مستقبل الوضع الفلسطيني من وجهة نظر تناقض ماو


حسين محمود التلاوي
2024 / 1 / 16 - 07:36     

يستعر القتال في قطاع غزة بين جيش الاحتلال وحركات المقاومة الفلسطينية. ومع كل خسارة يتكبدها الاحتلال، يزداد عدوانه وحشية على القطاع؛ فيزداد عدد الضحايا، وتنمحي مناطق كاملة من خريطة القطاع. لكن هذا ليس بالشيء المستغرب؛ لأنه كان متوقعًا منذ زمن طويل. ولعل في نظرية "التناقض" الماركسية ما يفسر ذلك، وما يلقي بالضوء على ما قد تحمله الأيام في تلك المنطقة دائمة التوتر.

التناقض.. حراك بلا نهاية
يمثل التناقض أحد المفاهيم اللافتة في فكر "كارل ماركس" و"فريدريك أنجلز"، وزاد المفهوم بروزًا بعد شروحات الزعيمين السوفييتيين "فلاديمير لينين" و"جوزيف ستالين" له. لكن يأتي تفسير الزعيم الصيني "ماو تسي تونج" له ليبين مضمون المفهوم بكل بساطة.
يقول "ماو" في تفسيره للمفهوم إن كل كائن في هذا الكون يحتوي في داخله الشيء ونقيضه؛ كأنه يرى العالم قميصًا ينقسم إلى قسمين؛ أحدهما باللون الأبيض والآخر باللون الأسود. لكن هذين القسمين ليسا في حالة سكون، ولكنهما يتحركان، بل إنهما في حالة صراع؛ إذ يحاول كل منهما أن يتغلب على الآخر، وهذا الصراع ليس ثابتًا عند مستوى معين، لكنه يتطور بتطور التناقض بين الشيء ونقيضه.
يستطيع الكائن أن يعيش؛ وهذا الصراع في داخله، إن كان مستوى الصراع بسيطًا؛ أي أن مستوى التناقض بين الشيء ونقيضه بسيطًا. ولكن مع تزايد التناقض، يتصاعد الصراع، إلى أن يحدث الانفجار عند مرحلة ما، ويتولد بعدها واقع جديد. هذا الواقع الجديد، بدوره، يحمل في طياته الشيء ونقيضه؛ فيتولد فيه صراع، يصل بعد فترة ما إلى مرحلة الانفجار؛ ليتولد عندها واقع جديد؛ وهكذا.
يفسر مفهوم التناقض هذا مبدأ "الثورة مستمرة"؛ فالثورة لا يمكن أن تنتهي؛ لأن التناقضات داخل الكائن لا تنتهي. فإذا حدث التناقض، وانفجرت بسببه ثورة، سوف تؤدي إلى وضع جديد. هذا الوضع الذي أدت إليه الثورة، يحمل — كما قلنا — بذور تناقض جديد، تؤدي بدورها إلى ثورة جديدة؛ من ثم فإن الثورة مستمرة.

الواقع الفلسطيني.. تناقضات الداخل والخارج
بالانتقال إلى الجزء الثاني من الموضوع، نصل إلى الواقع الفلسطيني. الواقع الفلسطيني متشابك ومتداخل بدرجة تجعله بالفعل واقعًا معقدًا؛ فأي تحرك في أي مكان في العالم يؤثر على الوضع الفلسطيني. تغير سيد البيت الأبيض من الديمقراطيين إلى الجمهوريين يؤثر على الواقع الفلسطيني. أي ارتباك يحدث في المشهد السياسي المصري يؤثر على الواقع الفلسطيني. تحول روسيا من الانكفاء على الداخل إلى استعادة المكانة السوفييتية في الخارج يؤثر على الوضع الفلسطيني. بل إن تغير الحكومة في أستراليا على سبيل المثال يمكن أن يؤثر على الوضع الفلسطيني إذا قررت الحكومة الجديدة نقل سفارة البلاد إلى القدس اقتداءً بما فعل الرئيس الأمريكي السابق "دونالد ترمب".
هذا عن الخارج. أما عن الداخل الفلسطيني فإن الأمور أكثر تعقيدًا بكثير من الخارج؛ فأي خلاف بين الفصائل الفلسطينية قد يؤدي بإحدى الفصائل إلى تنفيذ عملية ضد الاحتلال لضرب أية تفاهمات أبرمها الفصيل الآخر مع قيادات كيان الاحتلال. هكذا ببساطة.
إذن الوضع الفلسطيني مليء بالتناقضات في العموم بعيدًا عن الأوضاع التي سبقت إطلاق حركة المقاومة الإسلامية "حماس" لعملية "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر الماضي؛ وهي العملية التي تمثل ذروة التناقض. فما أبعاد هذا التناقض؟!
السلطة الفلسطينية المعترف بها دوليًّا لا تسيطر على قطاع غزة، ولا تتحكم في الأوضاع في الأراضي الفلسطينية في العموم. المتحكمان الأساسيان في الأوضاع الفلسطينية؛ هما سلطات الاحتلال، وحركة حماس في القطاع. لسلطات الاحتلال الهيمنة الكاملة على الضفة الغربية، ولحماس السيطرة الكاملة على قطاع غزة؛ وهما فريقان خلافهما — من حيث المبدأ — خلاف وجودي؛ أي أن انتصار طرف يلزمه فناء الآخر.
تفرض سلطات الاحتلال حصارًا كاملًا على القطاع، وتتحكم في إمدادات الكهرباء والماء والمواد الواردة إليه، إلى جانب تشغيل عدد كبير من أهل غزة في كيان الاحتلال الذين تفرض عليهم سلطات الاحتلال إجراءات تضييق في كثير من الأحيان. هذه الإجراءات بالترافق مع الانتهاكات المستمرة للمقدسات الإسلامية في مدينة القدس تدفع بالأمور إلى التصعيد الذي يعبر عنه بين فترة وأخرى باشتباكات تدور بين الاحتلال وفصائل المقاومة في قطاع غزة تنتهي بوساطة مصرية، وتبادل للأسرى أو للجثث.

الانفجار
الفترة الأخيرة شهدت تناميًا لعوامل التناقض الدافعة إلى المواجهة المستمرة حاليًّا بين جيش الاحتلال وحركات المقاومة. داخل الكيان، يشهد رئيس الحكومة "بنيامين نتنياهو" تحديات كبيرة لحكمه بين غضب الشارع، وصراعات في الطبقة السياسية الحاكمة، وخلافات بين المؤسسات الأمنية بعضها بعضًا. كل هذه تناقضات في داخل الكيان كان يتعين أن تنفجر، ولكن "نتنياهو" لم يكن ليسمح لها بالانفجار في الداخل، ولا بد من وجود مبرر لتفجيرها في الخارج. وبطبيعة الحال، ليس هناك أمثل من غزة.
على الجانب الفلسطيني كان التطبيع المحتمل بين السعودية وكيان الاحتلال أقوى مما تتحمل إيران. كذلك ترغب روسيا في أن تصرف نظر الغرب عن دعم أوكرانيا في مواجهة العملية الخاصة الروسية هناك. الصين ليست لديها رغبة حاليًّا في العمل العسكري ضد تايوان. ولا يمكن لأي شيء أن يصرف انتباه الغرب عن أوكرانيا إلا تايوان، أو أمن الكيان. كذلك تتعرض حماس لضغوط من الداخل والخارج لإبرام مصالحة مع السلطة الفلسطينية لإعلان حكومة وحدة وطنية، إلى جانب ضرورة التحرك ضد الاحتلال بسبب الاستفزازات في المسجد الأقصى.
احتشدت كل هذه العوامل لتتبلور في عملية "طوفان الأقصى" التي تقول حماس إنها تدربت عليها لمدة عام، ويقول أفراد المنظومة الأمنية للاحتلال إنهم أبلغوا قياداتهم بتقارير عن وجود استعدادات لمثل هذه العملية. اتفقت مصلحة الطرفين على شن عملية "طوفان الأقصى" من ناحية حماس، وعلى تمريرها من ناحية القيادة السياسية في كيان الاحتلال.
انفجر الوضع في 7 أكتوبر، وأعلن كيان الاحتلال أنه في حالة حرب ضد حركة حماس معلنًا الرغبة في تصفية وجودها عسكريًّا وهيكليًّا هدفًا رئيسيًّا من عدوانه غير المسبوق على القطاع.
نحن الآن إذن في ذروة التناقض؛ لحظة الانفجار الممثلة في العدوان؛ وهي اللحظة التي من المفترض أن يعقبها مرحلة الاستقرار، ولكن من غير المعلوم متى تحين هذه اللحظة، ولكنها سوف تحين طالت فترة الانفجار أم قصرت. ولكن.. ماذا بعد أن تأتي؟!

ماذا بعد هدوء العاصفة؟!
من المفترض أن تهدأ العاصفة؛ فطبائع الأمور تقول إن العواصف لا تستمر إلى الأبد، ولا بد لها من لحظة تفقد فيها زخمها، وتبدأ في التراجع بسبب عوامل في داخلها وخارجها. لنفترض أن الوضع في فلسطين جرت تسويته تسوية سياسية توقف القتال، وتنتهي باتفاق "سلام"؛ مثلما هو الحال بين مصر وكيان الاحتلال. لن ندخل في تفاصيل هذا الاتفاق المفترض وموقع حركة حماس وغيرها من حركات المقاومة فيه، ولكن لنفترض أنه اتفاق جرى التوصل إليه بموافقة الأطراف كافة؛ الطرف الفلسطيني، والاحتلال، واللاعبين الدوليين والإقليميين. هل هذه نهاية المسألة؟!
بالطبع لا. سبق أن جرى توقيع العديد من الاتفاقيات والتفاهمات بين الفلسطينيين من ناحية والاحتلال من ناحية أخرى؛ فهناك اتفاق مدريد، واتفاقات أوسلو، واتفاق واي ريفر أو واي بلانتيشن، وغيرها من الاتفاقات أو التفاهمات أو التسويات. ولكن دائمًا ما كانت في كل تلك الاتفاقات والتفاهمات ثغرة تتيح للتناقض أن ينمو. هذه الثغرة قد تكون استمرار وجود حركات المقاومة دون تسوية وضعها في إطار من السلطة الفلسطينية، أو تنامي حركات اليمين المتطرف داخل الكيان، أو مواجهة حكومة الكيان تحديات سياسية، أو تغير سيد البيت الأبيض. أيًّا ما كان الأمر، لا بد من عامل يعزز التناقض، وينميه إلى أن يصل إلى مرحلة الانفجار بمواجهات بين الفلسطينيين والاحتلال في قطاع غزة أو الضفة الغربية، وغالبًا ما تكون في القطاع.
إذن، ليس من المتوقع بعد أن يهدأ الطوفان ويتوقف العدوان أن يسود السلام بين الفلسطينيين والاحتلال؟! كلا، ليس من المتوقع أن يسود؛ فالوضع الفلسطيني مليء بالتناقضات. وحتى مع رغبة الاحتلال في فك الارتباط بينه وبين قطاع غزة، وإلقاء عبء القطاع على مصر أو المجتمع الدولي من حيث إمدادات المرافق وتشغيل أبناء القطاع، سوف تبقى روح المقاومة داخل الفلسطينيين، وسوف تظل تتغذى، وتجد في المجتمع الدولي من يغذيها في إطار الصراع الكوني الكبير بين الشرق والغرب.
إذن، قد يصل الطرفان إلى اتفاق تسوية للوضع سواءً في وجود حماس وحركات المقاومة أو في عدم وجودها، وقد يسود الهدوء لفترة ما، لكنها لن تستمر، وسوف تعود المواجهة المسلحة بصورة أو بأخرى، تحت أية ذريعة، وبأي مسمى، وبأي شكل؛ وهذا هو الحال المتوقعة للوضع الفلسطيني إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.