحركة للتاريخ، ويبدو أن غروميكو أدرك ذلك، والدليل أن تغيير رئيس برئيس في أي دولة يمكن أن يؤدي إلى تغيير كل السياسات، بل يغير النظام العالمي ذاته، ويؤكد على ذلك عندما يقول أن لولا وفاة روزفلت ومجيء ترومان لما قامت الحرب الباردة، ونشأ النظام العالمي ثنائي الأقطاب، وممكن لساد السلام هذا العالم.