(خيانات متجدّدة) يدفع فاتورتها الشاعر خضير الزبيدي قراءة تأويلية


داود السلمان
2024 / 1 / 17 - 18:18     

استهلال:
شجاعة الشاعر
إذا أردت أن تكن شاعرًا يجب عليك أن تمتهن الجنون، وتبذل قصارى جهدك في الابتعاد عن الابتذال، والاسفاف، والتشظي، وكل ما يقيد حريتك بالطرح، وأبداء الرأي.
أن تكن شاعرًا يجب عليك أن تعلن تمردك على السلطة، وأن تشتم الطغاة على رؤوس الاشهاد؛ وأن لا تكن خانعا ذليلا، ولا خائفا تترقب؛ لأنّ الشاعر هو مَن تخافه السلطة، فهو يرهب السلطة، ويؤرق ليلهم؛ ولا يجعل الكرى يحلّ بأرض منامهم.
إن تكن شاعرًا، عليك بأن تشهر يراعك بوجه الجناة، فتكتب ما يحلو لك بلا يقود ولا خوف ولا وجل، ولا تمدح السلاطين، ولو بكلمة أطراء واحدة، أو تطأطأ رأسك لأحدهم، مهما كانت الاسباب والظروف.
إن تكن شاعرًا، يجب أن تغزي الحكام والمستبدين في عقر دارهم، قبل أن يغزوك في عقر أرضك، فتكون الغلبة لهم بدل أن تكن لك. فتخسر المعركة التي من المؤمل أن تكن أنت المنتصر فيها. فلا يقر بعد اليوم لك قرار.
إن تكن شاعرًا، هذا يعني إنك مستعد لدخول قعر الزنازين والسجون وظلام، وإنك في أهبّة الاستعداد للنفي أو الاعتقال، ومطاردًا خارج الأوطان، تترصدك العيون، وترسل أخبارك أولا بأول، لأعدائك وخصومك.
وإذا آمنت بهذا، أبطش بعدوك بالكلمة والرأي الحُرّ؛ لأنّ كلمتك ورأيك هما كحد السيف، وربما أشدّ منه قوة وصلابة، فجرح السيف قد يتماثل للشفاء، لكن جُرح الكلمة يبقى لأبد الآبدين.
وإذا لم تكن لا هذا ولا ذاك، أترك الشعر لأهل الشعر من الذين تغربوا عن أوطانهم، ونفوا إلى أماكن قصية بعيدًا عن الأهل والأصدقاء، يتحرقون شوقًا لمن يحبون. أترك الشعر للذين أصبحت أرض السجون والزنازين، بيوتهم ومساكنهم، حيث لم يزرهم أحد ولم يعلم أخبارهم أحد، يعجون داخل السجون، تتقطع أفئدتهم، وتئن قلوبهم، وترفرف أرواحهم كالموتى، لا تريد أن تبرح الأماكن، وهي تذوب حسرات، لفقدها هواء الحرية النقيّ.
أترك الشعر للذين ناطحوا صخرة الطغاة، وحاربوهم في عقر دورهم، وتحدوهم بشموخ وجَلد، ووقفوا بوجوههم كالبواسل الشجعان، بتحد وصلابة، ولم يخافوا سطوتهم، وجبروتهم وفتكهم، فقُتل منهم (من الشعراء) من قُتل، وسال دمه في أرض الحرية والكرامة من سال، وأعُتقل من أعُتقل ودخل السجون، لأنّ لم يُداهن ويخنع.
على مائدة التشريح:
طبيعة الشاعر وديدنه أنه يتعامل مع الكلمة بصدق، لذا نجده، دائما، يختار كلماته بدقة وحذر شديدين، فهو يرى إن الكلمة مسؤولية كبيرة تقع على عاتقه، وهو المسؤول عنها أولا وأخيرًا. لذلك يتحسس وقع تلك الكلمة بحس عال، ويشعر بها أكثر من سواه (من كتاب ومفكرين وباحثين، وسواهم ممن يقدس شرف الكلمة، ويتعامل معها بحذر)، فعندما نطلق على الشاعر هذه التسمية، أنما نحن نعني وندرك ما نقول، ولسنا نتقوّل عليه. والاحساس هذا العالي الذي يمتلكه هذا الانسان، هو فيض من وهج ينمو ويتسامى في داخله، وكلما كان يبدع أكثر كلما تكبر معه الكلمة، لتصبح بعد ذلك، شغله الشاغل، حتى أنّه يدرك جيدا، أين يضعها ومتى يضعها في المكان الذي يجده مناسبًا لها.
فحين يقول الشاعر خضير الزبيدي في نصه:
"أجتر على مضض
طعم الخيانات
أنياب الندم
لم تبق لي
إصبعًا أشير به
إلى من سرقوا براءتي"
فهو، هنا في كامل أدراكه أمام مسؤولية الكلمة، إذ جعل الاجترار حالة انعكاس لما يمر به من حالة ضنك، لا يمكن السكوت عليها، مهما كانت الظروف، كون القضية تعدت حدودها، فالأمر ليس بالهين، فراح يشير بأصبح الندم، ولات حين مندم، فقد فات الأوان، والسبب أنهم (الآخرون) سرقوا تلك البراءة منه والتي كان يتمتع بها على اعتباره إنسان سوي، وعُرف بها. لكن ديدن الشاعر الصبر، والصبر يُعرف به أكثر من غيره.
"لهذا تجد العناد
يتربع على عرش أخطائي
أين فطنتي؟
لدغت من جحر الضغائن
عشرات المرات
ولم اتعظ؛
على سجيتي
أساير هذا وذاك"
ومع ذلك، أحيانا الشاعر ينهار ويفقد أعصابه، لأنّ إنسان، والإنسان عبارة عن كتلة من دم ولحم ومشاعر جياشة، وقابلياته محدودة، لاسيما حين يتذوّق طعم الخيانات بفم أحاسيس، وواقع تجربته المريرة والاصدقاء الذين قضى معهم سنوات عمره. ودائمًا ما يكوى بنار أخطائه؛ لذك فهو لا يلوم سوى نفسه، لأنّه يقدر على نفسه، وبإمكانه أن يحاسبها على تلك الأخطاء، فهو إذن، مجبور على مسايرة الناس؛ فليس من السهل بمكان، أن يقطع صلته بالناس، وخصوصًا أقربهم إليه، كون الإنسان اجتماعي الطبع.
"ابثهم...
سري ولوعتي وشكواي
وهم...
ببطيء السلحفاة
يحفرون قبرًا لطيبتي"
جُل الشعراء، إذا لم نقل جميعهم، حينما يتعرضون إلى مواقف صعبة، مواقف تحز في نفوسهم، أو يمرون في حالة كرب حيث تتكالب عليهم المصائب والهموم، من كل حدب وصوب؛ ساعتها يلتجؤون إلى كتابة نصوصهم الأدبية، حيث تنفجر قريحتهم. وهكذا كان الروائي الكبير دوستويفسكي، حينما يخسر أمواله بالقمار (كان هذا الرجل مدمن على لعب القمار، فهي وسيلته، وكان دائمًا يخسر في اللعب، حتى إنّه كتب رواية عظيمة أسماها – المقامر – تحدث فيها عن حياته)، ويُصاب بحالة أشبه بالحالة الهستيرية حيث تتكالب عليه الأحزان والاشجان، وتأخذ منه كل مأخذ، فيعالج حالته بالكتابة، إذ ساعتها يمطر قلمه دموعًا من إبداع، ليسطر من تلك الدموع كلمات قمة بالروعة.
"من سيأخذ بيدي
إذا ما جاوز الستين
يربت برفق على كتفي
ويلوذ بي..
في محراب صداقته
يسقيني القهوة
ويبكي معي عمرًا مضى
تاركا مرارة في فمي
أم قدري..
أن أبقى في عنق الزجاجة
ثملا...
أحلم بالخلاص".
ويستمر الشاعر ببث همومه وأشجانه، عِبر هذا النص الشعري الجذاب، ويطلب من القارئ أن يشاركه هذه الهموم، لعلَّ ذلك يخفف عنه الاعباء التي تكالبت عليه، وقظت مضجعه. والشاعر لا يمتلك غير هذا كعلاج، فهو دائمًا مسالم ومسامح، ويحاول أيجاد الأعذار لمن أساء إليه، وهذا ليس من باب الهزيمة، وإنما من باب الأدب والأخلاق التي يتمتع بها الشاعر، خصوصًا، لأن الأخلاق جزء من بنية الشاعر، فلو فقد هذه القيمة (الأخلاق) لم يبق لديه ما يستند إليه، لكي يتعامل مع الناس، ويفقد مصداقته، وبدون أخلاق تنهار المجتمعات، وتتقهقر الشعوب إلى قاع الهاوية.
والنص جميل ومعبر أجاد فيه الشاعر، واعطاء من قريحته ما أعطى.

اللوحة للفنان اللبناني حسن جوني