طوفان الأقصى


هيثم بن محمد شطورو
2024 / 1 / 12 - 03:01     

طوفان الأقصى. طوفان الأبعد على القريب، يطوف به بعد زلزلته تدميرا. البعيد يعصف هادرا بالقريب. الأقصى بما هو الأبعد ما يكون في طوفانه أن يجرف الأقرب منه فالأقرب. الأقصى المكاني المقدس يصبح اللامكان تحديدا ليكون كل الأمكنة أو المكان الأقصى في اتساعه ليشمل الكرة الأرضية، بل قدسيته تشمل الكوني في تماس مع عالم الغيب أو الآخرة، فيزحف طوفان الأقصى بكل ذاك المرح الروحي الحر المنساب في الوجود بما هو تماس برقي بين الفيزيقي والميتافيزيقي.. أما زمانيا، فالأقصى هو المستقبل الذي يهل، والطوفان الفلسطيني يوم 07 أكتوبر 2023 كعلامة من التقويم الزمني البشري، هو المستقبل الذي لا يهل على الحاضر بل يعصف به عصفا. الطوفان فجائي، سريع هادر، هائل مرعب، ماحق، جارف. الحاضر ـ الواقع يتزلزل، والتيار الجارف للطوفان يقـتـلعه ويحول أبعاده ويكسر متانة تماسكه، فيحيله إلى الضياع وافتـقاد كل تماسك وكل قدرة على التفكير العقلاني المتوازن على أساس الاستـقرار، فلا ميزان يمكنه وزن الأمور وهو في حالة حركة سواء من اهتزاز أو تهاوي أو نحو ذلك. لحظة الطوفان هي لحظة كسر الاستـقرار بكل أساساته وبالتالي هي لحظة الإرتهاب والفجيعة والإرتعاب، كما أنها لحظة الرقص الحر للروح المبتهجة التي تتحول إلى نار مستعرة تُـذيب كل الأجسام الصلبة التي تعترضها فتكون كأنها الجحيم الرحيم بأهله.
الطوفان يتعدى تسميته المجازية المعنونة لمعركة المقاومة الفلسطينية التحررية ضد الاستعمار الإسرائيلي، الاستيطاني الإحلالي لشعب لقيط مكان شعب أصيل متجانس متجذر في أرضه ـ أرضه بما هي تاريخيته وهويته المترسبة عبر القرون ووعيه العام وبالتالي فأرضه هي روحه، وعملية الإحلال هي في النهاية لتركيبة مصطنعة دون روح مكان شعب له روح وبالتالي فالمعركة هي ما بين تثبيت الوجود الروحي للإنسان وبين مسخ الإنسان ونزع روحه لإحالته إلى مجرد آلة، لأجل ذلك فالصهيونية هي تجسيد حي لعصر الألينة أو عصر الصناعة، والرأسمالية والصهيونية مترادفتان، الإحتلال الصهيوني الامبريالي الغربي. الطوفان واقع جارف لواقع الاحتلال ذاك. الاحتلال المتـشعب الأبعاد. احتلال الرجل الأبيض ممارسا عنصريته وعجرفته وخيلائه على من يعتبره أدنى درجة منه في الإنسانية. الاحتلال بما هو أسطورة متعلقة بالديني تريد العودة إلى واقع متخيل ومزيف للتاريخ لما قبل ألفي سنة. الاحتلال الذي يتمترس في خط الحروب الصليـبـيىة منذ القرون الوسطى ضد العالم العربي الإسلامي. الاحتلال الصهيوني باعتباره طردا لليهود من أوربا للتخلص منهم وتوطينهم في فلسطين لخدمة غرض تقسيم العرب وتكريس واقع التخلف والتجزئة والانحطاط، وبالتالي فإسرائيل هي قاعدة الامبريالية في قلب العالم للسيطرة على العالم، والعرب هم محور العالم جغرافيا وحضاريا، فليس من بديل حضاري عن الحضارة الغربية إلا عربيا إسلاميا، والبديل العربي يعني ضعف أوربا الإمبريالية العنصرية المتضخمة بنرجسية بياضها ونعومة بشرتها وجمالها، وبالتالي فوجود إسرائيل في قلب الأمة العربية والإسلامية هو وجود لعالم سيطرة الرجل الأبيض الغربي المسيحي الأوربي الأمريكي الامبريالي على العالم. طوفان الأقصى يهز كل الأرض إذن.
المقاومة الفلسطينية في غزة الحرة إنسانيا وروحيا، والمُحاصرة برا وبحرا وجوا، والمكشوفة أمام الاحتلال الصهيوني نظرا للتكنولوجيا المتقدمة والمتصلة بالأقمار الصناعية. الطوفان هدر بكسر فاعلية وعمل تكنولوجيا المراقبة في السياج الحدودي الجاعل من غزة أكبر سجن في العالم. سجن لنحو ما يزيد عن مليوني إنسان لتكون غزة أكبر كثافة سكانية في العالم. تلك الكثافة السكانية هي سلاح المقاومة على كل المستويات. كثافة أعداد المناضلين الأحرار وكثافة التواصل الإنساني بين أهل غزة فيكون شعبا ذو لحمة كبيرة تكاد تـنمحي فيها الفردانية والأنانية، مما يرفع الإنسان إلى الكلي بما هو ارتـقاء روحي، فتكون الحرية والكرامة والإيمان بالله واقعا حيا ملموسا في كل زواياه ومناحيه. و فكرة الحرية تكلم عنها الفيلسوف "كانط" قائلا: " لن يسبر أغوارها أي عقل بشري. أما حقيقـتها من ناحية أخرى، فلن تستطيع أي سفسطة أن تـنـتـزعها من قلب أي إنسان"، ولكن الحرية المستعصية على الفهم باعتبارها تستوطن القلب البشري فأليست هي الإيمان بالله المستوطن في القلب دون قدرة على إدراكه؟ فأليس الإيمان بالله وتقوية ذاك الإيمان هي تقوية منسوب التحرر مما سوى الله؟ أليس التحرر مما سوى الله في النهاية أجلى تعبير عن الحرية تجاه كل الحدود المادية والطبيعية والبشرية في اتجاه المطلق أي الموت أو الاستشهاد وفق التعبير الإسلامي؟ وهنا بالذات وعند هذه النقطة كانت المقاومة الفلسطينية بفكرها الإسلامي المتمثل في حركة حماس الأكثر قدرة على الانطلاق نحو المستحيل أو ما يُعتبر مستحيلا لأنها متجهة نحو المطلق الذي لا يحده حد، فهيكلت نفسها وخططت وأعدت وفق اتجاه المطلق المتحرر من كل تحديدات فحقـقت ما يُشبه المعجزة والتي أطلقت عليها تسمية "طوفان الأقصى"..
وهكذا ينقـلب السحر على الساحر، فالسجان الصهيوني العنصري المجرم الظالم الطاغية المتغطرس هو الذي ساهم في خلق وضعية إنسانية تعيش المطلق فتهون أمامها كل المظاهر من الوجود المادي مهما بدا قويا منيعا وساحرا، ومن هنا يتحول السالب إلى موجب وفق غايات التاريخ في صيرورته،و كأن المحتل يقـتل نفسه بالقوة، حين يساهم في إحلال وضع يتسامى روحيا حتى يكون الروحي طوفانا فعليا واقعيا يعصف بالواقع الذي يـبدو هنا واقعا زائفا بما أنه يؤول نحو التلاشي.. أسقط الطوفان السياج المنيع يوم السابع من أكتوبر. أسقط الطوفان واقع الاحتلال الصهيوني الإمبريالي لأنه تركز في ذاك السياج. الطوفان هو طوفان الروح الحرة الملتهبة المتعالقة مع الله وقد أسقط السياج المادي ولكنه أسقط السياج المعنوي بالأساس. الاحتلال الإسرائيلي أهون من بيت العنكبوت. هذا التوصيف يعني أن إسرائيل القوية المنيعة قد سقطت بسقوط سياجها عند المقاومة وعند الشعب الفلسطيني وعند المحتل نفسه، وبالتالي فالطوفان قد جرف الاحتلال الصهيوني بالقوة، أما بالفعل فالمسألة مسألة وقت لا غير.
طوفان الأقصى أفصح عن حقيقيته بتعري المواقف الحقيقية للأنظمة الأوربية الامبريالية، فها هو عالم الديمقراطية وحقوق الإنسان يقف مدافعا عن منتهك حقوق الإنسان بشكل فاضح. القول بأحقية إسرائيل في الدفاع عن نفسها تجاه المقاومة الفلسطينية هو دفاع صريح عن الاحتلال، وبالتالي تسقط كل دعوى غربية لمقاومة الاحتلال بمثل ما حصل مع عراق صدام حسين اثر اجتياحه الكويت، ولكن قال طوفان الأقصى أن المواقف في النهاية تستـند إلى القوة، وقد أعدت المقاومة نفسها جيدا سواء من شبكة أنفاق رهيبة مكنتها من تحويل الدبابات الإسرائيلية إلى كرتون سهل الاحتراق بفضل صواريخها وعبواتها محلية الصنع، أو من الصواريخ التي أمطرت بها مختلف المناطق الفلسطينية المحتلة وخاصة العاصمة الإسرائيلية تل أبيب، لتُـنهي أسطورة إسرائيل الآمنة بفضل جيشها الذي لا يُقهر. الجيش الذي لا يُقهر عنوان إسرائيلي شبه أسطوري وطوفان الأقصى عصف بكل أساطير إسرائيل الزائفة. الجيش الذي لا يُقهر في الهروب من الجبهة وفي الاحتراق بنيران المجاهدين الفلسطينيين. الجيش الذي لا يُقهر يقول "إننا نقاتل الأشباح التي لا نراها.. إننا عالقون في الجحيم.."، مما حدا ببعض أفراد المقاومة المشارك في هجوم 07 أكتوبر إلى القول "إن الملائكة تحارب معنا. أطياف إلى جانبنا في القتال حقيقية ولكنها ليست بأجسام. نحس بها ولكن لا نراها بوضوح. حجم الرصاص الذي أطلقناه أقل بكثير من القتلى في صفوف الإسرائيليين. انمحى الخوف منا تماما وسعادة عارمة تملؤنا. إحساس غريب ولكنه جميل جدا. إحساس من الجنة". طوفان الأقصى فتح باب الميتافيزيقا لتعصف بالفيزيقي سواء من الجانب الفلسطيني أو الإسرائيلي، فترفع الفلسطيني إلى أقصى مدى في اليقين بالحق الذي يمثله، وبالإسرائيلي بأقصى مدى في الاهتزاز والقلق من الجحيمي الذي يمثله في الظلم وضرب كل قيمة أخلاقية، حتى أن الجيش الذي لا يُقهر في تمثله للجحيمي حدد ضرب المستشفيات في غزة كهدف عسكري أساسي وأولي، وقائمة الجرائم الأخلاقية والسفالة والدناءة التي تُخجل الإنسانية برمتها تطول. استهداف الصحفيـين بالقـتل لأنهم يفضحون حقيقة الممارسات الفظيعة تجاه الفلسطينيين من الجيش الإسرائيلي الذي لا يُقهر. استهداف المدنيين بالقتل حتى أن أعلى نسبة في القـتلى من الفلسطينيين هم من الأطفال، بل صرح عديد المسئولين والمعلقين الإسرائيليين أنه لا يُوجد فلسطيني بريء. البريء طبعا وفق تحديدهم هو الخاضع للاحتلال بل المؤمن بالأسطورة الاسرائلية. المعاملة الوحشية للأسرى الفلسطينيين والتي يقابلها معاملة كتائب القسام للأسرى الاسرائيليين التي شهدت احتفالية في وجوه المطلق سراحهم وتعابير الود والمحبة تجاه كتائب القسام من قبل الأسرى الاسرائيليين الممتنين للمعاملة الانسانية الحضارية الراقية التي وجودها من قبله والتي تؤشر إلى الزخم الحضاري والقيمي الانساني والقرآني الاسلامي في احترام الانسان باعتبار تكريم الله له فواجب على المسلم تكريم كل انسان.. مقابل هذا الرقي تجد العكس تماما في المعسكر المقابل. تجد احتقارا للانسان بل اعتبار كل من يقاوم ظلمهم حيوانات بشرية، والقائمة تطول من جرائم الجيش الإسرائيلي الذي لا يُقهر في تمثيل الشر على مدى تاريخ احتلاله لفلسطين منذ 1948 إلى غاية اليوم. هذا الجيش الذي لا يٌقهر في القبض على الأطفال الفلسطينيين حتى في السن دون العاشرة والزج بهم في سجون كيان الشر الإسرائيلي.
ومن أكبر المفارقات للكيان الصهيوني، أن جيشه الذي لا يُقهر هو فعليا ليس في اتجاه تأمين الكيان بل في اتجاه التسريع بخطوات حثيثة نحو زواله. كل يوم في حربه ضد غزة التي تحولت من توصيف السجن الكبير إلى توصيف أشهق منارة للحرية الإنسانية، يتقهقر هذا الجيش أمام بسالة وشجاعة ورجولية المقاومة الفلسطينية التي فتكت بهذا الجيش وأثخنت فيه القـتل والترويع، فينتقم هذا الجيش من المدنيين فيقصف المباني والمستشفيات والطرق بل حتى المخابز لغاية تجويع الشعب لجعله يهرب إلى الحدود مع مصر ويحقق انتصاره بإفراغ غزة من شعبها وبالتالي يردم الأنفاق بالسلاح النووي وفي نفس الوقت يفتك الأرض التي يسميها أرض الميعاد ليعمرها بشعب الله المختار. الجيش الذي لا يُقهر قام في الحقيقة بإحراق صورة إسرائيل في العالم بكونها الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط والتي تتمثل القيم الغربية في حقوق الإنسان وهي وسط العرب الهمج القتلة ذوي الدين الإرهابي الذي يأمرهم بالقتل والإرهاب. رأى العالم الحقيقة ورأى مدى زيف هذا الكيان ومدى كونه مجرد أسطورة كاذبة من ألفه إلى يائه. رأى العالم ممارسة للإبادة الجماعية للفلسطينيين في غزة، ومن هنا، رأى العالم الغربي والعالم كله وجودا لفلسطين وفلسطينيين، وتم اكتـشاف الحقيقة الواضحة التي دأبت صناعة الأكاذيب الصهيونية الامبريالية على تغيـيـبها، وهي أن الأرض هي فلسطين التي تم احتلاها عام 1948 ، ورفعت الشعوب الغربية شعار فلسطين حرة من النهر إلى البحر. هذا الشعار الذي عكف العرب عن رفعه فقد تسلل في وعيهم السياسي أنه غير عملي وغير قابل للإنجاز. فلسطين حرة. شعار يدوي من اليابان إلى الولايات المتحدة عبر أوربا. الشعوب الغربية تـقف عند أخلاقها الإنسانية وروحيتها الإنسانية وتصرخ فلسطين حرة في مواجهة حكوماتها التي تـنـتهك الأخلاق الإنسانية. لقد فشلت الرأسمالية الصهيونية في ألينة الإنسان الثائر اليوم في الشوارع لفلسطين الحرة ولكن لنفسه الحرة من الألينة والتجريد من الروح وإغلاق أفق الوجود بأكسيد الكربون والاحتباس الحراري. فلسطين الحرة هي العالم الحر.
يقول الشاعر الانكليزي " جون دون": " لا أحد يمكن أن يكون جزيرة معزولة. كل إنسان هو قطعة من الأرض الفسيحة، قطرة من محيط متلاطم.. إن موت أي إنسان يهزني من كياني لأني جزء متشابك مع الجنس البشري"...
وهكذا فالشهداء بالآلاف في غزة وفلسطين على مدى سنوات الاحتلال الصهيوني وخاصة في الحرب على غزة في طوفان الأقصى هم سناءات النور لعالم حر جديد قادم، وإذا اعتبرنا أن الاستشهاد في سبيل الله هو أعمق تعبير عن الحرية التي بدورها ستـنعكس في صيرورة التاريخ البشري لينبلج فجر يوم إنساني جديد فيه تجليات للقيم السامية النبيلة، فإن الاستشهاد في معركة الحرية هو استشهاد في سبيل الله، والاستشهاد هنا هو بما هو شهادة إنسانية على ارتـقائه نحو الألوهية، لذلك قال الله في قرآنه الكريم " ولا تحسبن الذين قُـتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يُرزقون". فشهداء غزة اليوم الذين أيقظوا إنسانية الإنسان من حيث هو روح حرة أخلاقية هم بقدر حياتهم عند ربهم فهم حياة عالم أكثر حرية من كل العوالم التي سبقـته. فصيرورة التاريخ البشري تقدمية في اتجاه حرية الإنسان التي بلغت فيها حضارة الغرب مستوى متقدما ولكنه أصبح اليوم عاجزا عن التقدم والعالم يتطلب لونا حضاريا جديدا يتقدم بحرية الإنسان أبعد وأبعد..