عبد الغني جميل مفتي الديار العراقية وثورته ضد العثمانيين 1832م


ابراهيم خليل العلاف
2024 / 1 / 7 - 18:08     

ا.د.ابراهيم خليل العلاف
استاذ التاريخ الحديث المتمرس - جامعة الموصل
في كتابي (تاريخ الوطن العربي في العهد العثماني 1516-1916 ) ، وقد صدر عن دار الكتب بجامعة الموصل سنة 1982 ، وهو كتاب منهجي لطلبة اقسام التاريخ ، وقفت عند حكم المماليك للعراق ، وتولي حسن باشا حكم بغداد سنة 1704 وتأسيس حكومة المماليك (الكوله مند) قدر لها ان تستأثر بالسلطة حتى سنة 1831 .
وكان داؤد باشا ، الوالي المصلح والمتنور ، آخر من حكم من المماليك ، وقد اصطدم بالنفوذ البريطاني وبالمقيم السياسي البريطاني كلوديوس جيمس ريج لكن السلطان محمود الثاني 1808-1839 ، حسم الموقف واعاد الحكم العثماني المباشر .
ثمة حدث مهم وقع في عهد داؤد باشا ، وهو ما يعرف ب( ثورة السيد عبد الغني الجميل) ، مفتي الديار العراقية على المذهب الحنفي أي المفتي العام للولايات العراقية الثلاث بغداد والبصرة والموصل (ويسميها العثمانيون الخطة العراقية) .
وال الجميل ، الذي ينتسب اليهم المفتي بالأصل اسرة عربية شامية نزحت الى مدينة عانة بمحافظة الانبار الحالية ثم الى بغداد واستقرت في بغداد وتبؤأ افرادها مناصب شرعية ، وعلمية ، وقضائية رفيعة .كانت الاسرة تسكن في محلة عريقة هي ( محلة قنبر علي) .
كان السيد عبد الغني آل جميل ، فضلا عن كونه فقيها وعالما دينيا ، فقد كان شاعرا . وهو من مواليد مدينة بغداد سنة 1780م ، وقد تحدث عنه شيخي واستاذي المؤرخ المصري الكبير المرحوم الأستاذ الدكتور عبد العزيز نوار في كتابه (تاريخ العراق الحديث) ، وصدر في القاهرة سنة 1968 . وكان للسيد عبد الغني جميل دور بارز في حياة العراق السياسية والفكرية والدينية والاجتماعية، وكانت الناس تلجأ اليه للاستشارة ، ولرد عدوان السلطة العثمانية ، وتعسف موظفيها وصادف ان جاء بغداد - بعد اسقاط آخر الولاة المماليك داؤود باشا - والٍ متعسف ، وظالم هو الوالي محمد رضا باشا اللاز . نقطة مهمة لم يذكرها المؤرخون وهي ان الوالي الجديد علي رضا باشا اللاز جاء ومن معه من المرافقين مرتديا الملابس الافرنجية وهذا ما لم يألفه اهل بغداد فاستغربوا ذلك وبدأوا ينظرون الى الوالي الذي اظهر تعاليه على الناس وابتعاده عن التقاليد الاسلامية ، وتأكيده على اللغة التركية في حين كان داؤود باشا يؤكد على اللغة العربية وكان الولاة المماليك اقرب الى العراقيين مما كان عليه الولاة الاتراك .ومما كره العراقيين بالوالي الجديد وحاشيته انهم بدأوا حكمهم بالدماء والاصرار على جمع الضرائب وبقسوة شديدة من الاهالي لهذا كله تجمعت عناصر الثورة ضدهم ، وكثيرا ما دعا السيد عبد الغني جميل الوالي الجديد ان يكف أذاه ، لكنه لم يستجب ووقعت حادثة كانت سببا مباشرا لثورة السيد عبد الغني جميل وقيادته الناس ضد الوالي الظالم المستبد وضد السلطة الغاشمة وملخص الحادثة ان إحدى نساء المماليك وهي أرملة رضوان آغا وكانت سيدة علوية من أسرة نقيب مندلي التجأت إلى المفتي عبد الغني تحتمي عنده من مطاردة رجال الوالي علي رضا باشا لها .وقد اودعت عنده ولدها الصغير وكان عمره ست سنوات لكن جنود الوالي لم يحترموا كل ذلك ، فقبضوا عليها وساموها سوء العذاب وقد غضب السيد عبد الغني جميل بشدة ، ولم يستجب الوالي لاحتجاجه ؛ لذلك نزل الى الشارع وقاد تظاهرة عارمة وكان ذلك يوم 27 ذو الحجة سنة 1247 هجرية الموافق ليوم 29 من حزيران –يونيو سنة 1832 م وقد انطلقت التظاهرة من محلة قنبر علي وسرعان ما اتسعت بعد انضمام الكثيرون من أبناء المحلات الأخرى، وتوجهت التظاهرة نحو مركز السراي في القشلة واصطدم بها جيش الوالي واستشهد فيها عدد من المتظاهرين ، وكان منهم من المثقفين البغداديين وعدد من ابناء العشائر المساندين للمفتي .
بعدها قرر السيد عبد الغني جميل التوجه بالمظاهرة والتحصن في الحضرة القادرية (مرقد الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس الله سره ) بأسلحتهم في محلة باب الشيخ ببغداد وأمر شقيقه عبد المحسن آل جميل وأولاده بالهجوم على (العسكر خانة) وتم فعلا الهجوم، وقتل عدد من جنود الوالي العثماني، واقتيد الضابط الذي اعتدى على المرأة التي استجارت بالمفتي، وتم قتله بمجداف أحد الزوارق، ورميت جثته في نهر دجلة.
بعد ذلك قام الوالي بعد هاتين الحادثتين بتعبئة جنوده وسلط مدافعه على محلة قنبر علي فأشعل فيها النار، وقد نُهبت دار المفتي، ثم أحرقها جنود الوالي وبسبب حرق دار المفتي أتلفت مكتبته الثمينة التي تضم أكثر من سبعة آلاف كتاب من أنفس الكتب والمخطوطات.
وبعد احتراق محلة قنبر علي تم تسليم المفتي إلى الحكومة ووضع في الإقامة الجبرية في الحضرة القادرية سنة ونصف السنة، وتم إعفاؤه من مهامه . وثمة من يشير الى ان أنصاره هربوه الى الكرخ ، وحماه الشيخ سليمان الغنام العقيلي رئيس بني عقيل في داره ، وتم نقله الى بلدته (عانة)، ولم يعد الى بغداد الا بعد سنة . وقد حاول الوالي استرضاءه، لكنه ظل على موقفه ويعكس شعره موقفه هذا .
مما عليّ الاشارة اليه ان المقيم السياسي البريطاني في بغداد ممثل شركة الهند الشرقية البريطانية ايد الوالي الجديد ضد المفتي واهل بغداد وهذا مما قوى موقف الوالي وساعده في اخماد الثورة .
توفي السيد عبد الغني جميل رحمة الله عليه في 26 أيار – مايس سنة 1863 عن عمر ناهز ال (83) ، وقد شيع في بغداد تشييعا مهيبا ودفن في مسجد آل جميل في محلة قنبر على .
وقر في ذهن العراقيين جميعا ما قام به المفتي، وما يزالون يتحدثون عنه وعن اسرته وفي الصورة المنشورة الى جانب هذه السطور عدد من أبناء آل الجميل التقطت سنة 1890 م ، ويظهر فيها من اليمين (محمد افندي ال جميل) وهو ابن السيد عبد الغني وبعده أخيه مصطفى وفي الدين وهو أيضا ابن السيد عبد الغني وللسيد عبدالغني أيضا ولد اسمه محمد افندي توفي سنة 1900 وابن اخر اسمه محمود افندي توفي سنة 1853 .
ومن اسرة آل جميل ، الشخصية الوطنية الديموقراطية المشهورة الأستاذ حسين جميل كما ان من هذه الاسرة الشاعر حافظ جميل (توفي سنة 1984) وحافظ جميل هو ابن الشيخ عبد الجليل احد علماء بغداد وعبد الجليل هو شقيق الشيخ عبد المجيد جميل او الأستاذ حسين جميل والأستاذ مكي الجميل .وتحتاج اسرة ال جميل الى دراسة فهي تستحق ان تكتب عنها أطروحة دكتوراه في التاريخ الحديث خاصة وانها تؤرخ لبروز فكرة القومية العربية في العراق ضد السيطرة العثمانية المباشرة .
كان لأسرة ال جميل مجلس للوعظ والإرشاد في (مسجد آل جميل) في محلة قنبر علي في بغداد. وأقام مجلسهِ من بعدهِ أولاده وأحفاده وبقي مجلس آل جميل مشهداً من مشاهد بغداد الدينية والثقافية فقد حضره وداوم على دروسهِ الكثير من علماء بغداد ومنهم الشيخ محمود شكري الآلوسي.
كان شعر عبد الغني جميل حماسيا يستثير فيه العرب ويؤكد على العروبة وقد حفظ الشاعر عبد الغفار الاخرس الكثير من قصائده وجمعها وتحدث عنها وحقق الاستاذ عباس العزاوي سنة 1949 جانبا منها .يقول في احدى قصائده :
لقد طفتُ في شرق البلاد وغربها ***** وقاسيتُ في أسفارها كل شدة
فلم أر إلا غادرا أثر غادرٍ ***** ولم أر إلا خائنا للمودةِ