أثرالفشل الأمريكي في العراق في توازن القوى في الشرق الأوسط

معقل زهور عدي
2006 / 11 / 26 - 11:13     

في البداية لابد من القاء نظرة على مسار الاستراتيجية الأمريكية في العراق كجزء من الاستراتيجية الأمريكية العالمية للقرن الواحد والعشرين .
بخلاف ما يعتقد البعض ، لايمثل الغزو الأمريكي للعراق عملا منفردا أواستثنائيا أقحمت فيه مجموعة من الايديولوجيين اليمينيين ( المحافظين الجدد ) الولايات المتحدة في مغامرة غير محسوبة العواقب ، في الواقع يأتي الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 كامتداد لتصاعد النزعة العسكرية داخل الادارات الأمريكية المتعاقبة ، لقد انتشرت على نطاق واسع نظرية استغلال التفوق العسكري الكبير للولايات المتحدة من أجل جعل القرن الواحد والعشرين قرنا أمريكيا ، وامتزجت في تلك النظرية نزعة قومية امبراطورية مع مصالح للعولمة ( نزعة الشركات العملاقة متعددة الجنسيات للهيمنة على العالم ) يعترف سيوم براون بصراحة بتلك العلاقة التي تناولها بالتفصيل نعوم تشومسكي في كتابه ( الهيمنة أم البقاء ) ، وقد تم وضع الأساس الفلسفي الذي يربط بين العولمة والاستراتيجية الأمريكية العليا في عام 1993 وفقا لورقة ليك الذائعة الصيت والمقدمة في معهد جون هوبكنز للدراسات الدولية المتقدمة حيث لخص أربع ضرورات أساسية تقوم عليها الاستراتيجية الأمريكية وهي :
أولا : تعزيز أسرة أنظمة السوق الديمقراطية الرئيسية بما فيها النظام الامريكي لكونها تشكل النواة التي تنطلق منها عملية التوسيع ( لاحظ كلمة التوسيع ) .
ثانيا : رعاية الأنظمة الديمقراطية الجديدة واقتصاديات السوق ومساعدتها حيثما أمكن ولاسيما في الدول ذات الأهمية والفرص الاستثنائية ( اقرأ دول الثروات النفطية ) .
ثالثا : التصدي للعدوان ( اقرأ معاداة المصالح الأمريكية ) ودعم اشاعة اللبرلة في الدول المعادية للديمقراطية والسوق .
رابعا : متابعة برنامجنا الإنساني ليس من خلال توفير المساعدات فقط ولكن عبر العمل على تمكين الديمقراطية واقتصاد السوق من مد الجذور في مناطق ذات أهمية انسانية كبرى ( اقرأ : استخدام الأوضاع الإنسانية للتدخل بهدف فرض النفوذ وإفساح المجال أمام الاستثمارات ) .
يمكن ان نتابع نمو نزعة التدخل العسكري اعتبارا من أوائل التسعينات وهو التاريخ الذي بدأ يشهد القفزة الكبرى في وضع الشركات متعددة الجنسيات ، هكذا اندمجت مصالح العولمة مع التعريف الموسع للأمن القومي ، ومنذ ذلك التاريخ شهد العالم تطبيقات متلاحقة مثل التدخل في هايتي ، قصف العراق ، قصف صربيا ، قصف مواقع في السودان ، احتلال أفغانستان وأخيرا العراق .
حين قررت الولايات المتحدة غزو العراق كانت استراتيجية الغزو واضحة ، احتلال العراق والقفز منه نحو اجراء تغييرات ( ثورية ) في الشرق الأوسط تنقل الهيمنة الأمريكية على المنطقة الى مستوى جديد بحيث ينتهي الاعتماد على الانظمة الحالية كوكلاء للهيمنة ، وتجري عملية تغيير بنيوية للمجتمعات الشرق أوسطية تلحقها بالقوة بالعولمة بتأمين هياكل سياسية واقتصادية وقانونية مناسبة والقضاء على الممانعة الثقافية والهياكل السياسية الحالية التي أصبحت بنظر العولمة معيقة للاندماج .
صممت عملية الغزو لتكون كمطرقة ثقيلة تحطم الدولة العراقية تحطيما شاملا يسمح ببنائها من نقطة الصفر، وكانت التقديرات تتجه لاستسلام المجتمع العراقي بكامله للقوة الأمريكية الهائلة ، وتصفية أية جيوب للمقاومة خلال أشهر على أبعد تقدير .ومن ثم يتفرغ الجهد العسكري الأمريكي للتوجه نحو سورية للقيام بالمهمة ذاتها بسهولة أكبر ويتوالى سقوط الأنظمة العربية بعد ذلك واحدا بعد الآخر حتى يكتمل وضع الأساس لشرق أوسط جديد يدار مباشرة من قبل الولايات المتحدة ريثما يتم تحضير النخب السياسية والعسكرية الجديدة القادرة على استيعاب متطلبات الهيمنة الأمريكية للقرن الواحد والعشرين .
يمكن القول بثقة الآن ان ذلك المشروع قد فشل سواء بقيت القوات العسكرية الأمريكية في العراق عدة سنوات أخرى أو انسحبت في وقت قريب ويكفي للدلالة على ذلك أن واحدا من أقوى القيادات التنفيذية لذلك المشروع وأكثرها عنادا وهو وزير الدفاع الأمريكي المستقيل رامسفيلد صرح بأن من المستحيل ايجاد حل عسكري للوضع في العراق بمعنى استحالة السيطرة على المقاومة .
الولايات المتحدة في سعيها اليوم لتلمس طريق الخروج من العراق تسعى في ذات الوقت لتلمس استراتيجية جديدة للهيمنة ، ومع ان الوقت لايزال مبكرا لمعرفة كيف ستتكيف الولايات المتحدة في استراتيجيتها الجديدة مع فشلها في العراق لكن مايبدو لي منطقيا هو عودة الولايات المتحدة لمرحلة ماقبل استراتيجية التدخل العسكري وذلك لايعني بالتأكيد انتهاء مرحلة التدخل العسكري بصورة تامة وفي كل مكان من العالم ولكنه يعني تقليص استخدام التدخل العسكري الى أقصى حد والتعويض عنه بأدوات استخباراتية وسياسية واقتصادية ، والعودة لسياسة الاعتماد على التحالفات الدولية.
كناتج مباشر للفشل الأمريكي في العراق يمكن أن نتوقع صعود دور القوى الاقليمية كبديل لاغنى عنه لاستعادة قدر من التوازن المفقود ، لكن الأمر الآخر الجدير بالملاحظة أيضا هو توقع صعود قوى غير رسمية ( أحزاب وتعبيرات شعبية مثل المقاومة العراقية وحماس وحزب الله ) ليس فقط بسبب ضعف الهيمنة الأمريكية المباشرة كما هو الحال اليوم ، ولكن بسبب الاجهادات التي أصابت القوى الاقليمية وأفقدتها الكثير من عناصر قوتها بعد تحطيم توازنها القديم بفعل التدخل العسكري في العراق .
صحيح أن القوات الأمريكية لم تعمد لضرب أسس الدول القطرية كما فعلت في العراق لكنها أنهكتها وكشفتها أمام الرأي العام الداخلي من جهة ، وأخلت بتوازن القوى القديم في المنطقة الى درجة يصعب معها تصور كيف يمكن استعادة ذلك التوازن ثانية وأبرز مثال على ذلك خروج القوة الايرانية عن السيطرة وطموحها المتوثب لمد نفوذها وصولا الى البحر المتوسط من جهة أخرى .
حسب نموذج سيوم براون ( والذي تمت دراسته قبل حرب العراق ) للنظام العالمي الحالي لايوجد قطب وحيد مسيطر سيطرة مطلقة ولكن هناك قطب واحد يهيمن هيمنة نسبية على أقطاب صغيرة ( قوى متنوعة ) ، وهنا من المناسب التوقف عند فكرة ان هذه الأقطاب – القوى ليست دولا فقط ، فالدول القومية لم تعد اللاعب الوحيد في السياسة العالمية .
وهناك فرق بين نظام القطب الأوحد الذي يعني سيطرة قطب واحد على العالم ونظام هيمنة القطب الواحد مع وجود أقطاب متعددة لايتمكن من السيطرة التامة عليها .
وبصورة أكثر تحديدا فالنظام العالمي الراهن والدائب التطور هو نظام هجين يجمع بين الاحادية القطبية الفضفاضة التي تسمح بوجود أطراف على قدر من الاستقلال الذاتي وبين نظام الكثرة ( البولياركي ) القائم على وجود مراكز قوى متعددة ( دول قومية ، جماعات شبه قومية ، مصالح عابرة للقارات ، مؤسسات متعددة القوميات ) فعالم اليوم بخلاف ماهوشائع بعيد عن أن يكون أحاديا قطبيا مطردا على الرغم من وضوح ان الولايات المتحدة هي القوة المسيطرة في النظام .
هذا النظام قد أصبح محكوما اليوم بعد فشل الاستراتيجية الأمريكية في العراق بالاتجاه نحو تعزيز دور الأطراف وتعزيز استقلالها الذاتي ، وبروز مايسمى بالجماعات شبه القومية ، والقوى الشعبية التي سوف تنازع منذ الآن القوى التقليدية ( الدول القطرية بكل مؤسساتها القديمة ) دون أن يكون بالامكان كبح جماحها وهي على الأغلب ستتجه لتكون أكثر راديكالية في التعاطي مع الهيمنة الأمريكية وذلك ليس سوى جزء من الثمن الفادح الذي ستدفعه الولايات المتحدة نتيجة فشل استراتيجيتها في العراق .