بناية الشيوعيين...صرح شاهق للقاصّ مهدي زلزلي فوق جبل القصة القصيرة


كريم محمد الجمال
2024 / 1 / 28 - 10:38     

اعتاد الكاتب والقاصّ اللبناني الكبير مهدي زلزلي تقديم رؤى هادئة متزنة لما يعالجه من مواضيع وقضايا في كتاباته المتنوعة سواء المقالات أو مجموعتيه القصصيتين وجه رجل وحيد وبناية الشيوعيين. الرجل الجنوبي الذي يتسم بالحكمة والرزانة والرسوخ مثل جبل عامل أكسبته بيئته الجنوبية الجميلة فلسفة وأسلوباً خاصاً في قراءة الأحداث والتاريخ، وانعكس على أسلوبه في الكتابة ومعالجة الشخصيات.

كتابة القصة القصيرة مشروع بالنسبة لكاتب بحجم وقيمة مهدي زلزلي استعمل لغته الراقية في تجاوز حدود الزمان والمكان والحواجز الثقافية والصور النمطية. امتازت مجموعته (بناية الشيوعيين) بفلسفة في الكتابة ورؤية للعالم والوجود، قفز بهذه الرؤية والفلسفة الساخرة من الواقع، والحزينة في كثير من الأحيان لتوصيف يشعر القاريء به كأن الكاتب يصف نفسه في عالم حقيقي أو عالم تخيلي، وامتزج الحقيقي بالتخيلي مع استخدام الرمزية والإشارة في كل قصة بل وربما في كل جملة، أعطى الكاتب أهمية فائقة لاختيار الكلمات لتعبر عن ما في داخله من معتقدات وآراء وخلفيات ثقافية وحضارية، وكذلك ما يفعل الآخرون فقد حمل الجميع مسئولية الواقع الحالي بشجاعة، لم يدعي المثالية بل وضع نفسه في قفص الاتهام أولاً، ليس بصفته كاتب أو راوٍ للقصة بل بصفته فرد في عائلة كبيرة اسمها لبنان.

اتسمت المجموعة بالاختزال والتركيز والواقعية في اختيار الأماكن والأسماء والشخصيات وناقشت قضية المثقف بل بالأحرى أزمته بين أن يكتب ما يريد وبين الواقع، بين حلم الشهرة والنجاح والأموال زبين أن يكون شخصاً عادياً ثم يقع في حيرة هل لما نكتبه وما يكتبه هو قيمة أو أهمية، ويتطرق لطرح أعمق حول الغايات الكبرى للوجود الإنساني ويستعرضه من وجهات نظر متعددة بحسب وعي وإدراك الشخصيات المختلف في القصص وكذلك في الواقع. اعتمد على المقارنة والمفارقة وحمل دعوة لإصلاح الجميع من الداخل قبل أن يطالب بإصلاح الخارج والمجتمع.

بناية الشيوعيين ترمز لمجتمع متغير يدعي عكس حقيقته، ويرتدي قناعاً لا يخدع به إلا نفسه وهو في النهاية يدفع ثمن هذا الخداع، قصد مهدي زلزلي أن يربط الأحوال المتردية في واقعنا الحالي بالأخص في لبنان وهو ما ينسحب على باقي الدول العربية بالأخص دول الطوق أو المواجهة مع إسرائيل، ورد هذه الأزمات إلى عصور وفترات سابقة ادعي فيها الناس اتجاههم إلى الشيوعية تارة وإلى غيرها من أفكار ومذاهب تارة أخرى، وفي الحقيقة كلها أقنعة زائفة لنفس العيوب والأمراض الاجتماعية والتي قدم الكاتب الحلول لها في كل قصة وهي أن المرء يواجه نفسه بعيوبها وقصورها وزلاتها، وهذا فقط هو سبيل الإصلاح.

تنوعت القصص بين أكثر من مكان فهناك قصص عن مصر مثلا وليس لبنان فقط، كذلك الأغراض فليس كلها سياسي بل هيمن الشكل الاجتماعي أكثر، كان الكاتب حريص على عدم اختيار أسماء وشخصيات ذات دلالة طائفية أو سياسية حتى لا يقع القارئ في فخ التصنيف ويتعامل مع النص المكتوب وليس كاتبه.

قدم القاص الكبير رؤيته الفلسفية للحياة بشكل غير مباشر للقارئ، كأنها نصائح بشكل غير فج من دون إقحام، يمكن اعتبار القصص دعوة للبحث والتفكر والتأمل، دلفت على روح القاري كطيف خفيف رغم عمقها فيها المضحك المبكي والسهل الممتنع يجعلك تحتار فعلاً هل هناك بناية للشيوعيين في بيروت أم أنها مزيج من أحجيات العقل والخيال.