الأنصاري .. تنهيدة الذات العربية من البحرين


موسى راكان موسى
2024 / 1 / 22 - 11:53     

التالي هو نص الدراسة المشاركة في مسابقة "الأنصاري في مرآة الشباب" لسنة 2023م ؛ محمد جابر الأنصاري كاتب و مفكر بحريني .

====================

(( و ربما ذهب بعض المثقفين إلى ضرورة استحداث "الجوائز" الثقافية ، إنني اعتقد بأمانة أن "الجوائز" لا يمكن أن تولد ثقافة مزدهرة )) (1) .

ارتبطت كلمة "جائزة" في اللغة العربية بالماء . فقيل أن أميرا أتى بجنوده لملاقاة العدو ، فكان النهر حائلا عنه ، فخطب بجنوده أن من يجتز منهم النهر فله عطية ، فعُرفت بالجائزة . و قيل أيضا أن العرب قديما في ترحالهم و سفرهم يحددون مقدارا معينا من الزاد [الماء خاصة] ما يستقوى به من محطة إلى أخرى ؛ أو بتعبير المعاجم مقدار الماء الذي يجوز به المسافر من منهل إلى منهل ، فإن كفاه المقدار و أوصله إلى المراد كانت الجائزة .

و من ذلك فبالإضافة إلى الإرتباط بالماء ، ترتبط "الجائزة" بالصراع و إن كان بشكل ضمني ؛ و للأنفس الوديعة ميل للتخفيف فتشير إلى الصراع بالتلطيف ، فتسيمه منافسة و تحدي .

الجائزة وسيلة ذات دور مزدوج ، فإلى جانب التحفيز [كما جرى مع الأمير] ، يكون التيسير بإقامة الأود [كما في الترحال] . و اليوم لا يخلو مجال تقريبا من وجود "جائزة" بغض النظر عن اختلاف المسمى و الفحوى ؛ في مجالات الرياضة و العلوم و الفنون و الأدب و الثقافة .. حتى الدين [كمسابقة الحفظ و الترتيل] ــ لكن مع ذلك فإن "الجائزة" في مقابل توافق الحكم على مغزاها الإيجابي في مجالات الرياضة و العلوم .. ففي غيرهما من مجالات يتقلب الحكم على مغزاها بين الإيجابية و السلبية ، و ذلك يعود لاختلاف الخصوصية التي يمكن تبيانها بالتالي :

::: فئة (أ) / مجالات الرياضة و العلوم :::
ــ التقييم : القواعد متفق عليها و صارمة ؛ المرونة في جانب هامشي و ضئيل .
ــ الموضوع : ممكن الإحاطة بالحس الواعي المشترك ؛ منظور و ملموس .
ــ الممارسة : ظاهرية و تجريبية و مادية .

::: فئة (ب) / الفنون و الأدب و الثقافة و الدين :::
ــ التقييم : القواعد مختلف حولها و مرنة ؛ الصرامة في بعض الأسس المشتركة .
ــ الموضوع : ممكن الوصول بالحدس أو الذائقة أو الوجدان ؛ نشوة فردية .
ــ الممارسة : باطنية و تأملية و تجريدية .


إذا التقلب يكمن في اختلاف الخصوصية التي تميّز فئة (ب) عن فئة (أ) ؛ الجدير بالإشارة أن في العلوم ما يقترب من فئة (ب) فيُعامل ذات معاملة الفئة [كما العلوم الإنسانية] ، في المقابل فإن في الأدب ما يقترب من فئة (أ) فيُعامل ذات معاملة الفئة [كما في علم النحو و الصرف] ــ و التمييز بين الفئتين هو لغرض تمكين الفهم في ظل حدود عامة معيّنة ، و ليس معناه الفصل المطلق بين الفئتين ، و إلا لجاز وجود إنسان بكله يرزح في فئة دون أخرى .

لذلك حين تمنح جائزة أفضل هداف في دوري كرة القدم للاعب دون آخر ، لا نجد عظيم اختلاف ، و بالمثل جوائز نوبل للعلوم . لكن الأمر مغاير مع فئة (ب) ، فمثلا نجد في جائزة أمير الشعراء مستوى عظيم الاختلاف ينقلب إلى خلاف ــ إن كان اختلاف الشعر في العصر الوسيط يرتكز فقط على الاختلاف في الموضوع و نوع الوزن ، فاليوم الاختلاف في الشعر بكله ! (2) ، فأية مسابقة شعرية هذه التي سوف تقيّم نتاج شعراء مختلفين بمدارسهم و تقنياتهم الشعرية ؟! ؛ فكل المحاولات الرامية إلى إيجاد صيغة من القواعد الصارمة لتقييم مختلف الشعر مآبها الفشل ، فالمرام يتعامى أو يتعالى على الطبيعة التي تميّز فئة (ب) ، و كان آخر هذا التعامي و التعالي أن يكون الاحتكام في التقييم من خلال التصويت ! ، و التصويت على عمل فني أو شعري أو أدبي هو انحطاط حضاري ، لأننا هنا نسلب فئة (ب) طبيعتها الصمدية .. حتى و إن كانت النية أن تصير كما الفئة (أ) ، فالنتاج ها هنا لن يختلف عن نتاج "الكومبرا شيكوس" (3) .

من كل ما سبق يمكن تلمس سبب تشاؤم مفكرنا من المسابقات الثقافية بجوائزها ، دون الغفل عن الاحتمالات التالية التي قد تنبعث :
1. انزلاق القلم و الفكر في وحل الارتزاق ؛ فالجائزة وسيلة قد تتحول عند البعض إلى غاية ، فهناك اختلاف بين مرء يشارك ليكسب فيعيش و آخر يعيش ليشارك فيكسب [هنا استدعاء لمشابهة الاختلاف بين (يأكل ليعيش) و (يعيش ليأكل)] ــ فجان جاك روسو أحد مفكري العقد الاجتماعي ، كي يستطيع العيش اضطر للمشاركة في المسابقات الثقافية [البحث الفكري] ، و قد أبدع ما أغنى الفكر البشري ، و مع ذلك لم ينجو من الجدل حول انزلاقه في الارتزاق .. حتى أن معاصره أبو الحرية فولتير يعده واحدا من الأنذال ! .

2. تحبيط القلم و تحطيم العقل ؛ و هي نتيجة من يشارك في مسابقة ثقافية دون أن تكون خصوصية الفئة (ب) حاضرة في ذهنه ، و كذلك بالمثل الجمهور و المتابعين ــ لذا نجد شيء من التذكير بهذه الخصوصية من القائمين على مثل هذه المسابقات ، و إن كان التذكير في كثير الأحيان مقتضب و يعتريه الشواش .

3. حضور الاستجابة بحضور الحافز ؛ آفة لعينة تصيب العقول ، هي أن تفكر استجابة لحافز من خارج الفكر ذاته على الدوام ، أن تفكر لأجل المسابقات و ربح الجوائز .. أن تفكر لأجل الألقاب و المناصب .. أن تفكر لأجل أن يُقال عنك مفكر ــ و قد مضى الفيلسوف الديناميت (4) أبعد من ذلك بأن شنع على صنف المثقفين ممن (( لا يفكر حتى يقلب أوراق كتاب )) ! .

4. التغطية و التعمية ؛ لا تتماثل النوايا و الأهداف عند القائمين على المسابقات الثقافية ، هناك من فعلا يكون همه التحفيز الثقافي ، و هناك من هو دون ذلك . الفعالية الثقافية لا بد أن تكون أبنة البيئة التي تنوي أن تقام فيها ، أما اصطناع فعاليات ثقافية في بيئة لا ترتبط بها برباط أمومي فغايتها لن تتجاوز التغطية على القصور الثقافي الوجاهي [الرسمي] .. و التعمية عن الحضور الثقافي المنفلت [الفردي] و الشعبي [الفلكلوري] ، لذلك توصف مثل هذه الفعاليات بأوصاف من قبيل "العهر الثقافي" (5) .


و إن كان للتشاؤم تجاه المسابقات الثقافية منفذ بعد كل ذلك ، إلا أن من الضروري تقييد هذا التشاؤم ، فمع مفكرنا نقول أن هذه المسابقات (( لا يمكن أن تولد ثقافة مزدهرة )) .. و لكن بإمكانها أن تـ (( ـدع مائة زهرة تتفتح )) ، فرواء الأرض من أسباب النبات . هو إذا "فيتامين دال" الذي لا يمكن للمسابقات الثقافية أن تنتجه ؛ فالمسابقة لن (( تولد ثقافة مزدهرة )) لكنها قد (( تستنبت ثقافة مزهرة )) .. و لنحتفظ ببصيص الأمل هذا ــ على الرغم من كون صاحب مقولة (( دع مائة زهرة تتفتح )) أعقبها بثورته الثقافية ، التي لم تبق إلا على الزهر الأحمر .. الأحمر الماوي حصرا ! .

***

(( ليتحرر العقل العربي من اجترار القراءات القديمة أو الخضوع لقراءة حداثوية من جهة واحدة )) (6) .

بدأت الذات العربية مسيرها إلى الدثور مع أواخر الخلافة العباسية ، و كاد الوصول أن يكون مع الخلافة العثمانية ، فما الذي عصمها عن حضن العدمية ؟ هو انقداح وعيها بذاتها .. الذي مهر عصر النهضة العربية في ثلاث تيارات سياسية فكانت الجوامع : العربية ، الإسلامية ، العثمانية . و رغم الاختلاف الظاهري بين الجوامع الثلاث ، إلا أنها تنتهي إلى مصب الذات العربية الواعية .

فتيار الجامعة العثمانية ، لم يكن مع التتريك .. لكنه كان يرى أن الذات العربية بحاجة للظل الذي تتيحه الشجرة العثمانية بغض النظر عن سوء وضعها و تمكن دودة الفساد منها ــ كان يرمي إلى الإصلاح الداخلي المُمَكِن للذات العربية .. و نظره شاخص تجاه الأطماع الخارجية الاستعمارية ؛ فكانت الأطماع الاستعمارية بالنسبة إليه أخطر من دودة الفساد في الداخل .

الجدير بالذكر أن أغلبية أصحاب هذا التيار إما كانوا من مناطق بعيدة عن مركز القرار و الحضور العثماني [مثل مناطق المغرب العربي] أو لم يكونوا أساسا رعايا العثمانية ! [كمصطفى كامل بحزبه رعايا خديوية مصر] ؛ في مقابل الحضور الاستعماري كان الغياب العثماني ، فكان لذلك دوره في تشكيل الوعي عند أصحاب هذا التيار .

بالمثل تيار الجامعة الإسلامية ، لم يكن مع التتريك .. و كان أيضا يرى أن الذات العربية بحاجة للظل الذي تتيحه الشجرة العثمانية ، و لم يغفل عن الخطر المتمثل بالأطماع الخارجية الاستعمارية ، لكن إصلاحه الداخلي تمثل بزرع بذرة الإسلام "الصحيح" لتصبح شجرة تحل محل الشجرة العثمانية ؛ فكانت الهوية العربية سويداء بذرة الإسلام ــ و معروف أن السلطان عبدالحميد الثاني كان يدفع تجاه هذه الجامعة حينا من الدهر ، لا من باب التقوى لكن من باب السياسة ، حتى بانت له السويداء العربية ففتك بجمال الدين الأفغاني أبرز أصحابها ؛ إذ كان شرط الخلافة الإسلامية "الصحيحة" أن تكون في العرب [(( أن "نظام الخلافة" لا ينبغي النظر إليه كشأن ديني ... فهو مدني في أساسه و جوهره )) (7)] .

أما تيار الجامعة العربية ، كان يرى أن الطاقات المبذولة للإصلاح الداخلي لشجرة العثمانية الفاسدة هي طاقات مهدورة [الجامعة العثمانية] ، و بالمثل الطاقات المبذولة للإصلاح تحت ظل هذه الشجرة أيضا مهدورة [الجامعة الإسلامية] ، و الأولى تحويل إتجاه الطاقات في مسيرة الوصول للشجرة العربية ــ بالنسبة لهذا التيار فأن الخطر الخارجي المتمثل بالأطماع الاستعمارية مرده إلى الخطر الداخلي المتمثل بفساد الشجرة العثمانية .. فالخارجي كخطر ما كان ليكون لولا الخطر الداخلي ؛ فيلزم النظر إلى تعامل أصحاب هذا التيار مع الأطراف الخارجية من باب السياسة لا السذاجة ، مع الأخذ بعين الاعتبار العمر السياسي للذات العربية التي كانت تحبو في ذاك الزمان .

و مع كل "شكليات" الإصلاح التي أجاد أزلام العثمانية مسرحتها و تمثيلها ، بقت الذات العربية الواعية بتياراتها الثلاث مستظلة بشجرة الفساد ، حتى تدلت منها حبال المشانق مع ولوج العالم عتبة الحرب العالمية الأولى ، حبال لم تلتف حول رقاب الاستعمار الإنجليزي أو الفرنسي .. لكنها أتلفت الأرواح الزاكيات لمثقفي و مفكري الذات العربية ؛ إن وحش العثمانية أراد بفضه بكارة العربية أن يعدمها .. لكنها أنجبت منه ثورتها ! .

مع الثورة العربية الكبرى انتقلت الذات العربية من طور الوعي إلى طور الفعل . و وضعت الحرب أوزارها و تحقق فعل الذات العربية بتحقيق ثورتها ، و آن لها أن تنظر في مرآة نفسها لتدرك حقيقة أن الذات العربية ليست بذات واحدة في تماثل عناصرها و إنما في اختلاف عناصرها ، فأرتعشت رافضة مزبدة لهذه الحقيقة ، فأتهمتها بأنها مصطنعة كاصطناع الحدود السايكس بيكوية ؛ فعاشت بمنطق المؤامرة و مارست فعل المؤامرة و هدفها نحر عنق المؤامرة ! .

الفترة الممتدة من بعد الحرب العالمية الأولى إلى ستينات القرن العشرين ، فترة شديدة الضبابية في عرضها تاريخ المنطقة العربية . و من بين كتب التاريخ لا سبيل للباحث إلا لملمة نتف متفرقة ليستوعب الأحوال كيف كانت و الحوادث مما آلت ؛ و ذلك لا يرجع حصرا إلى الاستعمار و ممارساته ، بل يبدأ من العلاقات التي كانت بين مختلف العناصر بالمنطقة العربية ــ و أي بحث ينوي الخوض في تلك الفترة بشكل علمي سيهز سردية الخطاب العمومي الذي سعى و لا يزال ليصور ذاك الزمان على أنه "زمن الطيبين" و عصر اتسم بـ"ـالتسامح و التعددية التعايشية" و "مشاعية الخير" ؛ دأب عدد من الكتاب و المفكرين الما بعد حداثويين على اتهام السرد بالمطلق بأنه مصطنع و فيه ما فيه من الكذب و التزوير لأهداف مختلفة ، فلماذا لا يسعنا "اختلاق" سردية لهدف نبيل كتحقيق الوحدة الوطنية و إشاعة التسامح و روح السلام ؟! مهما قيل عن نبل الهدف .. فإن صفته لن تنسحب لتشمل الوسيلة التي بها يتحقق ، و مهما حاولت "السردية المختلقة" أن تبدو بالمظهر العلمي .. فإن جوهرها الإيديولوجي يشع في الميدان السياسي ، و تبقى عرضة للاستبدال السردي بمجرد خفوت الإشعاع ، لكن خطرها الفعلي في شرعنة "الاختلاق" ، فما إن يُفتح صندوق باندورا (8) حتى تتطاير السرديات [مثلا السردية الطائفية في الوسطين السني و الشيعي بالبلاد ، كلاهما يروي أن الآخر طارئ الوجود ، و هذه الطارئية لا ينفع افتهامها بشكل محايد في أي بحث أو درس ، إذ يلزم استحضار السياق الهادف إلى المحافظة أو المطالبة بمكاسب اجتماعية معينة] .

بعض الأبحاث و الدراسات العلمية مع رصانتها قد تؤدي لإثارة الفتن في حال شيوعها بين الناس ، لذا درجت العادة [في منطقتنا] بالإشارة لضرورة خلوة أهل الاختصاص ببعضهم ، و الحيلولة بين منطق كلامهم و مسامع عوامهم ، فكانت تلك التي يقول عنها مفكرنا (( الفجوة الهائلة بين "ثقافة الخواص" و "ثقافة العوام" في حياتنا )) (9) . المشكلة تبدأ من الرؤوس التي تمقت الفتنة في ذاتها و تتجاهل كل الإمكانيات التي تتيحها لغير ذاتها ؛ الألم مثلا إن اكتفينا بالنظر إليه في ذاته فهو قبيح مكروه ، لكن حين نتجاوز بالنظر لغير ذاته ندرك فائدته ، فيُستحسن ، ففي هذا التجاوز من (في ذاته) إلى (لغير ذاته) توسع بالفهم فإرتقاء بالوعي ، و ذلك ليس فيه أي مدعاة لنشر الألم و تمجيده .. بل إن وجدنا ما يحقق فائدته بدونه طلبناه ، و الحاكمية مقيّدة بمدى راهنيتها كضرورة لا بد منها [آخر الدواء الكي] ــ في اللغة العربية كلمة "فتنة" تأتي بمعنى الاختبار ، فالعملية التي يحرق فيها الذهب لمعرفة مدى نقاؤه تسمى بالفتنة . إذا من خلال الاختبار يمكن التمييز بين الصالح و الطالح ، و ما رفض الاختبار إلا أن يكون لطمأنينة النفس لما هو راكد [رفض بالمطلق] .. أو يكون الرفض نتيجة الحكم على الاختبار بأنه غير نقي [رفض بالتعيين] (10) ؛ مما ينسب للنبي العربي قوله (( الماء الراكد ماء نجس ، و الماء الجاري ماء طهور )) ، و قد ذهبت معظم التفاسير بالقول أن المقصود هو الماء بمعناه المادي ، لكن لعل الصحيح في الفهم من خلال المجاز لمعنى الماء ، إذ هي دعوة تنتصر للحركة على السكون .. للتغيير على الجمود .

بعد ذلك لا غرابة من أن تقترن الفتنة عند "المحافظين" ، سواء متدينين و علمانيين ، بإعمال الفكر و النظر ، إذ تتطابق دعوتهم بالتعوذ من الفتنة مع تعطيل العقل ؛ و في سبيل ذلك قام منهم من قام بتوثين النقل ، سواء الإخبارية الدينية و الحداثية العلمانية ، فأي منقول و إن كان طيب الأصل فقد تصنم [خبُث] ــ و قد زاود بالحق من زاود على الإمام علي فكان الرد بقوله المشهور (( كلمة حق أريد بها باطل )) .

التعارض بين العقل و النقل هو تعارض مختلق ، فحتى أعتق الإخباريين يستعمل عقله ، و رغم جحوده بالفكر و إنكاره النظر .. فهو ينهل منهما و إن كان دون وعي أو قصد ؛ و كذلك الفلسفة تراود عن نفسها ، لكن بمجرد ذكر اسمها (( لا يألونكم خبالا )) (11) .

لنلخص ما سبق :
ــ وجود (الذات العربية) بدأ مسيرة الدثور أواخر الخلافة العباسية و كاد يكتمل الوصول مع الخلافة العثمانية .
ــ التحول إلى (الذات العربية الواعية) تشكّل من خلال الجوامع الثلاث : العربية ، الإسلامية ، العثمانية .
ــ رفض التسليم بالعدم تجسد في فعل الثورة ، فكانت (الذات العربية الفاعلة) .
ــ انتصار الثورة وضع الذات العربية أمام مرآة نفسها ، فلم تتقبل حقيقة أنها ذات واحدة في اختلاف عناصرها ؛ هذا الانعكاس تزامن مع الانتكاس الذي جسدته القوى الاستعمارية بالمنطقة .
ــ و إلى اللحظة ، في مواجهة الذات العربية لإشكالية محور (الانعكاس ـ الانتكاس) ، مورست شتى أصناف الكبائر : تخبط التآمر ، تعتيم التاريخ ، اختلاق السرد ، تجريم الفتنة ، تعطيل العقل ، توثين النقل ــ أما ذروة الكبائر فكانت المحافظة على هذه الحال إذ (( ليس في الإمكان أبدع مما كان )) ! (12) .

من ذلك فالخلاصة هي ما خلص إليه مفكرنا في تفسيره ظاهرة قيامة الإرهاب : فعجز الذات العربية في مواجهة إشكالية محور (الانعكاس ــ الانتكاس) أو بتعبير آخر التفاعل بين (( 1) هيمنة أجنبية (...) [و] 2) أوضاع داخلية متجمدة و عاجزة )) (13) ، أصابها بـ(( حالة اختلال كياني )) (14) ، و التشخيص المبدئي يشير إلى (( اختلال في التكيّف مع حركة التاريخ ، و عجز العقل السياسي (...) عن العمل )) (15) ، فكان الإرهاب العَرض الواصم (( من بؤس الإدراك التاريخي إلى بؤس الانفعال بالواقع )) (16) ، و كما هو الخطر الناتج عن زيادة كريات الدم البيضاء بالجسم هو خطر الإرهاب الذي ليس سوى (( دفاع عن الذات ضل طريقه إلى تدمير الذات )) (17) .

و الخطأ الذي وقعنا فيه و لا نزال في محاولة العلاج ، بالتعامل مع العَرض [الإرهاب] على أنه هو المرض ذاته ، فكان الدواء أول الأمر من النوع الأمني و العسكري ، و اقتصر نجاحه على الحد من العَرض إلا أنه استلزم دوام الدواء .. و دونه النكوص أكيد . و بعد فترة ضجت دوائر القرار و قنوات الإعلام بالإعلان عن دواء جديد من النوع الإيديولوجي ، لكنه كما الأول استهدف العَرض لا المرض ، و مهما بلغ عدد المستنقعات التي نالت الرضوان بالتجفيف ، إلا أن الظروف التي أوجدت المستنقع لا تزال دائرتها تدور ، فالسماء تبقى ماطرة و الأرض ليست قادرة .

***

(( المسألة لا تنحصر في سطوة فكر متطرف ، بل في وجود "بنية مجتمعية" تقوم عليه و تقاتل من أجله )) (18) .

إن التطرف و الاعتدال و التفريط سمات تقع خارج الفكر ، و من الغلط الخلط بين ما هو من داخل الفكر و ما هو من خارج الفكر . ففي محكمة الفكر لا وجود لفكر متطرف ، (( أترى القاضي أعمى *** أم تراه يتعامى )) ؟! .

عند المستوى النظري كل الأفكار تتسامى فتتساوى ، على سبيل المثال فإن فكرة (قطع يد السارق) تماثل فكرة (سجن السارق) من الناحية القانونية [النظرية] ، لكن ضمن المدى العملي يُحاكم الفعل بوسم التطرف أو الاعتدال أو التفريط ، و ذلك حسب سياق مجرى الفعل في إطار زمكانه و اختلاف المواقع الاجتماعية من جهة الهيمنة و المقاومة من ذوي العلاقة ؛ و تتكشف بذلك حقيقة يخجل البعض من إظهارها .. و في ظهورها البعض الآخر يدفن رأسه ، ألا و هي نسبية الحكم على الفعل ذاته ، أي أن الفعل ذاته ممكن الوسم بالتطرف و الاعتدال و التفريط .. من دون الحصر المطلق ! [أنظر الجدل في الحكم على ممارسة "السرقة" في قصة روبن هود] .

الإرهاب ليس مجرد إرادة قادرة على ممارسة العنف ، و ليس مجرد فكر بالمغالطة يوسم بالتطرف ، الإرهاب عَرض لمرض أصاب الذات العربية ، و (( العلاج يكمن موضوعيا في التصدي الحكيم و الشجاع لاستمرار العاملين المذكورين و لتفاعلهما الوبائي )) (19) .. أي مواجهة محور (الانعكاس ـ الانتكاس) ؛ رغم صحة رفض حصر الإرهاب في دين أو وطن بعينه ، إلا أن من الضروري في العلاج تبيّن الخصوصية المرضية التي بها تستفرد الذات العربية ، بالتالي فالإرهاب من هذه الجهة هو إرهاب مخصوص ، فيكون الخطاب التعميمي أو التمييعي لظاهرة الإرهاب عائق للفهم و مانع للعلاج (20) .

و في إطار ذلك بالإمكان فهم ظاهرة أخرى استفحلت ، كان مفكرنا من أوائل من سلطوا الضوء عليها : (( قد ظهر تيار جديد في العالم الإسلامي مؤخرا يدعو إلى إعادة الاعتبار للدولة العثمانية (...) [فكيف] يمكن إغفال الواقع التاريخي المعاين تحت تأثير الحنين إلى كيان إنهار من الداخل قبل أن تأتيه الضربات من الخارج ؟ )) (21) . فظاهرة الحنين للعثمانية لا تختلف عن ظاهرة الإرهاب ؛ فوحدة الظاهر المختلف من الأعراض في المرض المتلف لهذه الذات ــ و هي ظاهرة برزت في الوسط العربي قبل بروز الساسة الأتراك ممن أدرك فائدة التوظيف السياسي لهذا الحنين ؛ لذلك سنقع في سوء الفهم إذ اقتصر النظر بتعليل الحنين من خلال "التوظيف السياسي" ، كما وقع في سوء الفهم من اقتصر النظر لديه بتعليل الحدود بين العرب من خلال "اتفاقية سايكس ـ بيكو" حصرا ، فكانت تجارب الوحدة العربية تنتهي بالفشل لأنها خلصت بمنطقها الساذج أنه (كما قامت الحدود بإتفاقية .. تلغى كذلك بإتفاقية) .

أول خطوات مواجهة محور (الانعكاس ـ الانتكاس) بالسعي لفك طلسمته ، مع الانتباه لكون الطريق ليست معبّدة ، بل إن أول العقبات قبل بدء المسير .. إذ تتمثل بإغواء بنات آوى ؛ الصادحات بدعوى "غير ممكن تعقل الواقع" ، إذ هناك معجزات سماوية و خوارق سحرية و كرامات عشوائية ... إلخ مما يعزز تلغيز الواقع ، و كل الحلول التي تنبع من هذه الدعوى ستكون من نفس جنسها ، أي منفلتة العقال لا تحتكم بمنطق النظر و العمل ــ و كانت ذروة هذا الإغواء قد تجسدت بأرض أفغانستان حيث كانت راية الجهاد "الماركة" لصناعة الإرهاب ؛ تشبعت أخبار الجهاد برواية الخوارق و الكرامات ، و تم تحييد الإرتياب من كم التمويل و كيف التسهيل بسذاجة متعصبة ، فلا أخذ بالأسباب و لا قيمة للنتائج و لا صوت للنقد .. منذ صار الجهاد (( فعل إيمان )) (22) ، و كل فعل لا يحتكم بالعقل هو انفعال .. و صدى صوته شطحات ، تغزل بها عناكب التأويل بيت الوهن .

في كل مرة تستسلم للإغواء ذات الودع (23) حين تماثل بين الراحة و الكسل ، و بين الطمأنينة و الجهل ؛ و فرق التوقيت فرق حاسم يعدم التماثل ، فالراحة تأتي بعد العمل .. أما الكسل فما يكون قبل العمل أو دونه ، و الطمأنينة هي حال الامتلاء العارف بعد بذلٍ للجهد .. أما الجهل فهو حال الفراغ الساكن قبل بذل الجهد أو دونه ــ و كلما طال الوقت بها دون الفطام عن ثدي التقليد [سواء التراثي و الحداثي] (24) ، تجذرت انحرافاتها و تشعّبت أرض الواقع .. و طال عنقها حتى لتتحدث من السماء كإله سقط سهوا عن عرشه .

البراء من الإغواء يكون في الولاء إلى العلم ، و لا يكون ذلك دون اعتناء بمبدأ السببية (25) . و لا بد من تذكير النفس بالمحصنات [ ((و ذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين )) (26)] ، حتى لا ينقلب العلم إلى نقيضه :
ــ العلم هو عملية إنتاج للمعرفة ؛ و ليس تكرار المعرفة .
ــ العلم القعود ما كان دون العمل ؛ استقامة العلم في حضور العمل . (27)
ــ الشكل التقني للعلم ليس هو هو العلم ؛ فالعلم نبض المضمون لا برود المنظور .
ــ شهوة العلم لا تشبع ؛ سقوط العلم في الكمال و الاكتفاء .
ــ مبتدأ العلوم و حركتها في النقد ؛ غياب النقد حكم مؤجل بالإعدام للعلوم .
ــ العلم نتيجة وحدة الصواب و الخطأ ؛ و ليس التوفيق بين الفضيلة و الخطيئة .
ــ التاريخ هو أبو العلوم ؛ من دونه ما كانت لتكون ، التاريخ تأصيل العلوم .
ــ الفلسفة هي أم العلوم ؛ من دونها ما كانت لتعرف من تكون ، الفلسفة بصيرة العلوم .

***

(( ينبغي ألا يكون غياب الحريات الفكرية "حائط مبكى" لبعض المثقفين العرب الذين يستمتعون بالبكاء ! . الحريات الفكرية مهمة للغاية في حياة الأمم ، و لكن ينبغي ألا يكون لدينا أي "وهم" بشأنها فهذه الحريات لن تأتي إليهم مع باقات ورد أو شيكولاته ! )) . (28)

الحريات الفكرية ليست عبارة عن حال يجد فيها صاحب الفكر نفسه ، لكنها الحال التي يخلقها صاحب الفكر بنفسه ، و قد تتجاوز من خلال التعبير حدود النفس إلى المجال العام ، فتكون ممارسة و دعوة في آن معا ؛ التفكير كعملية داخلية لا تكون دون نوع من الحرية المتصلة بها كخلق ذاتي ، فالحرية للفكرة كالمشيمة للجنين ــ مع ذلك نجد في أهل الفكر من يقف بالضد من الحريات الفكرية ، بل ضد الفكر بكله ! [مثل موقف المحافظين سالف الذكر] .

اذا حين يتذرع أحدهم بغياب الحريات الفكرية ، فهو يمارس نوع من المواربة لعجزه الداخلي عن التفكير ، بالإحالة إلى ما هو خارج ذاته [كالجماعة أو السلطة] ؛ ببساطة هو عاجز عن التفكير لأنه عاجز عن التفكير ــ بالنسبة لبعض المثقفين الذئاب فهذه المواربة لها مقاصد في مناصب و سلطات ترغب بها أنفسهم الوحشية ، و ما الحياة الفكرية التي هم فيها إلا صدفة و شيء من "الكيف" ، فلأمثالهم المذاهب الفكرية ما هي إلا مشارب .. فميلهم لمذهب كميلهم لمشرب .

الكوجيتو الديكارتي "أنا أفكر إذا أنا موجود" ، مع ربطه بين عملية التفكير و فعل الكينونة فهو يتضمن الحرية كممارسة داخلية مسلم بها ؛ هذا الخيط الجامع بين الفكر و الوجود و الحرية نجده في كثير من الفلسفات المعاصرة [خاصة الوجودية] .

يمكننا تعقل واقع مجتمعاتنا .. و يمكننا العمل لتغيير هذا الواقع للأفضل ، لكن كبداية ينبغي استحضار الإرادة الساعية فعلا لمواجهة محور (الانعكاس ـ الانتكاس) ، و هذا السعي سيُدفع ثمنه قبل الوصول .. و ربما دونه ؛ و إن كان في ذلك تشاؤم ، يبقى فيه مجد المحاولة :

المجد للشيطان معبود الرياح
من قال "لا" في وجه من قالوا "نعم"
من علم الإنسان تمزيق العدم
من قال "لا" فلم يمت
و ظل روحا أبدية الألم (29)


و إلى أن تأتي لحظة المجد ، نبقى على حالنا (( نبقى هكذا بين إعلان "أفضل المبادئ" و الانغماس في "أسوأ الأوضاع" ! )) (30) .


================================

(1) الملاكمون هل كانوا مسلمين ؟ ، لـ أ.د محمد جابر الأنصاري ، عن دارة الأنصاري للفكر و الثقافة و مؤسسة الأيام للطباعة و النشر و التوزيع (البحرين) ، الطبعة الأولى 2020 م ، الصفحة 106 . [تاليا سيكتفى بذكر لفظ (الملاكمون) و رقم الصفحة عند التعرض مرة أخرى لذات المرجع] .
(2) مع ولوج عصر الحداثة عرفت المنطقة العربية تقريبا كل أنواع الشعر من حر و منثور و مرسل و سريالي .. إلخ ، اللهم النوع الوحيد الذي يمكن القول بعدم بروزه حتى اللحظة .. الشعر على طريقة الحركة المستقبلية [خربشة بالصوت دون كلمات] ، و إن كادت السريالية الشعرية تقترب في بعض الأحيان من ذلك . و لا يفوت طبعا بروز الشعر العامي على اختلافه من زجل و سحجة و نبطي و موال .. إلخ . و بعيدا عن جدل الشعر و قوننته ، فالمبتدأ و المنتهى في الشعر هو الشعور (( ما الشعر إلا شعور )) ، و ما بينهما ليس سوى مظهر لهذا المضمون الشقي عن الوصول .
(3) هذه الفئة تمتهن التربية ، تربية من نوع خاص جدا ، هم كما يخبر عنهم فيكتور هوغو : (( مربون ، كانوا يأخذون إنسانا و يصنعون منه جهيضا ، يأخذون وجها و يصنعون منه خطما ، كانوا يضغطون النمو ، يعجنون السحنة . إن الإنتاج المصطنع لحالات مسخية كانت له قواعده . لقد كان علما كاملا )) (الرجل الضاحك ، لـ فيكتور هوغو ، ترجمة زياد العودة ، عن منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب (دمشق ـ سوريا) ، طبعة 2012 ، الصفحة 76) .
(4) هو الفيلسوف فريدريك نيتشه .
(5) تتميز هذه الفعاليات بعدم ديمومتها ، فإن كان ظهورها السريع يصاحبه الصخب عملا بـ (( و أما بنعمة ربك فحدث )) (سورة الضحى ، الآية 11) ، فإختفاؤها السريع يصاحبه الصمت من باب (( لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم )) (سورة المائدة ، الآية 101) ؛ فلو أردنا المشابهة بالنبات فهي الأقرب إلى الفطر .
(6) الملاكمون ، الصفحة 38 .
(7) الملاكمون ، الصفحة 60 .
(8) من الميثولوجيا الأغريقية ، لم تصغ باندورا للنصائح بعدم فتح صندوق الفظائع ، لكن مع فتحه و خروج الشرور منه ، يخرج ضوء يعبر عن نوع من الأمل .. الأمل الزائف ؛ هذه بضاعة تجار ما بعد الحداثة ! .
(9) الملاكمون ، الصفحة 84 .
(10) أصحاب الرفض بالتعيين فيهم سوءة السياسة ، فيحاججون الواقع المعاش بإسم المثال المحال ، و متى ما مالوا عُكست المحاججة .
(11) سورة آل عمران ، الآية 118 .
(12) تنسب هذه العبارة إلى فولتير من مؤلفه "كانديد" ، إلا أن الإمام أبو حامد الغزالي له سبق استعمال اللفظ و المعنى .
(13) الملاكمون ، الصفحة 25 .
(14) الملاكمون ، الصفحة 18 .
(15) الملاكمون ، الصفحة 25 .
(16) الملاكمون ، الصفحة 80 .
(17) الملاكمون ، الصفحة 28 .
(18) الملاكمون ، الصفحة 72 .
(19) الملاكمون ، الصفحة 26 .
(20) الجميع يصاب بالزكام ، لكن هذا لا يعني أن الطبيب سوف يغفل الخصوصيات التي تميز كل المرضى عن بعضهم البعض ، فالدواء الناجع مع إهمال خصوصية حالة المريض قد تؤدي لهلاك الأخير .
(21) الملاكمون ، الصفحة 53 .
(22) ماذا قيل يوما في أفغانستان ؟ ، لـ يوسف محمد سمرين ، أتيح من طرف الباحث نفسه عبر قناته على التليغرام (نسخة إلكترونية) ، الصفحة 69 .
(23) أي الصبي الغير الناضج ، و حسب السياق الذات التي تخلت عن العقل ، فمما يشترطه العقل هو التمييز .
(24) التقليد مرحلة يحتاج الفرد المرور بها ، و من غير المعقول افتراض انعدام التقليد بالمطلق .
(25) الملاكمون ، الصفحة 29 .
(26) سورة الذاريات ، الآية 55 .
(27) الملاكمون ، الصفحة 39 .
(28) الملاكمون ، الصفحة 106 .
(29) من قصيدة "كلمات سبارتكوس الأخيرة" ، لـ أمل دنقل .
(30) الملاكمون ، الصفحة 78 .