أحداث 26 جانفي 1978 الأسباب والمجريات والدّروس


جيلاني الهمامي
2024 / 1 / 13 - 02:47     

أحداث 26 جانفي 1978
الأسباب والمجريات والدّروس

يوم 26 من هذا الشّهر تكون قد مرّت ثلاثون سنة كاملة على أحداث الخميس الأسود، أحداث يوم الخميس 26 جانفي 1978 الدّامية التي هزّت البلاد وأودت بحياة المئات من التونسيين وخلّفت الآلاف من الجرحى إثر الاصطدامات العنيفة بين النقابيين وجماهير العمّال المتظاهرين من جهة وقوات البوليس والجيش وميليشيات الحزب الحاكم من جهة أخرى التي كان يقودها في ذلك الوقت الرئيس الحالي زين العابدين بن علي.
ففي ذلك اليوم عمّت المسيرات والمظاهرات العمّالية والشّعبيّة شوارع وضواحي تونس العاصمة وكبريات المدن التونسية ورافقتها مصادمات وأعمال عنف وحرق وتكسير كانت مجموعات ميليشيات "الحزب الاشتراكي الدستوري" الحاكم ("التجمع" الآن) أوّل من أشعل فتيلها لجر المتظاهرين والغاضبين إلى فوضى العنف (1) قصد إقامة الدليل وإثبات التّهمة على أنّ الإضراب العام الذي دعا إليه الاتحاد العام التونسي للشغل دفاعا عن استقلاليته وعن مصالح الشغالين ليس إضرابا مشروعا بل هو إضراب "تقوده خلفيّات سياسيّة مشبوهة" و"عصيان مدني يهدّد الأمن والنظام العام (2).
وكانت النتيجة عددا كبيرا من القتلى والجرحى. وقد اعترفت الحكومة آنذاك (حكومة الهادي نويرة) بسقوط 52 قتيلا و365 جريحا في ما تحدّثت تقارير أخرى مستقلّة عن مقتل ما يزيد عن 400 شخص وجرح أكثر من ألف.
وضمن النتيجة أيضا عدد ضخم من المعتقلين، من النقابيين، مسؤولين مركزيّين وجهويين ومن مختلف القطاعات ونشطاء، ومن العمّال والمتظاهرين وممّن ألصقت بهم تهم التّكسير والتّعدّي على أملاك الغير وما إلى ذلك من التّهم المعروفة. في مثل هذا الجو تمّ تدبير الانقلاب على الاتحاد العام التونسي للشغل وتنصيب قيادة موالية للحكومة (جماعة المنصّبين بقيادة التيجاني عبيد) ونسجت خيوط المحاكمة الشهيرة ضدّ القيادة النقابية الشرعية.
وفوق كلّ ذلك فقد شهد يوم 26 جانفي 78 دخول الجيش لأوّل مرّة في تاريخ تونس الحديث، على ركح الأحداث السياسية وكطرف لفض النزاع المدني بين الحكومة والمنظمة النقابية.
فما هي أسباب هذه الأحداث وكيف تطوّرت الأوضاع قبل أن يحصل الانفجار؟
1 - الأسباب العميقة
عرف الاقتصاد التونسي طوال النصف الأوّل من عشرية السبعينات من القرن الماضي تحسّنا ملحوظا مقارنة بالفترة التي سبقتها وتجربة التّعاضد "البنصالحية". وساعد على ذلك جملة من الظروف الاقتصادية الدولية والمحلية وكذلك العوامل المناخية، فتمكنت حكومة نويرة ذات التوجه الليبرالي من تحقيق معدلات نمو إيجابية ومن تنشيط الدورة الاقتصادية وتعديل الموازين العامة الاقتصادية والمالية للدولة ومن تحسين المقدرة الشرائية وإنعاش الاستهلاك ومن التحكّم نسبيا في نسب البطالة والتضخم والتداين.

فعلى الصعيد الاقتصادي شهدت أسعار البترول وبعض المواد المنجمية الأخرى ارتفاعا مهمّا في السوق العالمية (3) وشرعت الاحتكارات والبلدان الرأسمالية في إعادة توطين رساميلها واستثماراتها خاصة في قطاعات النسيج والسياحة وبعض الأنشطة الأخرى وهو ما أملى على الحكومة آنذاك قوانين أفريل 1972 و74 و76 والخاصة بالاستثمارات الأجنبية، وإلى جانب ذلك تتالت عدّة مواسم فلاحية جيّدة كانت كلّها ضمن الظروف التي استفادت منها الحكومة التونسية آنذاك لتحسين الأوضاع الاقتصادية.

غير أنّ هذه الظروف لم تدم طويلا وسرعان ما حلت محلها ظروف صعبة خاصة مع دخول النظام الرأسمالي العالمي في أزمته الحادة ابتداء من سنة 1973. هذه الأزمة التي انعكست بصورة مضاعفة على بلادنا كغيرها من البلدان ذات الاقتصاديات الضعيفة والتابعة. وبذلك بدأ نسق النمو يتراجع والتوازنات العامة تختلّ وعادت نسب التضخم والتداين والبطالة إلى الارتفاع وتدنّت المقدرة الشرائية وارتفعت مجدّدا معدلات البطالة والفقر وباتت الفوارق بين الطبقات والجهات وكذلك سوء التصرف في المال العام ظاهرة مثيرة لحالة من التذمّر العام.

لقد فشلت خطة التنمية الليبرالية المتّبعة منذ مجيء حكومة نويرة ولم يتحقّق مشروع "المجتمع الوسط" و"العدالة الاجتماعية" بل العكس هو الذي حصل إذ سرعان ما انقلبت الأزمة الاقتصادية إلى أزمة عامّة اجتماعيّة فسياسيّة.

ومن المعلوم أيضا أنّ تلك الفترة كانت قد شهدت على الصعيد السياسي إرساء وهيمنة نمط الحكم الفردي ذي الطابع الفاشستي الرافض لأبسط مظاهر الديمقراطية والحريات داخل منظومة نظام الحكم حيث تمّت إزاحة ممثّلي التّوجّه الليبرالي (أحمد المستيري) وبُويع بورقيبة رئيسا مدى الحياة وانتصبت المحاكمات ضدّ تيارات اليسار الجديد سنة 1974 (مجموعات آفاق/العامل التونسي...) وحركة الوحدة الشعبية وجرى الانقلاب على الاتحاد العام لطلبة تونس وقمع حركة الشباب التلمذي والطالبي بشدة (1972، 1975، 1976...).

لقد اجتمعت كلّ الشّروط لكي ينشب ذلك الخلاف بين المنظمة النقابية والحكومة ولكي يسير بمثل تلك السرعة نحو المأزق العام ويتحوّل من مجرّد نزاع مطلبي في الظاهر إلى أزمة سياسية متعدّدة الأوجه والأبعاد كان يوم 26 جانفي 1978 ميقات انفجارها. فما بين شهر مارس 1977، تاريخ انعقاد المؤتمر الوطني 14 للاتحاد العام التونسي للشغل، (المنزه – تونس) الذي دُعِيَ رئيس الدولة الحبيب بورقيبة إلى افتتاحه، وشهر جانفي 78 مرّت تسعة أشهر ملآى بالأحداث والتطورات والتوترات المتصاعدة بنسق لم يكن أحد يتوقّعه ولم يكن بمقدور لا الحكومة ولا المنظّمة النقابيّة منعه من أن ينتهي بالاصطدام المحتوم... الإضراب العام يوم الخميس الأسود الذي سيظلّ واحدا من أحلك الأيام في تاريخ بلادنا.
2 - الأسباب المباشرة
عندما عقد الاتحاد العام التونسي للشغل مؤتمره الرابع عشر شهر مارس 1977 لم يكن هناك ما يبعث على الاعتقاد ولا حتى على سبيل الاحتمال أنّ توتّرات حادّة ستطرأ على علاقة الاتّحاد والحكومة. فقد أكّد الزعيم النقابي الحبيب عاشور الأمين العام للاتحاد وعضو الديوان السياسي للحزب الحاكم، أثناء أشغال المؤتمر الذي التأم تحت عنوان "حرية وتقدّم" موالاته لبورقيبة قائلا: "إذا كان البعض يتبنّى الاشتراكية ويوالي الماركسية اللينينية فإنّ الاتّحاد والنقابيين في تونس لا يوالون إلاّ الزعيم بورقيبة ولا يتبعون غير منهج البورقيبية، المنهج الأمثل والأنسب لتونس". وكان ذلك علامة على أنّ الأمور كانت تسير في تمام الانسجام والتفاهم في ما كان يسمى آنذاك بـ"السياسة التعاقدية" كإطار "للتفاوض" و"لفض النزاعات الشغلية" و"معالجة مسائل الأجور ومطالب العمّال" و"تحقيق السّلم الاجتماعية". لكن ذلك لم يمنع أن تشهد الأشهر التسعة الموالية نسقا متصاعدا من الخلافات والتوتّر كانت الزيارة التي أدّاها الوفد النقابي بقيادة الحبيب عاشور إلى ليبيا ما بين 14 و17 ماي 1977 نقطة انطلاقها الأولى. فرغم مباركة بورقيبة هذه الزيارة ونتائجها فإنّها أثارت كثيرا من القلق لدى الوزير الأوّل الهادي نويرة، وعلى أساسها تراكمت كلّ مشاكل الفترة اللاّحقة حتى تاريخ إعلان الإضراب العام. والحقيقة أنّ هذه الزيارة لم تكن نقابيّة بحتة بل تعدّت المفاهمات النقابيّة بين المنظمة النقابية التونسية والنقابات الليبية حول قضايا التكوين النقابي والمهني وأوضاع العمّال التونسيين العاملين في ليبيا إلى قضايا سياسية كانت محلّ نزاع بين البلدين أهمّها اتّفاقية الوحدة المبرمة قبل ثلاث سنوات في جربة والتي راجعتها الحكومة التونسية من جانب واحد وكذلك النزاع الحدودي حول الجرف القاري الغني بالبترول (4). وتفاعلا مع ذلك بدأ الخطاب النقابي يأخذ منحى متجذّرا حيال الصعوبات الاجتماعية ومظاهر سوء التصرّف وخاصّة الزيادات الكبيرة التي شهدتها الأسعار في ربيع وصائفة 1977، لذلك تساءلت جريدة الشعب بتاريخ 26 أوت 1977 في افتتاحيتها تحت عنوان "لا للعبث بقوت الشعب،" "لماذا هذه الموجة العاتية من الأسعار الملتهبة؟ أين الإجراءات التي اتخذتها الحكومة لمقاومة الاحتكار والحد من ارتفاع الأسعار؟ لتجيب "لقد بلغ الأمر حدا من الاستفحال لا يمكن السكوت عمّا يجري دون خشية من التوترات الاجتماعية... أمّا أن تبقى الأجور ثابتة جامدة والأسعار تتصاعد كالسّهم في السّماء فهذا أقلّ ما يقال فيه إنه ليس من حزم الأمور فكيف يعقل أن تبقى الأجور ثابتة وترتفع أسعار بعض المواد الضرورية لحياة المواطن بنسبة مائة بالمائة أو أن تشمل الزيادة دفعة واحدة ودون استئذان معظم المواد الغذائية".

وعلى وقع هذه النّبرة الحادّة تواترت اجتماعات الهياكل القيادية للمنظمة النقابية لتعلن وبصراحة متزايدة الوضوح رفض سياسة الحكومة والاستعداد لمواجهتها وشكّلت الهيئة الإدارية الوطنية المنعقدة بتاريخ 15 سبتمبر 1977 والتي تمحورت أشغالها حول "الحملة التي تستهدف الاتّحاد، وارتفاع الأسعار والاحتكار والمضاربات والثراء الفاحش، ووضع علاقات الاتحاد بالحزب ومستقبلها..." منعرجا حاسما. إذ وُضعت لائحة في المطالب العامّة الملحّة للعمّال ومنها انطلقت حملة تصعيد صريحة منبّهة إلى أنّ "مكيدة 64 – 65 لن تعاد (5) وبات الوضع ينذر بانفجار وشيك.

ولم تكن التهدئة الناجمة عن اجتماع بورقيبة بالوزير الأول الهادي نويرة ووزير الداخلية الطاهر بلخوجة والأمين العام للاتحاد الحبيب عاشور إلاّ ظرفية جدا إذ لم يكتب لها الدوام والصمود أمام الأحكام الصادرة في حق بعض النقابيين والمشاركين في مظاهرة كانت جدّت بصفاقس يوم 9 سبتمبر 1977 وخاصة على إثر أحداث قصر هلال ومنزل بورقيبة موفّى شهر أكتوبر التي جرت خلالها مواجهات عنيفة بين أعوان البوليس والجيش من جهة والعمّال وأهالي هاتين المدينتين من جهة ثانية.

وأمام تصاعد نسق الأحداث اتّخذت دوريّة اجتماعات الهيئات القيادية للاتحاد، المكتب التنفيذي والهيئة الإدارية الوطنية وندوات الإطارات القطاعية والجهوية نسقا متصاعدا وبدأت دائرة اهتماماتها تتّسع لتشمل قضايا لم تكن تطرح من قبل بمثل تلك الجرأة والحدّة مثل مراجعة علاقة الاتحاد بالحزب الحاكم ومراجعة نظام الأجور ومسألة توزيع ثروات البلاد وثمرة مجهود العمل وقضايا الحريات وحرية الصحافة على وجه الخصوص. بل أكثر من ذلك صار هنالك ضغط كبير من أجل اتّخاذ موقف عملي تجاه التحرشات التي يتعرّض إليها الاتحاد والنقابيون. وفي خط مواز لذلك تكثّفت حركة الإضرابات لتشمل جميع القطاعات والجهات تقريبا. وباكتشاف وجود نيّة أو مخطّط لاغتيال الأمين العام الحبيب عاشور في مستهل شهر نوفمبر 1977 من قبل بعض غلاة حزب الدستور بالساحل ارتسم خطّ القطيعة النهائي بين الحكومة والاتّحاد وبات من المألوف الحديث في الأوساط النقابية الحديث عن "التيار الفاشستي" و"عصابة اليد الحمراء الجديدة" و"نزعات الإرهاب والتصفية الجسدية". وبالمقابل جنّدت الحكومة كلّ ما في حوزتها من وسائل إعدادا للمواجهة المحتومة.

كان الطرفان، الاتحاد العام التونسي للشغل من جهة والحكومة ومنظمة الأعراف والحزب الدستوري من جهة ثانية، على قناعة عميقة بأن لا مجال مذّاك فصاعدا للتصالح، لذلك اتّجه كلّ إلى حشد قواه وتجنيدها لكسب المعركة التي اتخذت وعلى المكشوف طابع الصراع السياسي الواضح من أجل إزاحة الطرف المقابل والاستفراد بسدّة الحكم.

في هذا الإطار دعت الهيئة الإدارية الوطنية أعضاء القيادة النقابية إلى الانسلاخ عن الحزب الحاكم ودعت لانعقاد المجلس الوطني لاتّخاذ قرار الإضراب العام الذي تمّ التمهيد له بإضرابات قطاعية كبيرة ناجحة (المناجم نوفمبر 1977، التعليم، الإضرابات الجهوية احتجاجا على نيّة اغتيال الأمين العام...).

كانت الأزمة على درجة من الاحتدام ولم تكن في الواقع تشقّ قاعدة المجتمع عن قمته، أي أنها لم تكن تقابل فقط بين الشعب والطبقة العاملة على وجه الخصوص من جهة والبرجوازية الحاكمة وخاصة الفريق الليبرالي ذي التوجّه السياسي الفاشستي كما عبّرت عن ذلك المنظمة النقابية آنذاك من جهة أخرى، إنما كانت الأزمة على درجة من العمق مسّت حتى أعلى "المجتمع"، أي خلقت شروخا وسط الفريق الحاكم الذي انقسم على نفسه بخصوص كيفية معالجة الأوضاع. ففي حين كان البعض بقيادة صقور الحزب الحاكم (الهادي نويرة وعبد الله فرحات ومحمد الصياح وعامر بن عائشة وغيرهم...) يرى أنّ تجاوز الأزمة لا يتمّ إلاّ "بالضرب على أيدي العابثين" و"الصّائدين في الماء العكر الذين في قلوبهم مرض"، فإنّ البعض الآخر من ذات الفريق كان يرجّح طريق الحوار والتّفاعل مع المطالب النقابية وتهدئة الأجواء وتلافي تعريض النظام إلى الهزّات (الطاهر بلخوجة، عزوز الأصرم...). وبما أنّ الغلبة كانت للفريق الأوّل فقد طغى على توجّه الحكومة والحزب الحاكم تصوّر هذا الفريق ممّا أدّى إلى إقالة أحد أبرز وجوه الحكومة آنذاك، وزير الداخلية الطاهر بلخوجة وجيء بدلا عنه بأحد المتحمّسين لنهج التّشدّد (بصورة وقتية) وزير الدفاع عبد الله فرحات قبل أن يقع تعيين الضاوي حنابلية، كما جيء بأحد كولونالات الجيش، زين العابدين بن علي (الرئيس الحالي) مديرا للأمن مكان عبد المجيد سلامة، ذي التكوين الحقوقي.

هذا القرار الذي اعتبره الاتّحاد خطيرا ودليلا على الاتّجاه نحو مزيد عسكرة الحياة المدنية (6) تبعته تطوّرات كبيرة أهمّها استقالة عدد من الوزراء (7) احتجاجا على هذه الخطوة. وبذلك حسمت مرحلة الشدّ والصّراع السّلمي من أجل توحيد صفوف البرجوازية وأجنحتها وانفتح المجال على مصراعيه لمرحلة جديدة، مرحلة الحسم العنيف: الإضراب العام من جانب الاتّحاد العام التونسي للشغل واستعمال أقصى درجات العنف حياله باستعمال البوليس والجيش من جانب الحكومة.
وقد لخّصت افتتاحية جريدة الشعب بتاريخ 30 ديسمبر 1977 هذه الأزمة واستتباعاتها المحتملة.

وكان يوم 26 جانفي، تاريخ الإضراب العام الذي قرّره المجلس الوطني للاتّحاد المنعقد أيام 8 و9 و10 جانفي 1978 يوم الحسم بعد أن فشلت كلّ المساعي الداخلية والخارجية بما في ذلك تدخّل الأمين العام للكنفدرالية العالمية للنقابات الحرة السيد أوتو كريستن وممثّل النقابات الأمريكية بأوروبا ارفينغ براون).

3 - محاكمة النّقابيّين... المهزلة
انتهت حملة التّصعيد للحكومة إلى المصادمة الكبرى يوم الخميس 26 جانفي 1978 تاريخ الإضراب العام الذي أعلنه الاتحاد العام التونسي للشغل بعد أن بلغ التوتّر أشدّه في علاقة المنظمة النقابية بالسّلطة وبات من غير الممكن التّوصّل إلى اتّفاق بينهما.

وكانت الأيام التي سبقت الإضراب العام مشحونة هي الأخرى بمواجهات قطاعية وجهوية مثل الإضراب العام في قطاع الفلاحة والإضراب العام الجهوي بصفاقس يوم 25 جانفي 1978 احتجاجا على اعتقال الكاتب العام للاتحاد الجهوي عبد الرزاق غربال قبل يوم من ذلك.

وبطبيعة الحال امتدّت حملة الاعتقالات لتشمل يوم 26 جانفي والأيام الموالية له القيادة النقابية أي كافة أعضاء المكتب التنفيذي باستثناء خليفة عبيد الذي كان في مصحّة للتّداوي والتيجاني عبيد الذي انقلب على القيادة وقاد عملية التّنصيب بعد أن أنكر، وتنكّر، واستنكر قرار الإضراب العام.، وكذلك عددا هامّا من أعضاء الهيئة الإدارية الوطنية وكتّابا عامّين للاتحادات الجهوية والمحلية ومسؤولين من نقابات جهوية وأساسية ومناضلين نقابيين وعمّال ناشطين وعددا كبيرا ممّن ألقي عليهم القبض في الشارع أثناء المظاهرات والمواجهات التي شهدتها بعض دور الاتحاد.
الغالبية السّاحقة من النقابيين تمّ اعتقالهم بدور الاتحاد والبعض منهم دُوهم بمقر السكنى أو في مقر العمل. وجرت الاعتقالات والمداهمات على امتداد أيام قبل الإضراب وخلاله وبعده. وبطبيعة الحال أودع الجميع السجن قبل أن يمرّوا من مخافر وسراديب وزارة الداخلية ومحلاّت "أمن الدولة" حيث مورست عليهم شتّى أشكال التعذيب والتنكيل بإشراف العسكري الذي نودي عليه قبل حوالي الشهر ليرأس إدارة الأمن الوطني ويقود الهجوم على الحركة النقابية، الكولونيل زين العابدين بن علي. ومن الذين تعرّضوا إلى التّعذيب بشكل خاص، إلى جانب الشهيد حسين الكوكي (الكاتب العام للفرع الجامعي للبنوك – سوسة) الذي توفّي بالسّجن متأثّرا بمخلّفات التّعذيب، وسعيد قاقي (المعاش والسياحة – تونس) الذي توفّي بمنزله بعد معاناة ومعالجة لمدّة طويلة جرّاء آثار التّعذيب وإسماعيل السحباني الكاتب العام لجامعة المعادن آنذاك والحبيب بن عاشور الكاتب العام للاتّحاد الجهوي بسوسة ومحمد شقرون الكاتب العام لنقابة المسابك المتجمّعة وعبد السلام جراد الكاتب العام لجامعة النقل ومسعود كليلة (جامعة السكك الحديدية) وصالح برور (الكاتب الخاص للأمين العام آنذاك) وبلقاسم الخرشي (عضو جامعة المعادن – بن عروس) وعبد المجيد الصحراوي (المعادن – سوسة) وغيرهم كثير.

ثم انتصبت المحاكم لمقاضاة أكثر من ألفي مواطن (حسب ما جاء على لسان الدفاع أثناء محاكمة سوسة مثلا) بـ"التآمر على أمن الدولة" و"التّخطيط والعمل على قلب نظام الحكم" و"تحريض السّكّان على التّسلّح ضدّ بعضهم البعض" و"الحثّ على التّجمهر المسلّح في الطّريق العام" و "مسك مستودعات من الذّخيرة والأسلحة وتوزيعها" و"حمل السّلاح دون رخصة" و"الإخلال بالنظام العام" و"الإضرار بملك الغير" و"الاعتداء على موظّف أثناء أداء وظيفته" وغيرها من التّهم (8). وقد شملت هذه المحاكمات إلى جانب القيادات النقابية من مختلف المستويات والجهات والقطاعات، أفراد عائلاتهم وعددا كبيرا – ما يزال حتى الآن غير معروف – ممّن أوقفوا أثناء المظاهرات والمسيرات وبعدها من شبّان وطلبة وتلاميذ وعمّال وعاطلين. وقد حوكم العديد من هؤلاء دون علم من أهاليهم ومن الرأي العام ومن وسائل الإعلام وألحِقت بهم أحكام قاسية.
وتبقى أشهر المحاكمات تلك التي انتصبت ضدّ نقابيّي سوسة ابتداء من جويلية 1978 وقضية القيادة النقابية التي نظرت فيها محكمة أمن الدولة الاستثنائية ابتداء من يوم 14 سبتمبر 1978.
3 – 1 - محاكمة نقابيّي سوسة
شملت هذه القضية 124 نقابيّا حُفظت القضية في شأن 27 منهم ومن ضمنهم الشهيد حسين الكوكي الذي لفظ أنفاسه الأخيرة عند نقله من مخافر الشرطة إلى مستشفى المكان. وكان 42 في حالة إيقاف منذ يوم 26 جانفي 78، ومنهم من أوقف وأطلق سراحه ثمّ اعتقل من جديد. وقد حُوكم جميعهم حسب ما ورد في قــرار ختم البحث الذي جاء في أكثر من 50 صفحة واستغرقت قراءته يوم المحاكمة أكثر من ساعتين من أجل تهم، بعضها عقوبته الإعدام والأشغال الشاقة، موجّهة خاصة إلى أعضاء الاتحاد الجهوي وبالأخص إلى كاتبه العام آنذاك الحبيب بن عاشور ومنصف قمر وعبد المجيد الصحراوي ومحمد بلعجوزة (9) وكان "الحزب الدستوري" قد أصدر قبيل انطلاق المحاكمات "الكتاب الأزرق" الذي شكّل، كما بيّن ذلك لسان الدّفاع المرجع الذي اعتمد في صياغة التّهم وسرد الأحداث وتحديد المسؤوليّات فيها.

غير أنّ المحالين على المحكمة نجحوا، بمعية لسان الدفاع، في تحويل المحاكمة إلى منبر لطرح قضايا سياسية عامة وملفات كبيرة مثل التعذيب الذي مورس على الموقوفين وتلفيق التّهم والادّعاءات حول المحجوز والإخلال بالإجراءات القانونية المعمول بها ومن وراء ذلك استقلالية القضاء.

لقد تحوّلت هذه المحاكمة إلى منبر للدّفاع عن الاتّحاد وعن حقّه في السّعي إلى فرض استقلاليّته وللتّنويه بدوره التاريخي في النّضال الوطني والاجتماعي وفي "بناء الدولة التونسية"، كما أنّها تحوّلت أيضا إلى محاكمة للنظام نفسه وخاصة للشق المتصلّب المهيمن على الدولة والحزب بقيادة نويرة-الصياح وفرحات.
وعلاوة على المطالبة بالإفراج عن المحاكمين نادى لسان الدفاع، بناء على شهادات موثّقة وأدلّة دامغة بمحاكمة الذين مارسوا التّعذيب وكذلك أعوان الميلشيات الذين جيء ببعضهم لملء قاعة المحكمة ومنع العائلات من الحضور. كما أبرز الدّفاع الطّابع السّياسي للمحاكمة وخاصة نوايا تصفية الحسابات وفنّد التهم الموجّهة إلى الموقوفين وفضح أكذوبة "مخازن السّلاح" و"إثارة الحرب الأهلية" الخ... ذلك ما أجبر الحكومة في خطوة أولى على إصدار توضيحات للردّ على ما راج لدى الرأي العام حول تعذيب النقابيين (انظر بيان وكالة تونس إفريقيا لأنباء (10) ثمّ وفي خطوة ثانية على إعلان محكمة الجنايات بسوسة يوم 15 أوت 1978 تخلّيها عن النّظر في قضيّة النقابيين المنشورة لديها والتي عقدت بشأنها أكثر من جلسة ليتبيّن لها أخيرا أنها ليست ذات اختصاص، إذ أعلن رئيسها القاضي يوسف بن يوسف مساء يوم الثلاثاء 15 أوت 1978 أنه بالنظر إلى التّهم الموجّهة وهي: "النّيل من أمن الدولة الدّاخلي وبثّ البلبلة والحثّ على التّسلّح... وعلى هذا الأساس فإنّ طبيعة القضية برمّتها ليست من اختصاص محاكم الحق العام وهي بالتّالي خارجة عن أنظار الدّائرة الجنائية طبقا لقانون 1968 المحدث لمحكمة أمن الدولة" لذلك "وقع إبقاء المتّهمين على ذمّة النيابة العمومية وتخلّت محكمة الجنايات عن النظر في القضية لفائدة المحكمة المختصّة أي محكمة أمن الدولة.." وهكذا التحق نقابيّو سوسة ببقية النقابيّين ليحالوا على محكمة أمن الدولة.

ولم تكن هذه السّابقة لتروق الوزير الأوّل الهادي نويرة الذي صرّح إثر ذلك في اجتماع بلجنة التنسيق الحزبي بتونس وفي محاولة منه للتأثير في قرار محكمة التعقيب التي نشر لديها مطلب النيابة العمومية لنقض قرار التخلّي الذي أعلنته محكمة سوسة، صرّح قائلا: "إننا غير راضين بهذا التأويل ومصمّمون على التّمسّك برأينا في أنّ القضية هي من أنظار محاكم الحق العام ومن حقّنا كحكومة مسؤولة أن نعقب قرار محكمة سوسة لدى محكمة النقض والإبرام ونطالبها وهي أكبر محكمة بأن تحكم بما يقتضيه القانون..." وقد أيّدت محكمة التّعقيب آنذاك قرار محكمة سوسة في اعتبارها "غير ذات اختصاص".
ومهما اختلف الملاحظون آنذاك في تفسير قرار المحكمة هذا، فإنّه بلا شكّ كان يعكس في جانب كبير منه الارتباك الذي طرأ على هيئة المحكمة أمام الضغوط المسلّطة عليها من قبل الرأي العام والنقابيين الموقوفين ومن العائلات وكذلك نتيجة الطّابع المهزلي للتّهم و"القرائن" المعتمدة ضدّهم. كما يعكس بداية تصدّع صفّ الفريق الحاكم والمصاعب التي كان يعانيها من أجل تمرير قضية سياسية بامتياز على أنها مجرّد قضيّة حقّ عام.
3 – 2 - محاكمة القيادة النّقابيّة
انطلقت محاكمة القيادة النقابية من قبل محكمة أمن الدولة يوم الخميس 14 سبتمبر 1978 بثكنة بوشوشة بتونس العاصمة وقد تعلّقت القضية بـ34 نقابيا، 4 منهم في حالة سراح والبقية رهن الإيقاف منهم 11 عضوا بالمكتب التنفيذي الوطني للاتحاد و16 عضوا بالهيئة الإدارية الوطنية. وكانت أولى مفاجآت هذه المحاكمة غياب الرئيس الأصلي لهذه المحكمة الاستثنائية القاضي محمد الصالح العياري وتعويضه بالقاضي محمد الطاهر بولعابة الفاطمي الذي استشعر منذ البداية صعوبة العمل بالنّظر إلى الهتافات التي انطلقت منذ دخول المتّهمين قاعة المحكمة (11) وبالنّظر إلى إلحاح لسان الدفاع على سحب أعوان البوليس وكذلك للاحترازات المرفوعة ضدّ وجود عنصرين ممثّلين عن مجلس النوّاب ضمن طاقم المحكمة هما النائبان حسين المغربي ومصطفى عياد باعتبار أنّ هذين الممثّلين هما من "حزب الدستور" الطّرف الأساسي في النّزاع (12).

وقد أكّد رئيس المحكمة منذ البداية اعتزامه تطبيق أحكام القانون المحدث لهذه المحكمة وخاصة الفصل 17 الذي يخوّل لرئيس المحكمة اتّخاذ قرار التّوبيخ والتّجميد والمؤاخذة وإحالة المحامين بنفس الجلسة في حال حصول "إخلال" أو "تجاوز" لذلك دعا المحامين، وكان عددهم يزيد عن 75 محاميا، إلى "عدم الإطناب المملّ أو الإيجاز المخلّ".
وقد قضى رئيس المحكمة بالفعل وفوريا خلال آخر جلسة بتاريخ الاثنين 2 أكتوبر 1978 بشطب الأستاذ محمد بللونة لمدة عامين وتوجيه توبيخ للأستاذ نور الدين البودالي.

ورغم كلّ المحاولات من أجل تأجيل النّظر في القضية لتمكين لسان الدفاع من الاطّلاع على الأبحاث التي جاءت في ما يزيد عن 5 آلاف صفحة فإنّ هيئة المحكمة أصرّت على الشّروع في أشغالها وتمّت تلاوة قرار ختم البحث الذي استغرق ساعات طويلة، لذلك اضطرّ المحامون إلى الانسحاب فقرّرت المحكمة تسخير 18 محاميا بدلا عنهم بعضهم جديد في المهنة وليست لهم جميعا أية دراية بالملف، ناهيك أنّ ثلاثة منهم انسحبوا في الأخير.

ذلك ما جعل البعض يطلق على هذه المحاكمة اسم "محاكمة الصّمت" لأنّ لسان الدّفاع المكلّف كان انسحب، والمتّهمون رفضوا الإجابة عن أسئلة المحكمة في غياب محاميهم، كما رفضوا المحامين المسخّرين الذين كانت مرافعات بعضهم إدانة أكثر منها دفاعا. (13)

وكان رئيس المحكمة رغم حضور العديد من الملاحظين الأجانب يتقدّمهم "أوتو كريستن" الأمين العام للسيزل ونائبه "وارفين بروان" ممثّل النقابات الأمريكية في أوروبا وعديد الصحافيين، وفي حضور العائلات وذوي المتّهمين، رفض مطلب الحبيب عاشور وبعض أعضاء المكتب التنفيذي بإحضار بعض الشهود وخاصة أحمد المستيري وحسيب بن عمار والباجي قائد السبسي باعتبارهم كانوا قاموا قبل 26 جانفي بوساطة بين الحكومة والاتحاد لم تُجدِ نفعا، واكتفى رئيس المحكمة بتسلّم شهادة مكتوبة منهم بلّغوها له عبر المحامين.

كان كلّ شيء معدّا لكي يقع الانتهاء من هذه المهزلة على وجه السّرعة، بل أقصى السّرعة، لذلك وفي الجلسة الثالثة بتاريخ الاثنين 2 أكتوبر اختَلَت هيئة المحكمة لمدة 13 ساعة لتعلن على الساعة الواحدة صباحا من يوم الثلاثاء 3 أكتوبر 1978 الأحكام المقرّرة ضدّ القيادة النقابية ليُسدل السّتار على هذه الفضيحة القضائية.

كان من المنتظر، في ضوء التّهم الموجّهة إلى المتّهمين والموقوفين منهم وبالخصوص الحبيب عاشور الأمين العام للاتحاد وعبد الرزاق غربال الكاتب العام للاتحاد الجهوي بصفاقس وعدد من أعضاء الهيئة الإدارية، وحسب المواد القانونية المحالين بمقتضاها على المحكمة وخاصة الفصل 72 و74 من القانون الجزائي، أن تصدر ضدهم أحكام بالإعدام. لكن وفي تراجع سريع وغير مفهوم مقارنة بحملات الدّعاية الرّسمية والشّحن السياسي في جميع منابر الإعلام والدّعاية في البلاد أصدرت المحكمة قرارها الآتي :
- 10 سنوات من الأشغال الشّاقة لكلّ من الحبيب عاشور وعبد الرزاق غربال.
- 8 سنوات من الأشغال الشّاقة لكلّ من حسن حمودية والصادق بسباس وخير الدين الصالحي أعضاء المكتب التنفيذي.
- 6 سنوات من الأشغال الشّاقة لكل من الحسين بن قدور والطيب البكوش ومصطفى الغربي أعضاء بالمكتب التنفيذي وصالح برور الكاتب العام للنقابة العامة لديوان التشغيل.
- 5 سنوات من الأشغال الشاقّة لكلّ من محمد عزالدين وعبد الحميد بلعيد (أعضاء المكتب التنفيذي) واسماعيل السحباني الكاتب العام لجامعة المعادن ومحمد شقرون الكاتب العام لنقابة المسابك المتجمعة ومحمد الناجي الشعري الكاتب العام لنقابة الإذاعة والتلفزة وعبد الرزاق أيوب عضو المكتب التنفيذي المكلّف بجهة تونس وكاتبها العام.
- 6 أشهر مع تأجيل التّنفيذ لكلّ من عبد العزيز بوراوي (عضو المكتب التنفيذي) وعبد السلام جراد (الكاتب العام لجامعة النقل) وسعيد الحداد (الكاتب العام لجامعة الستاغ) وعلالة العامري (الكاتب العام لجامعة النفط والكيمياء) ونورالدين البحري (الكاتب العام للجامعة القومية للتعليم) وأحمد الكحلاوي (الكاتب العام لنقابة لتعليم التقني والمهني) ومحمد الصالح الخريجي (الكاتب العام لنقابة أساتذة التعليم الثانوي) والحاج محمد الدامي (الكاتب العام لجامعة التجهيز والأشغال العامة) وسعيد قاقي، الكاتب العام لجامعة المعاش والسياحة (غيابيا بسبب وجوده بالمستشفى ).
عدم سماع الدّعوى لكلّ من الصادق العلوش (عضو المكتب التنفيذي) ومسعود كليلة (الكاتب العام لجامعة السكك) والبشير المبروك (الكاتب العام لجامعة البناء) ومحمد الشلي (الكاتب العام لنقابة ديوان المواني) وحسين بن رحومة (الكاتب العام لنقابة موظفي وزارة التربية) وعزوز الذوادي (الكاتب العام لنقابة عملة التربية القومية).

وللإشارة فإنّ عائلات الموقوفين سواء من تونس أو من سوسة لقوا مضايقات كثيرة سواء في ظروف الحياة اليومية أو عند الحضور بالمحكمة ووصلت هذه المضايقات حدّ إحالة البعض على المحكمة بتهم ملفّقة (التّجمهر والتّشويش في الطريق العام...). ففي تونس مثلا أحيل يوم السبت 30 سبتمبر 14 شخصا من أقارب الموقوفين وحُكم على 13 منهم بسنة سجن وواحد بسنة ونصف لأنهم احتجّوا على منعهم من حضور جلسة محكمة أمن الدولة ببوشوشة في حين سُمح لعناصر من الحزب الحاكم باحتلال قاعة الجلسة منذ الصباح الباكر. وقد ألقي القبض على أفراد العائلات يوم الخميس 28 سبتمبر 1978 وحوكموا بعد يومين فقط.
وكما سبق أن أشرنا إلى ذلك فإنّ المحاكمات طالت أيضا نقابيّين من القصرين وصفاقس وباجة ومن عدّة جهات أخرى بعضها مرّ طي التّعتيم خاصّة عندما كان الأمر يتعلّق بشبّان عاطلين أو طلبة أو عمّال متّهمين بالتّظاهر والتّشويش وما إلى ذلك من التّهم.

لقد أثارت كلّ هذه المحاكمات ردود أفعال متنوّعة، سياسية ونقابية واجتماعية ودبلوماسية (14) نشأت ضمنها حركة تضامن كبيرة وواسعة داخل البلاد حيث بعثت، من بين ما بعثت "تنسيقية نقابية" لـ"الهياكل الشرعية"، وخارجها في صلب المنظّمات النقابية العربية والدولية أو في أطر ظهرت خصيصا لمساندة "قضية الاتحاد العام التونسي للشغل" مثل لجنة المساندة التي بعثها عدد من المعارضين والطلبة والنشطاء التونسيين بباريس (15). وشملت الحركة التضامنية السجناء السياسيين اليساريين (منظمة آفاق، العامل التونسي) القابعين بالسجن منذ سنوات. فأضربوا عن الطعام يوم 26 جانفي 1978 تضامنا مع الاتحاد العام التونسي للشغل، وعبّروا في أكثر من مناسبة أخرى، عن طريق الكتابة أو إضرابات الجوع عن شجبهم للقمع المسلّط على العمّال وحركتهم النقابية.

لقد تضافرت جهود شتّى وعوامل متنوعة ومختلفة أدّت كلها إلى تضييق الخناق على النظام التونسي الذي بات سجين "ورطة" المنظمة النقابية، الاتحاد العام التونسي للشغل. وازدادت مصاعب نظام الحكم أكثر بفشل الانقلاب الذي دبّره بالاعتماد على التيجاني عبيد وقلّة من الانتهازيين الذي ظلّوا في عزلة تامة عن الحركة النقابية وعن جماهير العمّال الذين اشتدّت نقمتهم تماما كما كان حال عامّة الشعب بسبب تفاقم مظاهر القمع السياسي إلى جانب تدهور ظروف المعيشة والحياة ككلّ واحتداد الفوارق الطبقية وبين الجهات، ذلك أنّ الرّجعية الدستورية استغلّت تكسير المركزية النقابية لتطلق أيدي الأعراف ورؤساء المؤسّسات.

وفي كلمة تعمّقت الأزمة العامّة للنظام فجاءت أحداث قفصة يوم 27 جانفي 1980، لتعلن انتهاء مرحلة كاملة وسقوط رموزها (نويرة، عبد الله فرحات، الخ....) وانطلاق مرحلة جديدة، مرحلة مزالي، تحت عنوان "التّفتّح" التي تمّ تدبير حلّ "المصالحة النقابية" كواحد من مفاتيح تمرير "التّغيير" حتّى تستمرّ هيمنة البرجوازية العميلة ونظامها البورقيبي وحزبه وكأنّ شيئا لم يكن.

4 - بعض من الدّروس
يعدّ الإضراب العام الذي دعا إليه الاتحاد العام التونسي للشغل ونفّذه بنجاح يوم 26 جانفي 78 أبرز تحرّك تقوده الطبقة العاملة التونسية في تاريخ تونس الحديث، فعلى خلاف الأحداث الأخرى (انتفاضة أهل الريف في موفّى الستينيات وحركة الشباب الطلابي خلال النصف الأول من السبعينيات) كانت أحداث 26 جانفي ذات طابع عمّالي واضح وصريح، وكان حدثا سياسيّا وطنيّا من حيث اتّساعه الجغرافي من جهة ومن حيث تأثيره ووقعه على الحياة العامّة من جهة ثانية لأنه طرح قضايا عامّة ووطنيّة تهمّ كلّ فئات الشّعب (المقدرة الشرائية والحريات العامة والفردية) سواء في ظروف حياته المادية أو في ما يتعلق بنظام الحكم وإدارة شؤون البلاد ككلّ، وبلغة أخرى أبرزت تلك الأحداث أنّ الطبقة العاملة التونسية دخلت ولأوّل مرّة منذ 56 معترك الحياة السياسية مطالبة بأن يكون لرأيها وتصوّرها دور في رسم خطّة التنمية المناسبة ونمط الحكم الواجب إرسائه، وهو الأمر الذي كان على الدّوام حكرا على البرجوازية الكبيرة والمتوسّطة التي استخلفها الاستعمار المباشر لقيادة البلاد تنمية وحكما وثقافة.

وقد برهنت الطبقة العاملة على أنها فعلا قوّة اجتماعية لها وزنها وبمقدورها، إن لم تستجب البورجوازية إلى مطالبها، تعطيل دواليب الحياة كلها ومنازلة دولة البرجوازية بكلّ أجهزتها وأسلحتها وكلّ أدوات القمع بما في ذلك جهاز العسكر الذي استنجدت به البرجوازية لحماية نظامها من غضب الطبقة العاملة والشعب.

غير أنه لابدّ من الاعتراف أنّ الطبقة العاملة التي لم تستند إلى تجربة نضال سياسي كاف ولم تكن مسلّحة بنظرية ثورتها الخاصة ولا بهيئة أركانها المستقلة عملت في هذه المعركة تحت قيادة عناصر من البورجوازية، عناصر كانت على الدوام جزءا من نظام الحكم ومن قيادات الحزب الحاكم. ورغم أنّ هذه العناصر تميّزت آنذاك بدرجة عالية من الجرأة والتصميم على المضيّ قدما في تبنّي مطالب الحركة ومجاراة حماسها (استقالة قيادة الاتحاد من الحزب الحاكم مثلا) فإنّ الهدف المركزي الذي رسمته تلك العناصر للحركة لم يكن أبدا تقويض أسس نظام الحكم القائم وبناء أسس نظام جديد في خياراته الطبقية (اقتصاديا وسياسيا) بقدر ما كان هدفها حسم الخلاف داخل شقوق البورجوازية حول كيفيّة حلّ الأزمة الاجتماعية والسياسية العميقة التي هزّت البلاد.

إنّ أسباب الأزمة متعدّدة ومختلفة وتعود جذورها إلى فترة طويلة ولم تكن الأوضاع التي جدّت في النصف الثاني من عقد السبعينات سوى القطرة التي أفاضت الكأس وبمثابة الفرصة السّانحة لتصفية حسابات قديمة بين شقوق البرجوازية الحاكمة والتي وجدت نفسها مقسّمة الصّفوف حيال معالجة أزمة المجتمع ولكن خاصّة حيال التّعاطي مع الحركة الاحتجاجيّة المتواترة والمتصاعدة للعمّال.

لقد أدّت خطط التنمية المتتالية التي اتّبعتها البورجوازية العميلة في تونس إلى أزمة عميقة كان لابدّ من إيجاد حلّ لها ولو بصورة عنيفة، فخطّة التنمية الليبرالية التي اتّبعتها الدولة التونسية خلال الخمسينيات وبداية الستينيات فشلت في بناء اقتصاد مستقل ومزدهر ومتوازن علاوة على أنها شكّلت القاعدة المادية لظهور أوّل مؤشرات نظام حكم استبدادي منغلق وتابع، وعوض تقييم هذه التجربة وتشريك الشّعب في استخلاص دروسها لرسم معالم التّجاوز الحقيقي استبدلت البورجوازية الحاكمة تلك الخطة التنموية الليبرالية بأخرى ذات "طابع اشتراكي" كاذب قادتها شريحة بيروقراطية الدولة الفتيّة، وموّلتها دوائر الاحتكارات العالمية (صندوق النقد الدولي والبنك العالمي) زادت في علّة المجتمع والاقتصاد الوطني وعمّقت اختلالاته وتفكّكه ممّا أدّى في نهاية الستينيات إلى التّخلّي مرّة أخرى عن هذه التّوجّهات بانتصار انقلاب داخل الحزب الحاكم والدولة وعودة شريحة البرجوازية الخاصة الكبيرة والمتوسطة وتحميل بن صالح وحده مسؤولية الأزمة ومحاكمته.

ومرّة أخرى أيضا تتمّ العودة إلى منهج التنمية الليبرالية بنفس الآليات القديمة / الجديدة وبالتّعويل على الدوائر المالية العالمية. وبذلك شرع في خطة تنمية جديدة في ظلّ حكومة نويرة التي شهدت بدايتها تحسّنا طفيفا في المردود الاقتصادي ذهبت فوائده لأصحاب رأس المال الخاص وللمستثمرين الأجانب الذين تمتّعوا بتسهيلات مالية وقانونية عديدة ومتنوعة. لكنّ التّراكم الخاص الحاصل من خلال هذه التجربة لم يكن في صالح الاقتصاد الوطني والمجتمع والشعب. و بذلك عادت عوامل الأزمة لتدبّ ولتتفاقم من جديد.

وبما أنّ الطبقة العاملة التونسية الفاقدة لأداة نضالها الطبقي الخاصة والممنوعة من الاستقلال السياسي والتنظيمي في ظلّ الحكم الفردي البورقيبي الذي استوفى شروط استحواذه على جميع مظاهر الحياة، فإنّ حركتها النقابية كانت دوما طرفا تابعا في هذه التقلّبات وشريكا ديكوريا في النظام القائم وجرّت الطبقة العاملة كي توفّر لخطط التنمية والاختيارات المتّبعة القاعدة الشّعبيّة اللاّزمة لاستقرار النظام. ولعبت منظّمتها، الاتحاد العام التونسي للشغل، المؤطّر والكابح للصّراع الذي شهده المجتمع كلّما احتدّت الأزمة وفشلت خطّة من الخطط المتّبعة. وكانت المنظمة النقابية بالتالي أداة لتطويع الطبقة العاملة ولإخضاعها حتى تتحمّل أزمة خطط ونظام لم تختره ولم تشترك في صياغته وإدارته وتسييره. وكان لابدّ من انتظار تلك الفرصة التي ضربت فيها الأزمة رأس النظام لتشقّ صفوف البورجوازية الحاكمة حتى تأخذ الطبقة العاملة مكانها كعنصر محدّد في حسم هذا الصراع بغية خدمة مصالحها الخاصة. وكما سبق أن قلنا فإنّ شقّ البيروقراطية النقابية الممثّل لشريحة الارستقراطية العمّالية التي تحوّلت على امتداد عشريّات متتالية إلى جزء من البرجوازية الخاصة وبرجوازية الدولة عرفت كيف تركب موجة الاحتجاج الاجتماعي وتقنع الطبقة العاملة أنها تتبنّى بحق مطامحها وهي بالتالي جديرة بقيادتها في تلك المعركة .

لذلك فإنّ الحل العنيف الذي حسمت به البرجوازية صراع شقوقها لم يمكّن الطبقة العاملة لا من إيجاد الطّريق الخاص لتحويل 26 جانفي إلى انتفاضة مظفّرة ولا إلى إيجاد الطّريق الخاصة لمواصلة النضال خارج هيمنة القيادة النقابية المزاحة وسلطتها. وعلى هذا الأساس فإنّ خطّة مقاومة الانقلاب على المنظمة النقابية تراجع إلى مجرّد الدّفاع عن "الشرعية" ورفض الانقلاب فقط وبذلك انحصرت المقاومة في إطار نقابي محدود.

ورغم أنّ إصرار النقابيين على رفض الانقلاب وعلى التّشبّث بالشّرعيّة أجبر نظام الحكم عامين ونصف من تاريخ الانقلاب على البحث عن حلّ لتجاوز الأزمة التي شلّت المجتمع، فإنّ الحلّ الذي اعتمدته، حلّ المصالحة النقابية، أي لجنة نور الدين حشاد المشتركة بين القيادة الشرعية المزاحة بالقوة والمنصّبين (لائحة 21 سبتمبر 1980) شكّل المرجعية الأساسية التي على أساسها انبنت نظرية احتواء المنظمة النقابية من جديد بأسلوب مرن وبخطاب مخادع أثبت للنظام أنه أنجع ألف مرّة من حلّ التصادم والانقلاب بالقوة.

لقد دشّن الحل التصالحي مرحلة جديدة في علاقة الاتحاد بالسلطة عرفت هذه الأخيرة كيف تجرّ المنظمة إلى التعاطي مع مسألة الاستقلالية (وباقي الشعارات النقابية الأخرى) من داخل المنظومة الرسمية لأنها، أي السلطة، أدركت أنّ خيار التّصادم خيار مكلف وخطير وأنّ السماح للنقابين بهامش من "الاستقلالية" الشكلية سيساعد أكثر على تدجين الحركة النقابية تدريجيا.

لذلك نلاحظ طوال العشريّتين الأخيرتين أنّ استمرار النقابيّين في رفع شعار الاستقلالية والنضالية والديمقراطية لم يمنع السلطة من مزيد إحكام قبضتها على الحركة النقابية وتدجينها خاصّة في ظلّ تهادن البيرقراطية وقبولها بلعب دور "رجال مطافئ".

إنّ البيرقراطية النقابية في نسختها الراهنة، وهي نسخة معدّلة لنمط البيروقراطية في عهد السحباني واستمرار لها، هي نتاج المنهج الذي وضعته السلطة للتعامل مع الحركة العمّالية والمنظمة النقابية منذ بداية سياسة التّفتّح "المزالية".

ولم تكن أزمة الثمانينات غير قوس وجيز أملته ظروف الصّراع من أجل الفوز بخلافة بورقيبة لكنه قوس سرعان ما أغلق حالما حسمت البرجوازية هذا الصراع وعودة الوئام بين مختلف شقوقها وراء فريق انقلاب 7 نوفمبر بما في ذلك البيرقراطية النقابية ضمن مصالحة جديدة قادتها لجنة الحبيب طليبة سنة 1988.

وتتميّز فترة ما بعد مؤتمر سوسة الاستثنائي سواء في عهد السحباني أو في مرحلة "التّصحيح" وإلى اليوم بنفس البصمات والخصائص التي اعتمدت عليها المنظمة النقابية لخلق السند الاجتماعي للنظام الدستوري الجديد عبر ما يسمىّ بسياسة الحوار الاجتماعي والسّلم والاستقرار الاجتماعيين حتى تنفّذ البرجوازية كلّ مشاريعها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في راحة ودون ضغط أو معارضة.

إنّ الحركة النقابية اليوم مطالبة بمراجعة أسس هذا التّوجّه مراجعة جذرية وبتأسيس توجّه جديد يقوم على مبادئ الاستقلالية الحقيقية التي رفعتها الطبقة العاملة قبيل أحداث 26 جانفي 1978. إنّ الحركة النقابية مطالبة بتجديد مفهوم الاستقلالية لتخليص الشعارات المرفوعة الآن بهذا الصدد أو بصدد النضالية والديمقراطية الداخلية بصورة عميقة وإلاّ فإنّ هذه الشعارات ستظلّ مجرّد لغو تؤثّث به البيرقراطية خطابها لاحتواء الرغبات القاعدية الصادقة في تحرير منظّمتها من هيمنة الحزب الحاكم والدولة.

ومعلوم أنّ النجاح في هذه المهمّة، مهمّة تجديد المفاهيم، ستكون صعبة التحقيق بل قل مستحيلة ما لم ينجح النقابيون في توفير الممهّدات لذلك. ومن أوكد ما يطرح ضمن هذه المهمّات تحرير الحياة الداخلية من مسعى البيروقراطية لإعادة بسط نفوذها وبصورة فجّة على سير حياة المنظّمة داخليّا. ونلاحظ اليوم أنّ البيرقراطية التي خرجت من "معركة التصحيح النقابي" منهكة تحاول تدارك أمرها بالسّطو على المكاسب الديمقراطية الجزئية التي اضطرّت إلى التّنازل عنها خلال مرحلة التصحيح ومؤتمر جربة الاستثنائي.

ما من شكّ أنّ الحركة النقابية تواجه اليوم تحدّيا مزدوج الصعوبة، تحدّي النضال من أجل الاستقلالية الحقيقية والملموسة وتحدّي تحرير المنظّمة مـن سيطرة الفريق البيرقراطي.

ومن العوامل التي تزيد هذا التحدّي صعوبة هي قدرة البيرقراطية على استمالة شريحة من النقابيّيـن الجدد ذوي الأصول اليسارية الذين اندمجوا في الجهاز وتحوّلوا تدريجيا إلى بيرقراطية ناشئة أعطوا لمقولات البيرقراطية الكلاسيكية نجاعة وفاعلية أمتن وأكثر قوّة.

إنّ قوى النّضال المتجذّرة من أجل الاستقلالية والديمقراطية والنضالية تواجه اليوم صدّا مزدوجا وتخريبا داخليّا يجعل من مهمّة تحويل الاتّحاد إلى قوّة نضال بيد الطبقة العاملة مهمّة عسيرة حقّا.

لذلك تبدو طريق النّضال أطول وأصعب وأشدّ وقد يدفع بالعديد من المناضلين إلى التفكير في اليأس والإحباط أو إلى التفكير في الهجرة إلى مشاريع تعدّديّة موازية ما تزال شروط بعثها غير متوفّرة بعد.

جيلاني الهمامي
جانفي 2008
هوامش
(1)- انظر تغطية الندوة الصحفية للسيد أحمد المستيري – جريدة الرأي العدد 7 بتاريخ 9 فيفري 1978.
(2)- تلك هي بعض من التهم الموجهة للقيادة النقابية أمام محكمة أمن الدولة بالإضافة إلى تهم أخرى من قبيل "التآمر على أمن الدولة والتواطؤ مع الخارج..."
(3)- كانت تونس في تلك الفترة منتجا للبترول وتنتج سنويا حوالي 4 مليون طن من البترول الخام فيما لا يتعدى استهلاكها السنوي من هذه المادة المليونين والنصف.
(4)- جاء في تصريح السيد الحبيب عاشور الأمين العام للاتحاد أمام المكتب التنفيذي الموسع بتاريخ 5 نوفمبر 1977 ما يلي: "أنتم تعرفون جيدا أننا عشنا في المدة الأخيرة ظروفا خاصة نظرا لشدة الهجومات وبالأخص بعد حوادث قصر هلال الأليمة... وأنتم تتذكرون جيدا أنّ الاتحاد عقد على إثر ذلك هيئة إدارية اتخذ فيها المواقف الضرورية التي يمليها الوضع وكانت النتيجة أن أيّد الشعب التونسي بمختلف طبقاته وبمختلف التيارات السياسية المتواجدة داخله مواقف الاتحاد العام التونسي للشغل وقد وصلت درجة التأييد إلى حدّ أنّ بعض الإخوان طرحوا أسئلة حول طبيعة هذا التأييد... وكان ردّنا هو أنّ البلاد تمرّ بأزمة وهي سياسية قبل كل شيء...ثم هي أزمة اقتصادية ذلك أنّ اقتصاد البلاد يتعرّض إلى اهتزازات عنيفة فالبطالة تهدّد عشرات الآلاف من التونسيين. ولهذا اتصلنا بإخواننا في النقابات الليبية الذين أظهروا استعدادا كبيرا للتعاون خاصة وأنهم يعرفون أنّ الاتحاد العام التونسي للشغل ليس منظمة تخريب أو استعمال سلاح... كما أظهروا استعدادا كبيرا لتشغيل اليد العاملة التونسية. وبعد رجوع وفد الاتحاد إلى تونس كنا نظن أنّ النتائج التي تحصّلنا عليها تخدم مصلحة بلادنا حيث ستلقى ما تستحق من الرضا لكن ما راعنا إلاّ والهجومات والنقد الشديد ينهال على الاتحاد كأنه ارتكب جريمة شنيعة... وما جريمة الاتحاد التي هوجم من أجلها غير قيامه بعمل لصالح الشعب التونسي... لكن إكبار الشعب التونسي لأعمال الاتحاد أمر يمرض له البعض... وكل ما أقوله في هذا الشأن هو أنّ الاتحاد سيواصل عمله لفائدة الشعب. ثم بعد ذلك وصلنا إلى درجة القطيعة... ولو لم يقع الاتصال بالرئيس لحصل ما لا تحمد عقباه... ثم خلت أنّ الأمور رجعت إلى نصابها لكن ما أن تغيبتُ حتى وقعت المصيبة... وقد تعوّدنا أن تقع مصيبة كلما تغيبتُ عن الاتحاد... وأقصد هنا أحداث قصر هلال... ونحن كاتحاد اتصلنا منذ مدة بعيدة بشكاوي من عمال قصر هلال تدين سوء التصرف والعبث. وفي هذا الميدان لنا تجربة كبيرة. فقد حاولنا منذ رجوعنا للاتحاد سنة 1970 أن نلفت نظر الحكومة إلى مظاهر سوء التصرف... وقد حدث أن قدمنا سابقا ملفا حول سوء التصرف في الميدان الفلاحي لكن الملف الذي قدمناه وجد مكانا له في أحد الرفوف وجمدت القضية.
وحدث نفس الشيء بالنسبة للشركة التونسية للتوزيع ولحد الآن ما زال الموظف الذي كشف عن سوء التصرف يعاني من البطالة. لقد وصل الأمر إلى أن البعض أصبح يبحث عن أتفه التعلات لتغطية أمر السرّاق.
أعود مرة أخرى إلى مسألة قصر هلال لأذكر أن العمال هناك يشتكون من سوء التصرف منذ ثلاثة سنوات وأصبح حديثهم في النقابة والشعبة والبلدية لا يدور إلا حول هذا الموضوع. ولن أعيد على مسامعكم أطوار القضية الباقية... أذكر فقط أنه في النهاية تدخّل الجيش ونحن كاتحاد ضد تدخل الجيش... لقد أرادوا تحويل قصر هلال مسقط رأس الحزب إلى وكر من أوكار العنصرية... وإيمانا منا بشرعية مطالب العمال هناك ساندنا العمال... ولكن الحكومة اعتبرت مساندتنا لهم عملا إجراميا... ونحن من جانبنا ما زلنا نتمسك بإطلاق سراح كافة العمال الذين وقع اعتقالهم.
وبعد العملية تعكرت العلاقات بدرجة كبيرة... وشرع بعض الأشخاص في السعي إلى تحويل الشعب المهنية إلى نقابات مما هو مخالف للقوانين وذلك بقصد تعطيل نشاط الاتحاد وهضم حقوق العمال، ورأينا أنهم أحرار في تكوين نقابات حزبية لكن نذكرهم بأنّ الاتحاد ولد حرّا وعاش حرّا وسيبقى حرّا ولن يأخذ التعليمات لا من حزب الدستور ولا من الحزب الشيوعي ولا من أي حزب آخر أو جهة أخرى... التعليمات التي يأتمر بها الاتحاد هي أوامر القاعدة العمالية العريضة وإذا ما أراد يوما الشغالون تغيير المنهج الذي يسير عليه الاتحاد واختيار فكر سياسي معيّن فيمكنهم أن يفعلوا ذلك في مؤتمر الاتحاد.
أريد أن أقول لكم أنه يوجد بالبلاد التونسية أناس يمقتون أي نفس ديمقراطي حر... يريدون الحرية لهم ويرفضونها على غيرهم... أما نحن كعمال فعلينا أن نسير إلى الأمام ولا يصح أن تشغلنا هذه الهوامش عن عملنا الدؤوب وللنهوض بالطبقة الشغيلة وفي نفس الوقت يجب أن نتمسك بحقنا في إبداء رأينا بكل حرية في كافة الميادين..." - جريدة الشعب عدد 95 - سلسلة جديدة - بتاريخ 11 نوفمبر 1977
(5)- انظر جريدة الشعب عدد 87 بتاريخ 17 نوفمبر 1977 الصفحة 3 "مكيدة 64-65 لن تعاد".
(6)- انظر بيان المكتب التنفيذي بتاريخ 24 ديسمبر 1977.
(7)- الاستقالات: يوم تمت تنحية الطاهر بلخوجة من وزارة الداخلية (23 ديسمبر 1977) استقال عبد العزيز لصرم من وزارة الاقتصاد الوطني وفي بحر الـ48 ساعة الموالية قدم الوزراء الآتي ذكرهم استقالاتهم:
الحبيب الشطي من وزارة الخارجية
المنجي الكعلي من وزارة الصحة العمومية
المنصف بلحاج عمر من العلاقات مع مجلس الأمة والكتابة العامة للحكومة
محمد الناصر من وزارة الشؤون الاجتماعية
أحمد بالنور من كتابة الدولة للدفاع الوطني
(8)- اتهم محمد بلعجوزة بتصنيع مدفع وتضمنت التهم الموجهة إلى الموقوفين تهمة إعداد "مخزن للأسلحة" لقلب نظام الحكم منها مثلا مفتاح براغي (tourne vis) صغير أصفر. أما مدفع بلعجوزة فلا يعدو كونه خشبة شدّ لها قضيب حديدي.
(9)- أصدرت الصحف التونسية يوم الثلاثاء 22 أوت 78 تقريرا لوكالة تونس إفريقيا للأنباء (وات) حاولت فيه الرد على ما اتهمت به الحكومة والبوليس من ممارسة التعذيب في حق الموقوفين وما أتته من تجاوزات بخصوص محاكمة النقابيين ومن جملة ما جاء فيه، أنه استنادا إلى "الجهات المختصة" فإنّ التعذيب "لم يكن إلاّ أكاذيب ومزاعم نسجها خيال المتهمين ولسان الدفاع ..." كما جاء فيه أيضا أنّ "المرحوم حسين الكوكي توفي فجأة ولم يعلم أي كان مسبقا بأنه مصاب أو شعر بألم..." في حين أنّ تقرير حاكم التحقيق يشهد بعكس ذلك إذ يقول:" وبمحضرنا تولى ثلاثتهم (الأطباء) تشريح جثة الهالك حسين المذكور بعد أن شاهدنا بها ثقبا بجانب الثدي الأيمن وأخرى بذراعه الأيسر جعلتا لحقن الدواء منهما له في قيام حياته كما شاهدنا آثار زرقة بسطح الجلد على الظهر والكتفين ...".
(10)- منذ دخول قاعة الجلسة كان الموقوفون يهتفون بشعارات كثيرة منها بالخصوص "كوني حرة يا عدالة" وينشدون نشيد الثورة: حماة الحمى...
(11)- كان حسين المغربي ترأس قبل ذلك في نطاق مسؤولياته الحزبية "اجتماعا عماليا" بشركة "بانورويا" بجبل جلود صرّح فيه بالقول "إنّ الانحراف الأخير في قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل كان يستهدف القضاء على هذه الدولة بعد أن تسرّبت عناصر شيوعية في صلب المنظمة النقابية" مما يعني أنّ موقفه من القضية ليس محايدا ولا يمكن أن يكون موضوعيا ليقبل به ضمن طاقم المحكمة.
(12)- في محاكمة نقابيي سوسة مثلا ندّد المحامي عبد السلام بوكر في مرافعته بالإضراب العام واعتبره "جريمة في حق البلاد والشعب" وصبّ جام غضبه على جريدة "الشعب" لتحريضها على "التطاحن" حسب زعمه. وللدفاع عن منوبيه وصفهم "بالجهلة والأميّين" الأمر الذي جعلهم يطالبون بمنعه من الدفاع عليهم وهو ما استجابت له المحكمة وتمّ إسكاته.
(13)- أصبحت القيادة المنصّبة على رأس الاتحاد في حالة عزلة داخليا إذ عبّرت كلّ النقابات تقريبا بصورة تلقائية عــن رفض التنصيب قبل أن يقع تنظيم المقاومة للدفاع عن الشرعية. وازدادت هذه العزلة أكثر حينما أعلن في شهر سبتمبر 1978 عضوان من المكتب التنفيذي المنصّب عن استقالتهما هما خير الدين بوصلاح ومحسن الدريدي وعدد من النقابيين من مختلف الجهات (المتلوي، قرقنة...) والقطاعات (البناء...) فيما تمسّكت هياكل كثيرة بالعمل خارج القيادة المنصّبة.
(14)- استدعى وزير خارجية بلجيكا يوم 4 أكتوبر 78 سفير تونس ببروكسيل ليعبّر له عن "انشغال حكومته " إزاء محاكمة القيادة النقابية في تونس.
(15) - تشكّل في باريس "تجمع 26 جانفي" تولّى تنظيم الدعاية ضد سياسة النظام تجاه الاتحاد العام التونسي للشغل وحشد الدعم في فرنسا وفي عموم أوروبا للشرعيين والمحاكمين والمطرودين ونظّم أعمالا احتجاجية كثيرة منها المظاهرات أمام سفارات تونس بأوروبا وخاصة بباريس.
بيانات المكتب التنفيذي (نماذج)
بيان المكتب التنفيذي 25 أكتوبر 1977
اجتمع المكتب التنفيذي للاتحاد العام التونسي للشغل يوم الثلاثاء 25 أكتوبر 1977 بدار الاتحاد العام التونسي للشغل برئاسة أمينه العام.
وقد وقع النظر في الوضع العام بالبلاد واستعرض النشاط النقابي وأحوال العمال في مختلف الجهات والقطاعات.
وتركز النظر بالخصوص على أحداث قصر هلال ومضاعفاتها وخاصة الأبعاد الخطيرة التي ينطوي عليها استعمال العنف ضد العمال وسابقة تدخل الجيش.
واتخذ المكتب التنفيذي جملة من القرارات والإجراءات ومنها :
1- ضرورة إرجاع كافة عمال سوجيتاكس إلى مراكز عملهم دون ميز.
2- ضرورة إطلاق سراح الموقوفين والمساجين إثر أحداث قصر هلال ومنزل بورقيبة.
3- التمسك ببعث لجنة مشتركة بين السلطة والاتحاد للبحث في أسباب وتطورات أحداث قصر هلال وتحديد المسؤوليات فيها طبقا لما جاء في تقرير الاتحاد المقدم للسلط في الموضوع.
4- اتخاذ الإجراءات الكفيلة بوضع حد للمماطلات المتسببة في تراكم المشاكل وفقدان الثقة في جدوى الحوار والشعور بأنّ الإضراب هو الحل الوحيد للدفاع عن حقوق العمال. والملاحظ في هذا الصدد أنّ هناك تضاربا بين النهج اللامركزي الذي وقع اختياره والاقتناع به لحل المشاكل النقابية في مستوى المؤسسات والجهات وبين المنشور الحكومي الذي يحجّر على المؤسسات الاقتصادية القومية تلبية طلبات العمال قبل موافقة سلطة الإشراف.
5- العمل على تنفيذ قرارات الاتحاد وخاصة منها لائحة الهيئة الإدارية المنعقدة يوم 15 سبتمبر1977.
6- عقد هيئة إدارية للاتحاد العام يوم الثلاثاء 15 نوفمبر 1977.

بيان المكتب التنفيذي، 8 نوفمبر 1977
اجتمع المكتب التنفيذي للاتحاد العام التونسي للشغل يوم الثلاثاء 8 نوفمبر 1977 بدار الاتحاد، ونظر في المسائل المدرجة في جدول أعمال الهيئة الإدارية للاتحاد المقرر عقدها يوم الثلاثاء 15 نوفمبر 1977.
وتأكيدا لبلاغه الصادر ظهر يوم الاثنين 7 نوفمبر الجاري واجتنابا لكل تأويل خاطئ له، يدعو المكتب التنفيذي من جديد الهياكل النقابية التي قررت القيام بإضرابات للاحتجاج على نية وإعداد اغتيال الأمين العام للاتحاد، إلى اليقظة والسهر على اجتناب كل عمل تلقائي فوضوي وعدم الانزلاق أمام الاستفزازات مهما كان مصدرها والتمسك بالانضباط والنظام وأن تكون هذه الإضرابات محدودة الزمن.

بيان المكتب التنفيذي، 24 ديسمبر 1977
اجتمع المكتب التنفيذي للاتحاد العام التونسي للشغل يوم السبت 24 ديسمبر 1977 وبعد استعراضه ومناقشته للوضع العام بالبلاد وأخذ رأي الكتاب العامين للجامعات والنقابات العامة والقومية أصدر البيان التالي:
إن الاتحاد العام التونسي للشغل رغم اجتنابه التدخل في شؤون الحكومة، يرى أنّ تعيين وزير الدفاع وزيرا للداخلية وتعيين عقيد في الجندية على الإدارة العامة للأمن الوطني يمثل منعرجا في سياسة التصلب وأنّ الأيام القادمة ستكشف الحقيقة.
إنّ الاتحاد العام التونسي للشغل ما زال وسيبقى متشبثا بالمبادئ الديمقراطية أساس دستور البلاد.
والاتحاد العام التونسي للشغل المنظمة الجماهيرية الوفية لتقاليدها الشعبية الوطنية سيواصل عمله في خدمة مصالح الطبقة الشغيلة بكل شجاعة ويقظة.