الأفق الشعري


الطيب عبد السلام
2024 / 1 / 19 - 22:14     

يزدحم الفضاء "الأدبي" بالكتابات الشعرية و التي هي في حقيقتها مجرد دوران في فضاء مغلق تسسبت فيه العقلية المدرسية التقليدية التي حصرت الشعر في أغراض فقهية محددة هي "الغزل و المدح و الذم" فأصبح الشاعر العربي مجرد نساج ينسج على هذه المغازل المنصوبة سلفا،مجرد نساج يتلاعب بألالفاظ و ينوع عليها و يبهرجها ليركب بمكعباتها كل مرة شكلا مختلفا لذات الصورة و الذهنية.
و كسرا لهذا النمط يجنح الشعراء لكتابة قصيدة ذاتيه تعبر تأخذ الشاعر مجددا بعيدا عن الواقع لصالح انا أشبه بالأنا الصوفية المتضخمه في شعورها بنفسها و المحتقره للواقع فيصبح الشاعر كما قال احدهم "متفرد بكأبتي متفرد بصبابتي متفرد بعنائي"، هي انا ثارت على القصيدة الكلاسيكية العربية لكنها ثورة لا تختلف عن ما ثارت عليه في شئ سوى انها تضيف إلى الأغراض الاولى غرضا جديدا هو التعلق بالذات و تصويرها تصويرا سوبرمانيا او حلاجيا او صوفيا او نبويا و في كل الأحوال نحن امام قصيدة لا تقدم شيئا غير عظة إنشائية لجمهور من الحضور الذي يدور معهم في ذات الفلك من الصور الذهنية التاريخية المقدسة.
لذلك فقد صار الشعر المعاصر برمته بلا "جدوى" ولا قدرة على الخروج من كهف افلاطون هذا حيث الماء ماء و الهواء هواء!
و لكن هذا في تصوري تبذير و تضييع للقدرات الكشفية عالية الشفافية التي يكونها القول الشعري، كونه المصباح الذي يضئ عتمات القول و التدفق الميت للحياة المحاصرة في تصورات و مشاعر تأسر النبض في قلبه و الإلتماعات في سمائه، و حينما يغفل الشعر عن هذا السبر و الذهاب المتسائل نحو تدفق الوجود فإنه يتأمر هو الأخر على الحياة و يالها مؤامرة من عزيز كان الأجدر به أن يكشف الغطاء عن وجوه القاتلين.
و لكن كيف سيكسر الشاعر هذا الروتين الشعري و يستطيع الإقتراب من الأفق الشعري الحقيقي؟
ما يميز الكتابه الشعرية هو تلك الذاتيه الباحثة عن التفرد و أبتداع تجربة مزامنة لروح المعنى الجمالي و شفافيته القادرة على الإنفلات من جاذبية الكلمات، و هي نقطة البدء الأولى التي قرر الشاعر فيها أنه "مختلف" قبل ان يسقط في فلك التمدرس و يتحول لشبح يهيم في ليل المكرر و الإنشاء،عليه أن يشكك في كل المعيات و يخوض كل التجارب في الحياة ليضيف لنفسه مشاعرا و خبرات و تصورات تخرجه من "الشلة" او موظفي شركة الكلام..عليه أن يعي أن الملكة الشعرية منفتحه على الوجود و صديقة له و ليست الفاظ متداوله في مجتمع "الشلة" او المجتمع الاكاديمي الذي برزت فيه تلك الأصوات ثم أستمرت في تصوراتها الأكاديمية للشعر.
الشاعر مدعو لإرتياد الأفاق و المغامرة بإلابتعاد عن كل ما يجعله أسيرا لضرورة او صورة تجعل من شعره ذا شرعية! وفقا لما أعتادته "الشلة".. تلك الشلة المهيمنة على الفضاء العربي الشعري كابتة للملكات و التجارب المغايرة، و لا اعني بالكبت معنى الحجر بل هو كبت في كثير من الأحيان طوعي يفرضه الشاعر على نفسه إلتزاما بالمحجة البيضاء التي ليلها كنهارها..فيفقد الشاعر صوته و يضيع قي جوقة المداح.
بهذه الخطوة الأهم يستطيع الشاعر الدخول لمعمعة الحياة و من ثم التمتع ببصيرة الحدوث البرئ و عفوية و جمالية ذلك الحدوث، فبهذه البرأة و هذا الميلاد الجديد يكون الشاعر مهياء للخروج من عنق زجاجة القول لخمائل الإصغاء.
و هنا على الشاعر ان يفهم ان القرأة هي اسمى معاني ذلك الإصغاء و هي القرأة غير المتعصبه لتوجه أيديلوجي معين لا تختلف عن الشعر الاول المدجن، بل هي قرأة تستفز العقل للتفكير و تتجاوز ما اعتاده من تمثل و تصوير فتسمو الذائقة الجمالية و تتجاوز غائية الإعجاب و التصفيق ليتصير الشعر المرأة الشفافة لإنمزاج ذاتية الشاعر مع الوجود، لإنمزاج الجمال بحواف الضوء و هي تلامس اغصان الشجرة..و حينها لا تتحول القصيدة إلى عمل يلزم به الشاعر نفسه بل تكون صورة فوتغرافية بارعة فرضت نفسها على الشاعر.