شجاعة (قصة قصيرة)..


حسين محمود التلاوي
2024 / 1 / 30 - 02:47     

كان يعترف، في داخله، أنها أشجع منه. ولم يكن يجد حرجًا في هذا الاعتراف، بل كان، يومًا بعد آخر، يزداد تيقنًا من ذلك حتى بات بالنسبة له حقيقةً لا تقبل النقاش؛ فقد كانت تأخذه ليرتادا طرقًا ومسالك لا يقدر أي من صبية البلدة، مهما بلغ كذبه وتفاخره، أن يدَّعي أنه دخلها. لكنها كانت تأخذ كفَّه الصغير في كفِّها الأصغر، وتبدأ في السير؛ فلا يجد مفرًّا من أن يتبعها، وإن كانت تقوده نحو أصعب الدروب وأكثرها إثارة للرهبة بين الكبار, ناهيك عن الصغار.
إلى أن جاء ذلك اليوم المطير.
كانت الأمطار تهطل بغزارة منذ الصباح؛ فلم يحضر إلى المدرسة سوى عدد قليل من التلاميذ. لذلك فعندما انتهى اليوم الدراسي، كان شارع مدرستهما خاليًا - شأنه في ذلك شأنه شوارع البلدة كلها - إلا من عدد قليل من التلاميذ والمعلمين الذين سرعان من قفلوا عائدين إلى منازلهم. وبينما كانا عائدين سويًّا، كعادتهما بحكم الجيرة، أمسكت يده الصغيرة المبللة بمياه الأمطار؛ فعلم أنها تنوي الذهاب في واحدة من رحلاتهما.
هل هذا الوقت المناسب؟! لم يتجاوز السؤال شفتيه، لكنها قرأته - كعادتها - في عينيه، ولم تكلف نفسها عناء الرد سوى بأن جذبت يده في تصميم؛ فلم يجد مفرًّا - كعادته - سوى أن يتبعها في مشيها السريع الذي كان يبدو أنه يقودهما نحو طريق الشجرة الحزينة. وطريق الشجرة الحزينة واحد من أشد طرق البلدة خطورة؛ فهو طريق - في جزء كبير منه - بين شط الترعة والترعة نفسها، ويميل بشدة نحو الترعة؛ مما يجعل السير فيه مخاطرة كبيرة تزداد بوجود كميات من الطمي التي تجعل المسار زلقًا. كذلك فهو ينتهي بالمقابر التي تفصل البلدة عن الصحراء الكبيرة.
سارا - أو لنقل إنها كانت تسير، وتجره خلفها - إلى أن وصلا إلى طريق الشجرة الحزينة؛ فراح يجاهد كي لا تشعر بارتجافة الخوف التي سرت في جسده كله، وحمد الله أن الجو مطير؛ فيبدو ارتجاف جسده وكأنه بفعل البرد. لكنها كانت تفهمه؛ لذا ضغطت بيدها الدافئة، رغم الجو البارد، على يده مرتين لتشعره بالاطمئنان.
كانا يسيران بصعوبة، وقد راحت تلتقط بيدها الأخرى، صورًا للطريق تذكارًا لهذه الرحلة كي يصدق زملاؤهما أنهما قطعا هذا الطريق. وفجأة، التمع ضوء البرق، وقبل أن يستوعبا الأمر، دوَّى هزيم الرعد، وكأنه صوت قصف مدافع. وهنا حدث آخر ما كان يتوقعه! لقد قفزتْ هي في الهواء هلعًا دون أن تترك يده، ثم أسرعت لتلتصق به طلبًا للأمان!
لم يستغرق الموقف كله سوى ثوانٍ، ثم عادا إلى سيرهما دون أي تعليق منهما، كعادتهما في التزام الصمت، أثناء مثل تلك الرحلة "الاستكشافية"، لكن ما جرى ظل بباله على امتداد رحلتهما، بل إنه غطى على شعوره بالخوف، بل لا نبالغ إن قلنا إنه بث في نفسه الشيء الكثير من السعادة.
قطعا الطريق ذهابًا وعودة في وقت قياسي، ودون أن يواجها أية متاعب، كما جرت العادة في مثل تلك "المغامرات" ثم عاد كل منهما إلى منزله.
صباح اليوم التالي كان الجمعة، فالتقاها عند بائع الخبز، وقال لها، بكل صراحة، إنه شعر بالدهشة، عندما وجدها خائفة، وازدادت دهشته عندما التصقت به طلبًا للأمان، على الرغم من أنها الأشجع بينهما، وأنه يشعر بالأمان في وجودها. جاء الدور عليها لتشعر بالدهشة، قبل أن تقول له إنه إن كان يشعر بالأمان في وجودها، فهي لا تشعر بالشجاعة إلا في وجوده.