الحرب والأمل في -سماء غزة تلال جنين- عبد الله عيسى


رائد الحواري
2024 / 2 / 3 - 11:18     

الحرب والأمل في
"سماء غزة تلال جنين"
عبد الله عيسى
أهمية الأديب/الشاعر تكمن في تقديم الواقع بصورة جميلة، حتى لو كان الموت والدمار هو المهيمن، في هذه النصوص نجد فكرة الموت وتفشي الدمار بلغة وصور أدبية وشعرية مذهلة، حتى أننا ننسى/نتجاهل الفكرة ونهيم في الفضاء محلقين مع جمالية اللغة والصور البهية، فالشاعر من خلال العنوان "سماء غزة تلال جنين" أصعدنا إلى سماء/غزة لنرى جمال الأرض/حنين، وهل هناك أجمل من أرض فلسطين لتكون انطلاق نحو السماء؟
رغم أن العنوان يتحدث عن السماء والأرض، إلا أنه يتناول العلو الارتفاع "سماء/تلال" وهذا يحمل دلالة إيجابية، حيث يقود المتلقي نحو الآفاق الرحبة والواسعة التي تتجاوز الألم الكامن والحاصل الآن في غزة وفي جنين، كما أنه ينقلنا من الجنوب/غزة إلى الشمال/جنين، فالجغرافيا الفلسطينية حاضرة كحال السماء الفلسطينية، فهناك عرة وثقى بين الأرض والسماء.

حضور المرأة
بداية نشير إلى أن المضمون النصوص مؤلم وقاس، وهذا حال دون حضور المرأة كحبيبة أو بصورة وافية، فأول ذكر لها جاء في قصيدة "وستنتهي الحرب": "فلا تبدو جميلة كما ينبغي، في عيني ابن الجيران" ص8، وفي قصيدة "كمن ينظر": "في انتظار سيدة تعرف أنها لن تجيء" ص69، ثم تناولها بصورة عادية في "أمهلوا غزة قليلا من الوقت": "يقول لزوجته، ويهرب من نظرة ابنه الذي كان مبتسما قبل قليل" ص118، فهذا الشح في حضور المرأة يعكس حالة (الجفاف) التي تصيب الإنسان أثناء الحرب، فبدا الشاعر متأثرا بأجواء الحرب وما فيها من موت، حتى انه عزف عن المرأة، ولم يستطع أن يتحدث عنها في هكذا أجواء.



الموت
يفتتح الشاعر النصوص بقصيدة: "وستنتهي الحرب" والتي رسم فيها حجم المعناة التي يمر بها الفلسطيني:
"وستنتهي ، مثلما اتفق ، الحرب هذه أيضاً
ولن يكون بمقدورنا
نحن جميعاً
التعساء
وخائبو الظنّ
باحتضار العالم أجمع بين أذرعنا
أن نخرج الأطفال
أولئك الذين لم يعتادوا النوم في المقابر قط
من غرف الموت المغلقة،
مثلاً؛
ذاك الّذي لم يمهله رسول القتل أن يتوسله:
" لم أعش بعد كفايتي
فلا تعد بي إلى البيت.
أمّي تنتظرني، وحدها
بعد مقتل أبي وأخوتي معه،
في الحرب الأخيرة،
قبل أن يبرد العشاء""
أو مثلاً
تلك الّتي سمعت تبتهل
آناء الليل وأطراف النهار إلى الله ،
ألا تأكل ألسنة النار وجهها،
فلا تبدو جميلة كما ينبغي في عيني ابن الجيران
المودّعتين في غرف الموتى.
ليس بمقدورنا نحن
المستضعفون
وفاقدو الرجاء
بمدّ يد الحياة لكم
مثلاً :
أن يرفع رجال الإنقاذ أشلاء أنّات الضحايا
من تحت الأنقاض.
أو أن تحمي مباضع أطبّاء بلا حدود،
من لوثة القصف، أرواح بشر طيّبين لجأوا إلى المشفى كي ينجوا من المجازر.
ليس بمقدور أحد منّا
أن يقرّب نفوق القتلة،
مثل أيّ أحد منكم،
مع كل طلقة تستوطن روحه.
أو أن يتألم أحد مّنا،
أيّما أحد، مثلكم، نيابة عنا كلّنا.
ليس بمقدور أيّ منّا نحن
المراؤون
المذلّون
بالوضاعة ذاتها في قلوب شهود الزور ،
المرتعدون
المتهالكون
بهشاشة بلاغة أولي الأمر منّا،
أن نتظاهر فحسب من أجلكم.
وستنتهي، كيفما اتفق، الحرب هذه أيضاً.
ولن يكون بمقدورنا أن نموت من أجلكم
نحن محض موتى" ص 7-10.
الفلسطيني مسكون بفلسطين، ولا يمكنه أن يغادرها، حتى لو كان في آخر الدنيا تبقى حاضرة فيه، الشاعر الفلسطيني "عبد الله عيسى" يؤكد حضور فلسطين فيه وبقائها في وجدانه رغم بعده عنها، فهو يعيش في روسيا، إلا أنه يسكنها وحاضرا فيها.
قصيدة "وستنتهي الحرب" تأخذنا إلى معاناة الفلسطيني وما يلاقيه من موت، فالقصيدة تتحدث عما يجري في غزة وما يفعله العدو من إبادة جماعية لكل ما هو فلسطيني، من هنا نجد مشاهد المجزرة الصهيونية من خلال الشاعر، فهو لا يقدم مشاهد جامدة، بل متحركة، حتى انه يجعل الموتى يتحدثون ويتساءلون عما جرى معهم قبيل رحيلهم.
يفتتح الشاعر القصيدة بهذا المشهد:
"وستنتهي ، مثلما اتفق ، الحرب هذه أيضاً
ولن يكون بمقدورنا ، نحن جميعاً
التعساء
وخائبو الظنّ
باحتضار العالم أجمع بين أذرعنا
أن نخرج الأطفال الذين لم يعتادوا قط النوم في المقابر من غرف الموت المغلقة"
"نلاحظ أنه يؤخر لفظ "الحرب" وهذا كناية عن سخطه عليها، وما حديثه عن ردة فعلنا نحن "التعساء، خائبو الظن" تجاه الحرب وعجزنا عن القيام بما يمنع الموت: "نخرج الأطفال في المقابر، غرف الموت" إلا من باب التحفيز وإخراجنا مما نحن فيه من تعاسة.
إذن هدف الشاعر إثارة المتلقي وجعله يتخذ خطوة عملية تجاه من يجري من مجازر بحق أهلنا في غزة، من هنا يستخدم الفانتازيا بحيث يحدثنا الأطفال القتلى عما يجول في نفوسهم من أفكار وما يشعرون به:
"مثلاً؛
ذاك الّذي لم يمهله رسول القتل أن يتوسله:
" لم أعش بعد كفايتي
فلا تعد بي إلى البيت .
أمّي تنتظرني ، وحدها بعد مقتل أبي وأخوتي معه ،في الحرب الأخيرة ، قبل أن يبرد العشاء"
فهم يتحدثون بلغة/بعقلية الطفل، من هنا نجده يسهب في تناول حالته الأسرية وما فيها من خصوصية، حتى انه تحدث عن العشاء، كل هذا يؤكد أن المتحدث هو طفل وليس الشاعر، فالشاعر (غاب) وابتعد عن اللغة الشعرية، لهذا جاء كلامه صوته (عاديا).
أيضا نجد لغة الطفل حاضرة من خلال منطقه البعيد عن هول الموت وما فيه من رهبة، وبعيدا عن واقعية الموت وما يحدثه من (سكوت/صمت) فحديثهم ومنطقهم لا يشير إلى تحدي الموت فحسب، بل تحدي العدو القاتل أيضا، وكل متخاذل يرى ولا يفعل، يسمع ولا يرد.
وإذا ما توقفنا عند مطالبهم سنجدها عادلة وموضوعية: "لم أعش كفايتي، أمي تنتظري" فكرة الظلم الواقع عليهم واضحة وتجعل المتلقي يقف معهم وإلى جانبهم، لكن اللافت في طريقة تقديم المطلب أن (الطفل) أستخدم لفظ (صغير) مكون من ثلاثة حروف "أعش، أمي" بتوابع/ملحقات كبيرة "كفايتي، تنتظرني" التي تتكون من ستة حروف.
فالفرق بين الطفل الصغير نجدها في "أعش/أمي" وبين متطلباته/حاجاته/نواقصه "كفايتي، تنتظرني" وهذا ما يجعل الفكرة تصل إلى القارئ من خلال المعنى ومن خلال الألفاظ.
بعد حديث الطفل ينقلنا الشاعر إلى مشهد آخر:
"أو مثلاً
تلك الّتي سمعت تبتهل آناء الليل وأطراف النهار إلى الله ،
ألا تأكل ألسنة النار وجهها ،
فلا تبدو جميلة كما ينبغي في عيني ابن الجيران المودّعتين في غرف الموتى"
نلاحظ أن الحديث متعلق بفتاة، وإن الشاعر يتحدث نيابة عنها، وهذا يجعلنا نتساءل، لماذا جعل الطفل يتحدث بحرية، بينما الشاعر تحدث نيابة عن الفتاة؟
بالتأكيد هناك الجانب الاجتماعي والأخلاقي، فالشاعر لا يريد للفتاة (الخجولة) أن تتحدث عن حبها ونظرتها لابن الجيران، فآثر أن يتحدث هو نيابة عنها، وهذا يبقيها بعيدة عن النظرة الاجتماعية المشككة في أي تصرف أو نظر للفتاة.
لكن رغم أن الحديث يدور عن حب عذري، حب إنساني بريء إلا أن هناك موت/قتل لهذا الحب ولمن يحب: "ألسنة النار، غرف الموتى" مما يرسخ لدى القارئ وحشية القاتل وما يحدثه من تشويه لجمال، جمال وجه الفتاة، وجمال عيني ابن الجيران.
قلنا في بداية القصيدة أن الهدف منها حث المتلقي واستنهاضه ليكون فاعلا تجاه ما يجري من مجازر لأهلنا في غزة، من هنا الشاعر يعيد تذكيرنا بعجزنا وعدم قدرتنا على الفعل أو التصرف بطريقة مؤثرة:
"ليس بمقدورنا نحن
المستضعفون
وفاقدو الرجاء
بمدّ يد الحياة لكم
مثلاً :
أن يرفع رجال الإنقاذ أشلاء أنّات الضحايا من تحت الأنقاض .
أو أن تحمي مباضع أطبّاء بلا حدود ، من لوثة القصف، أرواح بشر طيّبين لجأوا إلى المشفى كي ينجوا من المجازر"
نلاحظ أن الشاعر بدأ الحديث عن الطفل، ثم عن الفتيان، الفتاة والفتى، وها هو ينقلنا إلى بقية الناس بصرف النظر عن أعمارهم وحالتهم الاجتماعية/العمرية، فهو يتحدث عن "أنات" عامة/مجهولة الأصحاب، لكنها تبقى أنات إنسانية، واللافت في طريقة تقديمه أنه لا يتحدث عن (موتى) بل عن أنات تحت الأنقاض، وهذا يجعلنا نتساءل: لماذا لم يتحدث عن ناس ماتوا؟
أن الحديث عن الصوت الإنساني يخدم الفكرة التي يريد الشاعر إيصالها، فهو معني بإسماعنا صوت الضحايا، وهذا يخدم فكرة استمرار معاناتها، لهذا تصدر "أنات" فالمجزرة ما زالت قائمة لهذا نسمع أنات الضحايا.
لن يكتفي الشاعر بهذا التأنيب ووصفنا بالعجز بل سيكرره في موضع أخرى لعل وعسى يجد منا من يقوم ويفعل:
"ليس بمقدور أحد منّا
أن يقرّب نفوق القتلة ، مثل أيّ أحد منكم ، مع كل طلقة تستوطن روحه .
أو أن يتألم أحد مّنا ، أيّما أحد ، مثلكم ، نيابة عنا كلّنا"
نلاحظ أن هنا جمود/سكون يحول دون تفاعلنا/تأثُرنا بما يجري من مجازر، حتى بتنا كالصخر لا تحس ولا تشعر بشيء مما هو حولها، فهل هذا وصف (واقعي لنا) أم إن الشاعر يراه السكون الذي يسبق العاصفة؟:
"ليس بمقدور أيّ منّا نحن
المراؤون
المذلّون
بالوضاعة ذاتها في قلوب شهود الزور ،
المرتعدون
المتهالكون
بهشاشة بلاغة أولي الأمر منّا،
أن نتظاهر فحسب من أجلكم
وستنتهي ، كيفما اتفق، الحرب هذه أيضاً .
ولن يكون بمقدورنا أن نموت من أجلكم .
نحن محض موتى"

أن كثرة السلبيات التي وصفنا بها: "المراؤون، المذلون، المرتعدون، المتهالكون" تحمل بين ثناياها فكرة نقيضة، فكرة ضرورة تحررنا مما نحن فيه، وانتقالنا إلى حالة جديدة تتناقض مع حالتنا السابقة، وما جاء في خاتمة القصيدة "نحن محض موتى" إلا من باب الحث على الفعل والعمل والقول، وليس من باب الجمود والسكون.
بهذا يكون الشاعر قد أوصلنا إلى ذروة الاستنهاض من خلال (توبيخنا) بهذا الشكل القاسي الذي يتماثل مع قسوة المجازر التي تحدث لأهلنا في غزة.

وفي قصيدة "لم يطل لينا كثيرا" يقول:
"لم يطل ليلنا كثيرا
فقد كان الموت يراقصنا،
ولم تكف الشموع كلها
كي نرى وجهه يتنفس خلف ظهورنا،
ولم تدم عناقات الوداع طويلا
تحت ظلال القنابل المضيئة.

لم يعد يومنا مثلما كان
أتعجل رمي السلام على جارنا
فأعثر عليه في شريط الأخبار.

لسنا
أرقاما
في قائمة الموتى،
لنا أسماء
وذكريات
وغد
لن ننتظره طويلا هنا" ص18و16.
نلاحظ أن لغة القصيدة بسيطة وسهلة، فبدت وكأنها حديث (عادي) لمواطن الفلسطيني يتحدث عن واقعه في فلسطين، لكن اللافت طريقة تقديم الشاعر للموت، الذي أنسنه من خلال "يراقصنا، نرى وجهه يتنفس" وجعله يتحرك بخفة ليصطاد فرائسه، كما أنه أشار إلى الصراع بين الموت والحياة من خلال المزج بين متناقضات:
"فقد كان الموت يراقصنا،
ولم تكف الشموع كلها
كي نرى وجهه يتنفس خلف ظهورنا،
ولم تدم عناقات الوداع طويلا"
فالموت يراقصنا ويتنفس!، والشموع لم تكف، والعناقات قصيرة، منطقيا لا يمكن للموت أن يراقص أو يتنفس، والشموع الكثيرة من المفترض أن تكفي لإحداث النور، والعناق بين الأحباء يجب أن يدوم، لكن هول الموت وكثرته بين الأحباء لخبطت الصورة، ولم يعد هناك (منطق/عقل) قادر على استيهاب ما يجري على الأرض، فالتشابك في الصور وتداخلها وعدم منطقها يوصل فكرة الموت للمتلقي، لكن بصورة (مجنونة) لا تخضع للمنطق العادي.
إذا كان الصراع مع الموت المجسد بأفعال بشرية غير منطقي في المشهد السابق، فالشاعر يزيل الخلل في المقطع التالي:
"لم يعد يومنا مثلما كان
أتعجل رمي السلام على جارنا
فأعثر عليه في شريط الأخبار"
فهنا تم تغيب ذكر الموت تماما، لكنه حاضر حتى وهو في حالة الغياب، فيقتنص الأصدقاء والأقرباء دون أن يكون ملموسا أو مشاهدا أو مجسدا/مجسما كهيئة البشر، وبهذا يظهر لنا حجم الموت وقوته الأسطورية على اقتناص الناس وأخذهم، فهو كائن يمتلك قدرات تتجاوز العقل والمنطق، ولا يمكن حصر تجسيده في هيئة معينة.
هذا على مستوى الفكرة، أما على الشكل الذي قدم فيه الموت فيبدو أن هناك (خلل) في الحركة، فمن المفترض أن يكون السلام متأنيا/هادئا لكنه الشاعر يستعجله ويريد أن يقدمه في عجالة وسرعة، كما أنه يستخدم لفظ قاسي/رمي وليس إلقاء، وهذا يعود إلى أن الموت سريع الحركة ويستعجل خطف الناس، مما جعل الشاعر (يجاريه)، فلم يمنحه الوقت ليلقي السلام فرماه رميا.
وقت الغضب/الانفعال نرمي ما بيدنا، إن كان ذا قيمة أم لا على أي شيء/شخص، وبعد أن نهدأ، نحاول استعادته والتأكد أنه لم يؤذ الآخرين، يحاول الشاعر استعادة ما رماه "السلام" ومن رماه به "جارنا" فيجده على شريط الأخبار.
هذه الصورة تزيد من (هلامية) الموت وقدرته على التخفي والقيام بعمله بأفضل صورة، وكأن الشاعر يقول أن الموت لا يمكن أن نحصره في مكان أو زمن فهو قادر على الولوج والفعل في كل الأحوال وفي أي المكان.
في خاتمة القصيدة يرد/يواجه الشاعر الموات بهذه الحقيقة:
"لسنا
أرقاما
في قائمة الموتى،
لنا أسماء
وذكريات
وغد
لن ننتظره طويلا هنا"
وهو بهذا يتجاوز الموت المخاطب إلى كل أولئك الذين ينظرون إلينا على أننا مجرد (جمادات/أرقام) مؤكدا أن النصر قادم والمستقبل لنا، هذه فكر المقطع، لكن اللافت الشكل الذي قدم به، فنجد أن "غد" المكون من حرفي فقط ـ إذا ما أبعدنا الواو ـ الذي يشير إلى المستقل، أتبعه بلفظ طويل "ننتظره" مكون من ستة حروف، مما جعل معنى "الانتظار" أكثر عمقا ورسوخا في المتلقي، وعدما أنهى المقطع ب"هنا" قدمه/جعله بسيطا واضحا، بحيث يمكن استيعابه من أي كان.

الأمل والمواجهة
كما تحدث تناول الشاعر الموت تناول الأمل، وهو بهذا الأمل يرد على الموت، ويعطي المتلقي فكرة/طاقة تحفزه على البقاء والثبات في المواجهة التي بها سيقضى/سينهي وجود الموت، في قصيدة "لم نعد" يقال:
"لم نعد نألم بالفجيعة واليأس:
يمنعون الماء عنا،
فنحلم بتربية أظافرنا لحفر الآبار،
ويحرمون مرضانا من الدواء،
فنصاب بداء الرقص مع الحياة،
ويكفون الطعام عنا،
فتخرج الأرض علينا بما وهبت.

لم نعد نألم أننا وحدنا،
ونشبه غيرنا:
أغلقوا باب المعبر،
فاتسعات أبواب السماء
وما زالوا يتفقدون أجسادهم في المرايا
منذ الحرب قبل الأخيرة
ذلك أنهم لم يجدوا جثة حية بيننا
في طريق عودتهم من الجحيم.

لم نعد نألم برائحة المآتم
أشلاؤنا التي اختلطت في مقبرة جماعية
صارت جسدا واحدا من الدم والنار
يتنزه في ذاكرتك المعتمة.

لم نعد نألم بالبلية والموت
تنتظر السماء أيضا، عودتنا إلى وطن خصتنا به،
سمته فلسطين" ص79و80.
بداية نلاحظ أن الشاعر يغيب (الموت) من خلال تنكيره، فهو لا يسمي/يحدد من يقوم "يمنعون، يحرمون، ويكفون، أغلقوا" فعدم ذكرهم بالاسم يشير إلى أدانتهم وتحقريهم، كما أنه يعطي المتلقي صورة أوسع ليفكر بأولئك الفاعلون للشر وللجرائم.
ونلاحظ أن الرد/المواجهة على تلك الأفعال والفاعلون تأتي بسرعة أكثر من سرعة الفعل الأعداء: "فنحلم، فنصاب، فتخرج، فاتسعت" كما أنها جاءت منا نحن في فلسطين "فنحلم، فنصاب" ومن الأخرين/الجماد: "فتخرج الأرض، فاتسعت أبواب السماء" وإذا ما توقفنا عند الرد الصادر منا فنجده مقدمة وضرورية لتكون الأرض مخرجة لنا الخيرات، والسماء لتفتح لنا أبوابها وما فيها من هدوء وسكونة، فدون فعلنا ومواجهتنا لن تعطينا الأرض وتعيننا السماء، وكأن الشاعر بهذه القصيدة يؤكد فكرة "أعقل وتوكل".
"لم نعد نألم أننا وحدنا،
ونشبه غيرنا:
أغلقوا باب المعبر،
فاتسعات أبواب السماء
وما زالوا يتفقدون أجسادهم في المرايا
منذ الحرب قبل الأخيرة
ذلك أنهم لم يجدوا جثة حية بيننا
في طريق عودتهم من الجحيم."
في المقطع الثاني نجد أن الغلبة لنا نحن ـ رغم أننا وحدنا ـ وهذه الغلبة جاءت من خلال المعنى الذي تحمله القصيدة ومن خلال الألفاظ أيضا: "هم/باب، نحن/أبواب" فهم قلة مفرد، ونحن جمع وكثرة، وهم كثرة مبعثرة بلا جامع بينها "أجسادهم" ونحن وحدة موحدة منصهرة بجسد واحد: "جثة حية"، واللافت في هذا المقطع أن الفكرة مقرونة بالألفاظ، فنجد الفعل الشاق والطويل "يتفقدون" والمكون من سبعة حروف ينتهي بصورة مفجعة/مخيبة لهم "جثة/حية" فنجدهم لم عثروا إلا على كلمتين فقط وعدد حروفهما ستة، وهو أقل من المجهود الذي بذلوه في "يتفقدون".
وعندما انهى الشاعر المقطع: "في طريق عودتهم من الجحيم" أراد به تأكيد فكرة خيبتهم في المكان وما حاولوا أن يفعلونه في أصحاب المكان/نحن، فنجده كل الألفاظ متعلقة بالمكان "طريق، عودتهم، الجحيم".
"لم نعد نألم برائحة المآتم
أشلاؤنا التي اختلطت في مقبرة جماعية
صارت جسدا واحدا من الدم والنار
يتنزه في ذاكرتك المعتمة"
في المقطع الثالث يغيب الشاعر (الموت) من القدرة على الحضور، مؤكدا أننا نسير نحو الحلول والتماهي، فبدأ بصيغة المجمع: "أشلاؤنا" المكون من سبعة حروف، وانتهى ب: "واحدا" المكون من أربعة حروف، بحيث لا يعود مجال أمام المتلقي إلا أن يوقن أننا نسير نحو النصر.
"لم نعد نألم بالبلية والموت
تنتظر السماء أيضا، عودتنا إلى وطن خصتنا به،
سمته فلسطين"
يختم الشاعر القصيدة بفكرة واضحة وحقيقة يؤمن بها كل فلسطيني، لكن الذي يميز هذه الخاتمة أنها جاءت تربط وتوحد الأرض/"وطن" بالسماء، مما جعل حقيقة "عودتنا إلى وطن/فلسطين" صادرة عن الله وهذا ما يجعل الإيمان أكثر رسوخا في القارئ.
وإذا ما توقفنا عند حجم المقاطع، سنجد أن الشاعر بدأ بالأطول وختمها بالأقصر، وهذا يشير إلى أنه (بدأ) بتعبئة فكرة للجماهير/للمتلقين، وكلما أنهى مرحلة جاءت المرحلة التي تليها أقصر وأسهل له وللمتلقي، وما وجود الخاتمة القصيرة إلا من باب اكتمال التعبئة للقارئ ووصوله لدرجة أن يكون فاعلا ومؤثرا.
إذن هناك علاقة وطيدة بين السماء والأرض، بين الإنسان وبين الله، فالشاعر في "سماء غزة تلال جنين" بين ووضح أن قناعاته/إيمانه صادر/قادم من الله، من السماء، في قصيدة: " يا ربنا" نجد هذه التوجه الصوفي نحو الله:
"يا ربنا!
يا رب قاتلنا الذي أمهلت!
غزة تحتمي بيديك بين يديك.
فارفع وجهها حتى نراها
في مرايا البحر أجمل،
كي تعلمنا من الأسماء ما أكملت
غزة لا تدل سوى عليك" ص81.
اللافت في هذه القصيدة اللمسة الصوفية التي تجللها، فهناك ألفاظ تجعل المتلقي يشعر أنه أمام إمام صوفي: "يا رب، أمهلت، أكملت، عليك" كما أن تكرار ألفاظ: "يا ربنا/يا رب، بيديك/يديك" تجعل المتلقي يقف أمامها متأملا كحال الصوفي المتأمل في خلق الكون، كما أن الصيغة التي تم تشكيل القصيدة بها تخدم فكرة الإيمان الكلي بالله، فبدايتها التي افتتحت ب: " يا رب قاتلنا الذي أمهلت!" وخاتمتها التي جاءت: "غزة لا تدل سوى عليك" تشير إلى أن المخاطب هو الله، فهو من "أمهلت، تحتمي بيديك، أكملت، عليك" فصيغة الدعاء تكفي لتأكيد أنها صادرة عن ومن صوفي متوحد مع الله، فالشاعر بهذا الإيمان أوصل فكرة الأمل بالنصر لتكون فلسطين خاصته وخاصة شعبه وخاصة امته.
القسم الثاني من الكتاب تحدث فيه الشاعر عن أصدقاء له رحلوا، ومنهم من استشهد في العدوان الحالي على غزة، كحال الشاعر "سليم النفار" الذي خصه برساله مطولة، جاء فيها:
"عزيزي سليم!
لم يعد الشعر صالحا لنروي تراجيديانا، وكذا السرد لم يعد قابلا لكلام الذاكرة.
وحدها أجسادنا التي خرجت من بيروت تتسع لمجزرة جديدة.
لم تكن مجزرة صبرا وشاتيلا التي أخطأت أجسادنا، وقبلها دير ياسين وكفر قاسم وشقيقاتها التي نجا منها أعضاء من السلالة بلجوئهم إلى مخيمات الشتات الأعظم إلا تمرين يلهو بها عابر مدرب على القتل.
لم نكن نتفقد أجسادنا في المجازر، أو بين حربين، أو في غرف التوقيف فحسب، لكننا أعتدنا على تفقدها في كل لسعة حنين منذورة لعناق منتظر. وكأني رأيتك تصرخ، أو قرأتك: جسدي ليس دريئة أيها الأبالسة، والمعتوهون، وسارقوا خبز المسيح.
لم تأمن أجسادنا بعد بيروت إلا لظلالها في المرايا، فيما كانت دمشق تختلي بنا لتقرئنا سلامها.
وعدت إلى جزء من الوطن، وذهبت إلى منافي الواسعة
وكأن ثمة متسع من المغفرة، كي نسحب قاتلينا من سباباتهم ليبصروا الضوء ذابلا في عيون قتلانا.
ونطمئن، باتصال نتعجل فيه الحياة لتبقى، أننا ما نزال بخير، أو هكذا نتمنى.
عدت إلى غزة كي تطل على يافا، وتمرن حلمك على العودة إليها، فيما بقيت أمتطي منافي بحثا عن مكان آمن.
ولا مكان آمن في غزة التي تنتظر الأبدية عند معبر لم يعد آمنا أيضا، ولا زمان آمن في غزة طالما يقيم الغرباء على أرضنا، ويتقاسمون معنا فصول الرواية أيضا" ص96-98.
رغم أن الرسالة موجهة إلى الراحل "سليم النفار" وكان يفترض أن تكون رثاء أكثر منه سرد وقائع، إلا أن الأدبية التي قدمت بها، جعلتها رسالة جميلة يستمع بها المتلقي ويقرأها أكثر من مرة، فعندما تحدث عن المجازر التي تعرض لها الفلسطيني، كانت هذه الصورة: "أجسادنا ... أعتدنا على تفقدها في كل لسعة حنين منذورة لعناق منتظر" تكفي لإزالة كل السواد والقسوة الكامنة فيما سبق من مجازر.
وعدما قدم صورة الفلسطيني المكبل بأوسلو قدمه بصورة المتقدم نحو فلسطين التاريخية: "عدت إلى غزة كي تطل على يافا، وتمرن حلمك على العودة إليها" وهذا ما جعل الرسالة تتجاوز كل النكبات الفلسطينية والكبوات والانكسارات، فالمتلقي يستمع بالفقرات الأدبية (ويتجاهل) الألم الذي أقرن بالفلسطيني منذ بدايات القرن الماضي.
الكتاب من منشورات الاتحاد العام لكتاب والأدباء الفلسطينيين، رام الله، فلسطين، الطبعة الأولى 2024.