قراءة نقدية في غابة سعد جاسم الهايكوية


ناظم ناصر القريشي
2024 / 1 / 5 - 00:07     

الشاعر بوصفهِ رائياً :
* ناظم ناصر القريشي

كل شيء في الكون لغة , والطبيعة من حولنا هي أيضا لغة تحتوي رموزاً ودلالات لها معانيها و إيحاءاتها ,
حيث لايوجد شئ عبث , الكل ينتظم في هذا النسق من الترنيمات موسيقى بإيقاعات إلهية .
وعلينا فقط أن نعود الى شعريتنا الأولى و التكوين الأول لأرواحنا ونصغي الى كلمات الشاعر في نثره
لاننا كلما حولنا قصيدة بإيقاعات الطبيعة , فان ارواحنا سيشرق ويتجلّى ايقاعها .
والهايكو من أصعب الفنون الشعرية , وغايته الأولى هي تأمل روح الكون وجوهر الطبيعة .
والهايكو ينطلق من روح الشعر الحقيقية ,هو هذا جوهر الهايكو , فببضع كلمات نرسم لوحة وننطق بحكمة
ونجعل الحياة تنسكب على الورقة ,حياة حقيقية من كلمات حيث يستوقف الشاعر الزمن في اللحظة و يستنبط منه زمناً أخر , هو زمن مطلق .
في لقاء اجريته مع الشاعر سعد جاسم وقد نُشرَ في جريدة { اوروك } العراقية حول تجربته في شعر الهايكو
على اعتباره من رواد هذا النمط الشعري قال : يُعتبر الهايكو جنساً ونوعاً ونمطاً وفضاء شعرياً مختلفاً ومغايراً لما هو سائد
من أنواع وأنماط وأشكال الشعر الأخرى ؛ويمكنني القول بكل ثقة وصراحة وجرأة ووضوح " انا أَول شاعر عراقي كتَبَ قصيدة الهايكو"
والشاعر سعد جاسم لديه مشروع بهذا الاتجاه يعمل عليه منذ تسعينيات القرن الماضي . حيث أنهُ قد كرّس فهمه وخبراته لكتابة "هايكو" معني بالواقع والحياة العراقية
بكل أبعادهما وتفاصيلهما وإشكالياتهما ... وكذلك فهو قد كتب نصوصاً تتناول الحياة والوجود والعالم ؛ وقام بنشر عدّة أقسام من مشروعه هذا في عددٍ من الصحف
والمواقع الألكترونية العراقية والعربية تحت تسمية (هايكو عراقي – أو مفاتيح النصوص) وكذلك نشر قسماً منها في كتابه الشعري( موسيقى الكائن )
الصادر ضمن منشورات اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين في عام -1995- وفي مجموعه الشعرية ( طواويس الخراب ) الصادرة عن دار الخليج
للنشر في العاصمة الاردنية عمان في عام 2001
يقول الشاعر سعد جاسم (أنَّ التخيّل في كتابة وصناعة ( الهايكو ) هو تخيّل ليس بالمطلق والفضاء المفتوح ، حيث انه تخيّل يحكمه المنطق، ويمكن تصويره في الواقع )
أن ما ينثره سعد جاسم في ديوانه (غابة هايكو )من رؤى وصور وومضات وكلمات ليس بصفته شاعراً و أنما هو قد اصبح حكيماً
يستنطق الطبيعة , فترى النوارس التي توهجت بضوء الشمس ترتدي ألوانها البيضاء كياسمينة ندية وتغازل موجات النهر ,
فذاكرته لا تتوقف في المطلق , حتى كأن الطبيعة تستيقظ و تعود كما بدأت ,رغم أن النهر لا وجود له لكننا تشعر انه مرسوم تحت النوارس التي تخفق بأجنحتها اللماعة
لو أخذنا هذا المقطع كمثال و حللناه :
( تتوهجُ تحتَ الشمسِ
كياسميناتٍ نديانة
النوارس السعيدة)
فقد وجدنا فيه الكثير من الأصوات ,صوت الريح ,صوت الأجنحة وهي تضرب الهواء , صوت النوارس ذاتها ,صوت الموجات ,
ويجب أن تكون هناك أشرعة تحلق بالقرب منها النوارس .
وهذا الهايكو مفعم بالحركة والديناميكية المتفاعلة مع الألوان .
وكذلك اذا تأملناه فسجد أكثر من لون مختبئ خلف الكلمات أذن لدينا شغل تأملي توخى فيه الشاعر الشمولية ومنح المتلقي أكثر من فكرة ,
ان الابتكار ليس بالرمز و أنما بصيغة الكلمات نفسها ومنحها ذات المعاني المطلقة للشعر ,وهذه مهمة الشاعر الحقيقي ,
وميزة يمتاز بها الشاعر سعد جاسم فصيغة الكلمات متأتية من قدرة الشاعر على إعطائها شحنة دلالية والارتقاء بها الى جوهر الشعر المطلق
كما هم السيميائيون القدامى الذين كانوا يحولون العناصر الرديئة الى معادن ثمينة , لذا فقد جعلنا الشاعر نلهث خلف الكلمات التي نثرها
لنجد أنها تحولت الى طبيعة تعج فيها الحياة و الأفكار والموسيقى .
القصيدة كموجة تحمل صيرورتها التكوينية من الطاقة الكامنة في الكلمات والهايكو رغم بساطته الظاهرية فهو نص نص مكثف ،
بلغة شفيفة مختزلة تخلو من الزوائد و الترهل والعوالق . وهو لايخضع لاشتراطات الكتابة العادية .
وفي هذا الديوان الرائع بما يحويه من ( هايكوات ) يجعلنا نتنفس من خلالها اقانيم وموجودات وعطور وأنفاس الطبيعة , كأننا نراها لأول مرة ,
والشاعر يسعى إلى الوقوف خارج الأوصاف والمسميات ؛ حيث انه ضاج بالمعاني ؛ وهو غابة من الابتكارات التي تكتظ وتضج بالدهشة ,
ونحن نرى الكلمات كأفراس تعدو في البرية وتتباها بأنوثتها او غزلان تنثر حبا ومسكا يتلألآ لونها تحت بريق الشمس ؛
او ياسمينة شقراء تغفو على الورق وتترك شذاها للمتلقين او نجدها فراشات أنفاسُها عطرٌ ؛ او فواخت اصواتُها ناياتٌ ؛ او عرائسٌ في كرنفالِ الربيع وفي حقول القمر

وفي ديوانهِ (غابة هايكو )فإن الشاعر سعد جاسم يرسم رؤيته الفلسفية التأملية المتمردة ، ويحرر الزمن من ربقة الوقت ليسافر في المطلق ،
معبراً عن ذاته من خلال الطبيعة الآسرة الخلابة ، محولا تلك الظواهر وتلك الأشياء التي تدور حولنا إلى هايكوات حية مكثفة تعبر عن ذاتها
من خلال بلاغتها اللغوية ،وتجسد مدى شاعرية الشاعر ونقائها و أخلاصها لذاتها الأولى و تماهيها وامتزاجها مع روح الكون و الوجود ؛
وتناغمها مع الطبيعة كموسيقى قيثارة تعزفها الرياح ،و تنشد الخلاص، والانفلات من مدارات رتيبة الى عالم فسيح من الابداع ،
والشاعر سعد جاسم يمنحنا حالة من حرية التأمل والحوار مع الذات بعلاقتها مع الطبيعة ,ان هذه الهايكوات والومضات والقصائد تعبر عن نقاء روح الشاعر.