قصة (آنو) للكاتب علي عبد الرضا: أصل الشرور وفساد الآلهة


داود السلمان
2024 / 1 / 22 - 18:29     

من أسباب نجاح وإخفاق العمل الأدبي للكاتب هو إجادته للّعبته الكتابية، والإمساك بوسائلها الاحترافية، لأنّ الكاتب لاعب كبير، تكمن لعبته في جرجرة القارئ والمتابع لما يكتب (أي كاتب كان، لا كاتب بعينه)، بحيث يجعل القارئ يتابع القراءة ولا ينفر منها من أول وهلة. وهنا أبدأ بمقدمته التي يجب أن تكون متناسقة ورصينة، وفي ذات الوقت تتسع للحبكة والمتانة، ولها جاذبية كجاذبية المغناطيس للحديد، وهي سلاحه الفتاك الذي يجب أن يحمله، وبه أن يمتاز عن الآخرين من الكتّاب، ويجعل أمزجة القارئ تهفو إليه؛ ومن هذا المنطلق نقول إن الكاتب الفلاني أو العلاني: كاتبا ومميزا وكبيرا، قليلا ما نجد نظيره.
كما على الكاتب الذي لا يتمتع بهذه الصفة، أن يراجع نفسه وأن لا يتسرع في الكتابة، وأن يعيد كتابة مقدمة عمله مرات كثيرة، إلى أن يقتنع بما يكتب؛ وبعكس هذا فهو كاتب لا أقل ما يقال عنه أنه "غير مبدع" فهو يراوح في مكانه؛ وما ذكرناه لهو شرط مهم من شروط كثيرة (ذكرنا بعض منها في دراسات سابقة)، لا نُريد تكرارها. ولهذه الأسباب نجد مئات من الأعمال الادبية التي أصابها سهم الإخفاق بمقتل، فأرداها صريعة التسرع وعدم الدقة، واللامبالاة، وحسن الاختيار والتدقيق. وبالمقابل هناك أعمالا أدبية كثيرة، وكثيرة جدًا، لاقت النجاح والانتشار وتناولتها أقلام النقاد بالنقد والتحليل والتمحيص.
إذن، ثمة شروط يجب أن يأخذ بها الكاتب بعين الاعتبار، لنجاح عمله الأدبي. لكن البعض يتناساها ويهل الالتفات إليها، بالمرّة، مما جعله فريسة للهبوط والاسفاف في عمله؛ فنيا وذوقيا. لكنني أعتقد أن الفئة الاكبر يدركون تلك الشروط، وعوامل النجاح لأعمالهم الادبية، فولدت ممتازة تحمل كل امارات النجاح، وتلاقي الترحاب الكبير من لدن الناقد والقارئ معا.
نقد وتحليل:
ميزة القاص - علي عبد الرضا - في قصته القصيرة (آنو) تحديدا، إنه أحسن الاختيار في موضوع القصة، من حيث تسليط الضوء على اسطورة مهمة من اساطير الإنسان السومري القديم، وعلاقته بالطقوس والعبادات، منذ فجر التاريخ وربما أبعد من ذلك؛ بكثير، كون الإنسان مخلوقًا ميالاً إلى العبادة، لأسباب كثيرة، حيث وجد نفسه أمام كون شاسع، وطبيعة واسعة تحفّه بالمخاطر، لم يستطع سبر مداركها ولا ابعادها، ولم يستطع تفسرها او يحل ألغازه، فحاول أن يتقرب منها ويألفها من خلال تقديمه للنذور والتقديس، والتضحية بالفدى تارة، والعبادة تارة أخرى، كما فعل أسلافه ممن قطن وادي الرافدين.
القاص يحدثها عن واحدة من أهم الطقوس الشائعة لدى السومريين آنذاك، وتطالعنا القصة عن علاقة الإنسان بالكهنة والآله، وأسباب الصراعات بين تلك الآلهة من اجل المناصب والنفوذ، والاستحواذ على المنافع، وتبدأ حين يتقرب بطل القصة، المعاق جسديا، بسبب الحروب التي نشبت ولم يعلم أسبابها؛ ولكنّه فهم اللعبة حين أصبح مؤتما على مخدع الآلهة (آنو) وكيف يتسلل الملك آنو الى عشيقته حين تنام زوجته الآلهة (أنتو) لينجب منها ابنه غير الشرعي واسمه (انكى) ليصبح ندًا ومنافسا لأبن (أنليل) ويحدث صراع مميت بينهما يضطر (آنو) ابوهما كبير الآلهة في بلاد سومر، ليعلنا حربا عبثية، الغاية منها كي يبقى الصراع سرًا بين ابنائه بأشغال الناس بها.
القاص علي عبد الرضا، يؤكد لنا مصدر تلك الصراعات، سواء التي كانت بين الآلهة أنفسهم، أو بين الإنسان ذاته، وهو ما ذكره في مقدمة القصة: "كلُ مسبباتِ الحروب والتحريضِ بها، أو اللجوء اليها، وتفضيلها، ما كانت بريئة على مدى الدهور، تستعرُ أواراتُها بمباركةِ مَن ينطقون بإسمِ الآلهاتِ بشكلِ مباشرٍ أو خفي، ما وُجِدت حربٌ على وجهِ البسيطةِ، منذ فجرِ السلالاتِ الى اليوم الحاضر".
والقصة، كما ذكرنا، تعالج أهم قضيتين أزليتين، وهما: "قضية الشر" كيف بدأت وعمّت الكرة الأرضية. وقضية "فساد الآلهة"، فيما بيهم، وما وقع من حروب، وصراع الازلي إلى اليوم متأجج أواره.
تقييم العمل:
لكلّ عمل أدبي أو غيره من الفنون الأخرى، هو جدير بالتقييم؛ ويكون التقييم على وجهين، لا ثالث لهما، الأول أن يراه الناقد عملا متكاملا، لكن، تنقصه بعض الملاحظات البسيطة، (إذ لا يوجد عملا متكاملا بذاته) فالناقد وينوّه الكاتب على تلك الملاحظات، كي يتلافها في إبداع آخر. والوجه الثاني، هناك أخفاقات يقع فيها الكاتب من دون روية، ومنها قضايا فنية وأخرى وجمالية، لها مساس بنجاح العمل الأدبي، ألّا وهي التكثيف في اللغة وسلامة البيان، وهما شرطان أساسيان لكل عمل.

نص القصة:
كلُ مسببات ِ الحروب والتحريض ِبها، أو اللجوء اليها، وتفضيلها، ما كانت بريئة على مدى الدهور، تستعرُ أواراتُها بمباركة ِ مَن ينطقون بإسم ِ الآلهات ِبشكلِ مباشرٍ أو خفي، ما وُجِدت حرب ٌعلى وجه ِ البسيطة ِ، منذ فجرِ السلالات ِ الى اليوم الحاضر، إذا لم ترفع راية ُالتقديس والتدليج، كنت ُ فتى في مقتبل ِالعمر ِوفوران الشباب، حين نشبت آخر الحروب ِالمقدسة ِ، تحت لواء الآلهة (آنو) والتي استمرت سنين طوال من البطش ِ والقهرِ والجوع ِ، زُهِقت الأنفس ُ، ونُهِبت الاموال ُ ، وأُغتصبت النساءُ، ثيبا وأبكارا. استُخدِمت أفتك ُ اسلحة ِ الدمار ِ الشامل ِ الموهومة ِ، وأقواها على وجه ِالأطلاق ِ، كسيقان الشجرِ اليابس ِ، وبقايا قرون ِالأوعال ِ والجاموس وعظامها ْ وأُستخدِم حجر ُ الجلمود ِ كخناجر َ ومعاول، وفؤوسا وسكاكين .فُقأت عيني اليسرى ،وبُتِرت ساقي اليمنى، وجُدِعت أنفي إضافةً الى إحدى أُذنيَّ هاتين، فرافقني الحزن ُكرفقةِ الخلِّ لخليله ِ، وأضحى هو أبرز صفاتي، وحين رآني أكبرُ سدنة ِالمعبد ِ(آنو) الذي طالما أئِمّه في الآحادِ والاسبات، على تلك الهيئة ِ والحال ، نصحني أن أنشرُه، في قوله: - يا بقايا ولدي البار، الحزن ُ بذار، فإبذره في الارض ِ حين تزرع ُ محصولَك َالقمحي، والشعيري ْوإغسلْ جسدَك َ بماءٍ فرات ٍ، وعندما أنجزت ُ ما أوصى به بالكمال ِ والتمام ِ، غطّى الارض َ ْحزن ٌ شفيف ٌ، كسمرة ِ الادغال ِ .وتلك القيعان المخضوضرة ُ، أسموها بالسوادِ تجنيا، مع أن سنابلها تصدح ُ بأغاني الخير ِ في أفواه الجياع ِحصل ان تمسحت ُبأذيال ِ الكبير ِ، وإستمحتُه كي اتقلّب َ بخدمة ِ المعبدِ، وأسهرُ متذللا ومتبتلا بين اركانه واكنافه ِ. أطرقَ قليلا ثم أجاب َ بالقبولِ، شريطة َأن أتحرى الياب َ القصي ،ثم أُحسِن ُ الدعاء.
مرت الليالي والنهاراتُ وأنا دائبا التضرع والوله ، بينما الناس ترمقني بالغبطة ِ والحسد للخدمة ِ والعبودية ِ تلك . امسكَ بتلابيبي بعد لئي من الزمن ِ كبيرُ الكهنة ِ، وقال: - بشراك يابقايا ولدي، ورماد جمرة الحروب، قد نلت َ عطف الآلهةِ ورضاها، فمنذ وقوفك لاهثا بصدق في باحات المعبد، زادت ايراداته ونذوره، فلاشك انك فأل ُ خير، تعال ...إقترب عند مخدع الالهة (آنو) والمؤتمن على اسرارها. فكان كلما تدخل الالهة (آنتو) مخدعها للراحة والاستجمام، يختلي بعلها الاله (آنو) بعشيقته المحببة لقلبه، فأنجب منها ابنَها الغير شرعي(أنكي) واصبح اخا غير شقيق لابن الملكة (آنتو) والمدلل عندها(انليل) وقد ازداد الخصام بينهما من اجل الاستحواذ على منافذ الحدود للملكة وواردات تصدير القار والقطران وكذلك لأجل الفوز بالسلطة وولاية العهد والمغانم الهائلة من تهريب العملة، أمر َ الملك ُ (آنو) إشعال تلك الحرب الظالمة والعبثية ْمن اجل الهاء الناس عما يدور في اروقة قصره ومعبده المنيف، وحصرها خلف كواليسهما المؤصدة .