سعد جاسم يتمرّد على بواكيره - قراءة في موسيقى الكائن


صالح الرزوق
2024 / 1 / 8 - 09:46     

منذ اول مجموعة له وحتى ( موسيقى الكائن ) يتابع سعد جاسم حلم حياته وهو مشروعه مع الشعر الحديث.
وأقول مشروع لأنه دائماً يربط الحلقة السابقة بالحلقة التالية. فنهايات مجموعاته مفتوحة و غالبا تكون آخر قصيدة بمثابة تمهيد لفكرة قيد الإنجاز.
وبهذا المعنى يقول في خاتمة ديوانه ( موسيقى الكائن ): إنه بصدد مشروع شعري مستمر يطوره من سنوات.
ولكن لكل مشروع أرض أو أساسات وركائز يقوم عليها. وإن كنت أرى أن خلفيات سعد جاسم هي الشعر الإنساني على وجه الإطلاق، قديمه وحديثه ،
الناطق بالضاد والمكتوب بلغات أعجمية، فهو ينطلق من عالم السياب الرافض لشرطه البشري، المتمرد على ضعف الذات والخارج على قانون الأوائل.
لقد كان مثله مختلفاً مع ذاته، و قريباً من الأدوات الأسطورية في البناء و التركيب و تسلسل المعاني، وتجد أكثر من إشارة لأساطير إغريقية ورومانية
منها: غابة الأولمب، أوريديس، عالم هاديس السفلي، إلخ…
كذلك لا تخلو لديه قصيدة من شبح الموت و صور المقابر. حتى أنَّ كلمة موسيقى التي وردت في عنوان المجموعة وردت أيضاً في عدة مواضع
بالترابط مع تشييع الموتى و حفلات العزاء. يقول في أولى قصائده:
موسيقى جنائزية .. موسيقى.. موسيقى
لاغتيالات
……..
موسيقى، موسيقة خطرة
موسيقى لعالم قد يفنى في نهايات القرن
و لئن كان تكرار مفردة موسيقى يذكرنا بـ ( أنشودة المطر ) للسياب التي استعملت إيقاع المشابهة بين هطول المطر المدرار وإيقاع تكرار كلمة مطر
عدة مرات على التوالي، إنها تلفت الانتباه لما في هذه الرؤية من تلازم مع عدمية السياب و احتفاله بالموت. فقد كانت فترة علاجه واحتضاره تمهيدا
لحوار خلاب مع العالم المحايث، حيث أنسن في قصائده الأخيرة العدم و شخصن المجهول، و رأى في الموت غرفة نوم فاخرة الرياش ،
تصل حاضره بما انقطع من ماضيه. و بهذا المعنى يقول:
هات الردى، أريد أن أنام
بين قبور أهلي المبعثرة ( ص 706 – المعول الحجري).
و طبعاً إن سعد جاسم ليس وحده من ورث السياب. بل قبله سار على هذا الدرب سعدي يوسف الذي أعاد إنتاجه فنيا.
و هذا يفترض أنه لم يكن مخلصا له في الإيديولوجيا ( نظام الأفكار ) و لكن في المنطق فقط ( الظاهرة الفكرية المجردة).

**
يلعب سعد جاسم في ( موسيقى الكائن ) على وتر فكرة: اللامتناهي و الخلود و المرأة.
بالنسبة لأول نقطة. اللامتناهي. إنه يستعمل الإسقاط والاستعارة غير الصريحة. و لنضرب على ذلك مثلا بقصيدته ( عربات الأرقام ) ،
إن وجه الشبه مفقود بين حياة بطل القصيدة ( وهو بلا جدال ضمير أو ذات الشاعر ) والأرقام.
وإن هذه المشابهة غير التامة بين السقوط أو نكوص الأهداف والغايات و بين الأرقام المحرومة من المشاعر بل التي تعيش بنصف إمكاناتها، ب
قوة الضرورة والإكراه و ليس استجابة لدافع عاطفي، تترك مساحة للترميز والتأويل.
و الأهم من ذلك أن تلك المساحة غير المعّرفة قد لعبت دوراً تجريديا لتضخيم إحساسنا بالرعب و الخوف من رحلة العودة.
يقول في قصيدة تحمل عنوان ( عربات الأرقام ):
{هل سأزج في كوميديا العودة
وأساق في عربات الأرقام}
لقد تنازعت الشاعر بوجه عام عاطفتان: الشوق لمسقط رأسه، وبالإبدال لأحضان أمه، موضوع الرغبة الدائم في الفن والأدب منذ أيام الأغريق وحتى اللحظة الحالية،
والخوف من العودة بسبب الظروف القهرية.
و هذا يضعنا بمواجهة المثلث الأوديبي: الأب الذي يمثل قوة ردع، والأم التي هي سبب للكبت، وأخيرا الاحتمالات المؤسفة بالسقوط والخطيئة.
**
النقطة الثانية: وهي الفراغ. وتنتمي لنفس شجرة التناهي وعكسه. إنها تعبير عن الخوف من الفناء. ولكن بما أن سعد جاسم لا تهمه هذه الحياة الباطلة،
الموبوءة بالفساد، التي تفشّى فيها القهر والممنوع،أرى أن رهبة الموت والفراغ لديه تعادل الخوف من المجهول.
بهذا المعنى يقول في ( عربات الأرقام ):
{ الآخر الحزين هذه الأيام
ينتظر مصيرا مجهولا}
ويقول أيضاً:
راحَ يُهيء نفسه لمصير يعرف أنه غامض
و ينتظره.}
و لا يُخفى على أحد صلة الوصل بين هذا الانتظار المجدب والعقيم و ضبابية الموقف ولاجدواه. كأننا حيال مسرحية
( في انتظار غودو ) لبيكيت .
لقد رسمت هذه القصائد لوحة للإغتراب والمنفى . وتحدثت بإسهاب عن تعدد المحطات في حياة الشاعر. وهذا دليل على وضعية وجودية ،
أقل ما يقال عنها إنها بلا محددات. إنها من غير هوية خاصة. وبفضلها تحوّل الشاعر إلى شخصية مُركّبة وأصبح عالمه فضاءً مفتوحاً،
خريطة من غير بلدان. أو بتعبير المرحوم هاني الراهب : أصبحت حياته تدور في ( بلد واحد هو العالم ). إنه بلد يتجاور فيه :
{حميد قاسم} صديق الشاعر و{شكسبير} ملهمه ومعلمه. وتتوازى فيه تجربة {وسام هاشم} مع فلسفة أفلاطون

**
آخر نقطة كانت عن النساء. وباعتبار أننا اتفقنا أن هذه القصائد يحدوها هم وجودي ويتقاطع فيها سيفان متبارزان : مباهج الحياة ولؤم وفظاعة الموت،
أراد الشاعر لنسائه أن يكنَّ متبرجات. وجمالهن ليس فطرياً. إنهن لسْنَ جزءاً من الطبيعة المعشوقة ويغلب عليهن معنى الخطيئة الأصلية والضرورة والليبيدو.
لم يرهق سعد جاسم نفسه في إضفاء فلسفة أو استراتيجية خاصة لتصعيد الغرائز، وتركَ للنساء مهمة الإتجار باللذة.
يقول في قصيدة ( موسيقى الكائن):
{ وهكذا يمكن أن يكون هنالك حب
حب مدمر
حب تقليدي
حب أعور، إلخ...}
ثم يقول في قصيدة { مبلغ من النوم }:
وفكّرتُ أن أتوسَّل – { لا أتسوّل
أتوسل:
العراقيات اللواتي يبعن سجائر اللذة.}
وأرى أن هذه الصورة الدميمة لغريزة الحب وما يقف خلفها من افتراض بموجبات الحياة قد حوّلت مبدأ إشباع اللذة الفرويدي إلى نقيضه ،
وإلى حالة بلا قوام ولا شكل. وأشير بذلك للرابط المنطقي بين السيجارة ثم المتبقي منها: الدخان والرماد.
وهذا قد دفعه ليرى المرأة بصورة قرين للمرآة كما ورد في قصيدته ( مبلغ من النوم ). وهنا ترى الجناس في المعاني وفي الإلفاظ واضحاً.
إن مخارج الحروف بل الحروف نفسها متقاربة ومتماثلة في الكلمتين، بينما المعنى واحد. فالمرأة تحولت لعلاقة مشبوهة لاغاية منها غير تبادل المنفعة
وبأردأ صورها، كأنها سطح عاكس يوضّح كم في هذا العالم من شرور ومكائد. و كيف يتطور فيه مبدأ الحياة والخصوبة إلى علاقات ربوية.
و لكن لا بد في النهاية من إشارة سريعة إلى نقاط تفاؤل نراها هنا وهناك، هي من طبيعة الأمور. فالشاعر يستطيع أن يكون سادياً وساخطاً
ولكنه لايستطيع أن يكون ضد جوهر الفن ذاته، وهو إرادة البقاء. حتى جحيم رامبو لم يكن يخلو من منفذ للنجاة .
فقد كان يبذل ما بوسعه ليهرب من لحظات الصحو والمواجهة مع الواقع المزري.
-----------------------------------
* ناقد وقاص ومترجم سوري