في مناسبة مرور مئة عام على رحيله / لسبعة أسباب لا نترك لينين لأعدائه


رشيد غويلب
2024 / 1 / 22 - 21:58     

في ظل أكبر أزمة تواجهها الإنسانية منذ الحرب العالمية الثانية، وفي عصر الحرب المطلقة ورأسمالية الكوارث، أصبح اليسار، على الأقل في أوروبا، مجرد ظل شاحب لذاته. ويعدّ حذف لينين من ذاكرة اليسار جزءا من هذا الانحدار التاريخي. فكيف يمكننا أن نتحدث عن ماركس ولوكسمبورغ وغرامشي وتشي جيفارا والليندي، دون الحديث عن لينين؟! كيف يكون تجديد اليسار ممكناً حين يُنكر جزء مهم من تراثه الثوري؟! ماذا يبقى من الاشتراكية إذا لم يكن للينين مكان في تاريخها؟!
لقد ترك اليسار جسد لينين للمنتصرين عبر التاريخ: الستالينيون ومعارضوهم الليبراليون. قام البعض بتحنيطه وجعله معبودًا لسلطتهم، بينما قام آخرون بتشويه صورته بدعوى كونه عدوًا للديمقراطية وحقوق الإنسان. ورأى اليسار الجديد نفسه في المقام الأول أنه يسار مناهض للينينية واحتفل بالانفصال عن إرثه. وبسقوط الاتحاد السوفييتي في عام 1991، وبدا أن الكلمة الأخيرة قد قيلت عن مؤسس هذه الدولة. لقد كان قادة الحزب نفسه الذي أسسه وشكله لينين هم من أصبحوا حفاري قبره.

إن عدم ترك لينين للأعداء حتى بعد مرور 100 عام على وفاته فيه فائدة هامة لليسار وهو يستعدً لساعة الخلاص التي كما كتب عنها فالتر بنيامين الفيلسوف والناقد وعالم الاجتماع الالماني في عام 1940، ستكون على جدول الأعمال «قبضة قوية وعلى ما يبدو وحشية». يتعلق الأمر بالتعلم من لينين ومن نتائج تعامله. وهذا يشمل معرفة ارتداد الوسائل والغايات، وأهمية ذلك الحد من الإنسانية الذي لا يُسمح لليساريين بتجاوزه، من أجل أنفسهم وأهدافهم. لأنه، وكما كتبت روزا لوكسمبورغ في عام 1918، في إشارة للثورة الروسية، فإن الطاقة الثورية لا تشكل في حد ذاتها «الروح الحقيقية للاشتراكية»، بل بارتباط لا ينفصم مع «الإنسانية الأكثر عطاءً».

الموضوعة الأولى: رفض لينين للحرب


بدأ صعود لينين كشخصية مغيّرة للتاريخ برفضه الحازم للحرب العالمية الأولى مع مطالبات عدد قليل آخر مثل كارل ليبكنخت وروزا لوكسمبورغ، بتوجيه الأسلحة ضد العدو الرئيسي، الطبقة الحاكمة. لقد كان هذا الرفض راسخا. واستنتج لينين أن هذه الحرب لا يمكن أن تنتهي إلا بحرب أهلية ثورية. لم يكن يريد إصلاح سياسات الحاكمين، بل محاربتها. وركز هذا الرفض على جوهر طبيعة الحرب، وليس على المناسبة والسبب الملموس. واستمر في التصعيد طالما كان يأمل في إمكانية تمهيد الطريق للثورة. وكان الأمر يتعلق أيضا بتأمين مساحة للتسويات على أساس موقفه اليساري الخاص لتأكيد هذا الرفض. بالنسبة له، فإن المبدئية والمرونة لا يستبعد أحدهما الآخر، بل يعتمد كل منهما على الآخر. وأدى ذلك إلى عقد معاهدة السلام مع ألمانيا القيصرية وسياسة التعايش السلمي بعد عام 1921. وقد تم تحديد رفضه على أساس الفوائد المتحققة لصالح السياسة الثورية، التي يمكن أن تتحول فجأة إلى نعم محدودة للإصلاح والتنازلات إذا بدا أن هذا يخدم السلطة الاشتراكية.

الموضوعة الثانية: ديالكتيك لينين


تعاملت الأممية الثانية مع الديالكتيك مثل كلب ميت. فقد استسلمت لإيديولوجية التقدم التدريجي وأصبحت غير قادرة على التفكير في القطيعة مع السائد. وبالاعتماد على «القوانين العامة» التي اختزلوا الماركسية فيها، وأغلقوا عقولهم أمام إدراك أهمية الأحداث المنفردة في إمكانية الخروج من سجن التواطؤ العام مع الرأسمالية والإمبريالية.
لقد وجد لينين في رسائل ماركس – انجلس التي صدرت قبل الحرب العالمية الأولى، مصدرا لنهج شيوعي ثوري. ووظف لينين الشعور بحالة العجز شبه التام خلال الأشهر الأولى من منفاه السويسري لدراسة هذا الجدل في مصدره - في عمل هيجل الأكثر تجريدًا، «علم المنطق». وبدلا من التطور التدريجي، ظهرت له أولوية «القفزات»، والتي قلبت كل شيء بشكل غير متوقع رأسًا على عقب. لقد أعاد لينين اكتشاف هيغل كمفكر ثوري لليسار. بالنسبة لسياسة يسارية مقنعة، لا يكفي أن تكون مصيبا في «العموم»، بل من المهم أيضا الالتزام بحزم بالقضايا المنفردة التي تؤثر على الجماهير في لحظة معينة لتوظيفها في سياق سياسة اليسار. ومن يفشل هنا، يفشل أيضا «بما هو عام» ويصبح بلا أهمية.
يعاني اليسار من مرض عدم التعامل مع التناقضات الحقيقية للطبقة العاملة الحقيقية في الظروف الحقيقية للنظام العالمي الإمبريالي والمنافسة الرأسمالية. وهذا التعامل يتطلب أيضا مواجهة «المواقف المسبقة « القومية والأثنية والأبوية، التي تنشأ في مثل هذه الظروف من أجل اكتساب، المزيد من القوة للسياسة اليسارية حتى من هذه «القذارة». وعندما يتحقق النجاح في ذلك، يمكن في العصر الامبريالي الابحار ضد العاصفة.
الموضوعة الثالثة: تحليل لينين للمرحلة


النقص أو عدم الدقة في التحليل المعاصر، هو العنوان الرئيسي الذي يتم استخدامه دوما لتفسير ضعف اليسار. بالتأكيد ليس هناك نقص في مثل هذه التحليلات. وما ينقصنا الآن هو التحليل المعاصر المبني على أسئلة استراتيجية تؤدي إلى استنتاجات واضحة تخدم استراتيجية اليسار. وفي كثير من الأحيان، يرتبط نقاء انتقاد الرأسمالية بعدم التعامل مع التأثيرات «غير النقية» التي تُخلفها هذه الظروف على الطبقات العاملة. لذلك تظل التحليلات حاليا عقيمة.
في السنوات القليلة بين نهاية عام 1914 وعام 1916، لم يكتف لينين بنشر كتاب «الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية» (العنوان الاصلي «الامبريالية أحدث مراحل الامبريالية» – المترجم)، بل بحث مرة أخرى في المسألة الزراعية لأنه رأى أن مصير الثورة يتحدد من خلال سلوك الفلاحين في الثورة المقبلة. ولم يسأل أولا عن الحدود الطبقية لهذه القوى، بل، وبعيدا عن الانغلاق، بحث في قدرة هذه القوى على تغيير المجتمع.
ما هي الاتجاهات المحددة للحاضر؟ ما هي السيناريوهات الواقعية، وأين يمكن توقع حدوث الثلم في النظام المهمين؟ ما هي الإمكانيات المتاحة، من مواقع الضعف، لتشكيل تحالفات قوية، من أجل التدخل الحاسم في المواقف المفتوحة، وما العمل بعد ذلك؟ طرح لينين على نفسه هذه الأسئلة بعد عام 1914، وبالتالي كان مستعدًا أكثر من أي يساري آخر للحظة الثورية في سنوات 1917- 1919. وهذه هي الأسئلة التي يطرحها اليسار اليوم أيضا.

الموضوعة الرابعة: رؤية لينين وبرنامجه الفوري


في خضم رعب الحرب العالمية الأولى والتغيرات السياسية السريعة في روسيا بعد ثورة شباط، وتعرضه للاضطهاد وتهمة العمالة مدفوعة الثمن لألمانيا، انخرط لينين بشكل مباشر في الإعداد لاستيلاء البلاشفة على السلطة السياسية، وكتب من ملجأه السري في فنلندا عمله «الدولة والثورة». وجمع فيه وبشكل مفاجئ، بين فكرة الإدارة الذاتية المباشرة للمجتمع من قبل العمال المسلحين من الأسفل، والإدارة الاقتصادية من قبل العمال في المصانع وفكرة أعلى مركزية للسلطة في أيدي الطبقة العاملة من ناحية أخرى. وبدا الكتاب وكأنه عمل مشترك لماركس وباكونين (أبرز ممثلي التيار الفوضوي-المترجم)، أي ان لينين مارس الجمع بين منهجين متباينين.
وفي نفس الوقت الذي كان لينين منغمرا في تأليف كتابه «الدولة والثورة»، طور، وهو يوظف المناقشات حول اقتصاد الحرب والمعرفة المكتسبة في التخطيط والسيطرة على الاقتصاد من خلال الاحتكار المتحالف مع الدولة برنامجا لتحقيق الاستقرار في روسيا بمعنى رأسمالية الدولة بقيادة حكومة ثورية. كان هذا هو البرنامج الذي عاد إليه في عام 1918 والذي عاد إليه مرة أخرى عند الانتقال إلى السياسة الاقتصادية الجديدة (النيب) في نهاية عام 1920.
كانت رؤى لينين متناقضة بشدة، ولم يكن برنامجه المباشر مرتبطا عضويا بهذه الرؤى. وقد فتح هذا الطريق لتركيز دكتاتورية قاسية، وكذلك على الديمقراطية الأكثر جذرية، والإلغاء الفوري للأسواق والقانون بالإضافة إلى تعزيزهما. وبالتالي يمكن تبرير شيوعية الحرب ورأسمالية الدولة باعتبارها سياسات اشتراكية. وكان كل شيء يعتمد على توازن القوى والقرارات السياسية فقط. وكان ذلك تعسفياً للغاية بالنسبة لسياسة يسارية بعيدة المدى.

الموضوعة الخامسة: حزب لينين


على أبعد تقدير، عندما أسس مجلة «إيسكرا» (الشرارة) في عام 1900، كان تركيز لينين على مسألة إنشاء حزب من الثوريين المحترفين الذين سيكونون قادرين على الجمع بين النضال من أجل المصالح الاقتصادية للعمال وا لنضال السياسي. للإطاحة بالقيصرية. وفي كتابه «ما العمل؟» الصادر عام 1902، كتب بوضوح شديد: «أعطونا منظمة من الثوريين، وسوف نقلب روسيا رأساً على عقب!» وقد نشأ هذا التركيز مباشرة من العجز، والخبرة السيئة، من محاولات تدريب وتعليم العمال دون أن يتمكنوا من إلغاء التجزئة والانفصال عن النضال الاقتصادي والسياسي. لقد أراد لينين التخلص من هذه «الحرفة اليدوية»، كما أسماها ساخرا، وطوّر مفهوم «حزب من طراز جديد».
ما هي أشكال التنظيم التي يمكن استخدامها اليوم لشن نضالات ناجحة تجمع بين القضايا البيئية والاجتماعية في تحول جذري، وتجمع بين المطالب الاقتصادية وإعادة الهيكلة الاقتصادية طويلة الأمد، وتنفيذ سياسات سلام هجومية مع الحفاظ على أمننا، وتقديم مساهمة مقنعة لتنفيذ أهداف الأمم المتحدة للتنمية العالمية المستدامة؟ من الواضح انه بدون مثل هذه الأشكال من التنظيم، لن تتفكك رأسمالية الكوارث، بل ستغرق في همجية مفتوحة.
الموضوعة السادسة: نضال لينين للوصول إلى السلطة


في ظل الوضع الحالي، يتعين على اليسار أن يدرك بشكل مؤلم ما يعنيه العجز. إنه يؤدي إلى التشرذم والتفكك والعجز العميق في مواجهة الأخطار المتزايدة، والانحدار المحتمل إلى الهمجية المفتوحة. السلطة هي إغواء. لكن بدون السلطة، كل شيء ليس سوى نية فارغة. في عام 1920، أعادت كلارا زيتكن إنتاج ملاحظة لروزا لوكسمبورغ حول لينين في عام 1907: «ألقي نظرة فاحصة عليه! هذا هو لينين. هذه الجمجمة العنيدة الصلبة! جمجمة فلاح روسي حقيقي مع بعض الخطوط الآسيوية القليلة ً. تنوي هذه الجمجمة هدم الجدران. ربما بسبب ذلك يتحطم، لكنه لن يستسلم أبدًا».
قاد لينين اليسار الاشتراكي إلى سلطة غير مسبوقة. ومن أجل الوصول اليها وضمانها، كان بإمكانه أن يكون قاسيًا ويُخضع كل شيء لهذه المهمة الوحيدة. لكنه بعد فوات الأوان وبلا جدوى، حاول، وهو يصارع مرضه المميت، منع إساءة استخدام ستالين لهذه السلطة وإنشاء قوات مضادة. وتشهد كلماته الأخيرة، اي وصيته، على فشله في مواجهة قوى الحكم غير المنضبط التي أطلقها هو نفسه، في نضاله من أجل وصول الحزب البلشفي إلى السلطة.

الموضوعة السابعة: فشل لينين هو فشلنا


لقد أصبحت أزمة الحضارة الرأسمالية الليبرالية عضوية وعامة. ولهذا السبب بالتحديد، ومن أجل إنهاء هذه الحالة الدائمة من الكارثة، حان الوقت للنظر إلى الوراء، وكما يقول فالتر بنيامين، «لإعداد وجبة للماضي» من أجل التوجه إلى المستقبل. ولا يمكن فصل تأثير لينين الهائل عن عدم النجاح في بناء نظام سياسي لا ينكر الحرية الفردية، ويتيح التعلم، ولا يضحي بها من أجل مجرد صراع على السلطة.
لقد حاول لينين مواجهة أسباب عدم النجاح في السنوات الأخيرة من حياته. كانت كتاباته منذ عام 1922 وأوائل عام 1923، قبل ان تخونه القدرة على الكلام، عبارة عن عمليات بحث جديدة ومفتوحة. في عهد ستالين، تعرضت للتضييق والخنق، قبل أن تبدأ من جديد في عهد خروتشوف ولاحقًا غورباتشوف. اما في جمهورية الصين الشعبية، فلم تتوقف المحاولات خلال الحرب الأهلية، ولكن أيضا في الخمسينيات وأوائل الستينيات من القرن العشرين. ولم تنقطع منذ عام 1978. لقد أصبح من الواضح أن دولة الحزب التي وضع لينين أسسها وحدد ملامحها العامة، أصبحت غير قادرة ان تجدد نفسها.
من يستطيعون التعلم من التاريخ، هم وحدهم الذين يدعون الرفيقات والرفاق الذين سبقونا في البحث عن إنسانية متحررة، للحديث معهم عن محاولاتهم العظيمة، وعن فشلهم أيضا. وينتمي لينين إلى طاولة الحوار هذه أيضا. إذا لم نتمكن من نكون منصفين معه، فلن يكون لنا مستقبل.

* البروفيسور ميشائيل بري، المولود عام 1954، درس الفلسفة وعمل في مؤسسات علمية مختلفة. أحد مفكري حزب اليسار الألماني، ورئيس المجلس الاستشاري العلمي للمؤسسة، في مؤسسة روزا لوكسمبورغ. له العديد من الكتب والبحوث والمقالات الفكرية، ومشارك نشط في المؤتمرات والسمنارات الفكرية في المانيا والعالم. وفي السنوات الأخيرة أصدر سلسلة من الكتيبات بعنوان: اكتشفوا لينين مجددا، اكتشفوا روزا لوكسمبورغ مجددا، واكتشفوا الاشتراكية مجددا. واكتشفوا اشتراكية الصين مجددا. والترجمة هنا هي لنص مساهمته المختصر المنشور في جريدة نويز دويجلاند في 19 كانون الثاني 2024، في حين نشر النص الكامل للمساهمة على موقع مؤسسة روزا لوكسمبورغ.