في ذكرى سقوط جدران برلين – الشبح يحوم


حميد كشكولي
2006 / 11 / 23 - 11:02     

في التاسع من نوفمبر عام 1989 سقط جدار برلين الذي أقيم بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، رمزا فاصلا بين كتلتين ، وحلفين عسكريين سياسيين. وفسّرت البرجوازية هذا السقوط الذي رافق انهيار الكتلة الشرقية ، إعلانا لإنتهاء عالم ذي قطبين مبشّرة ً بعالم حرّ ينعم الجميع فيه بالخير الوفير ، و ستزول فيه كل الحدود. ولم يكتفِ الإعلام البرجوازي بهذا ، بل أعتبرت هذا الحدث نهاية التاريخ والصراع الطبقي، وموت الشيوعية ، واعلانا عن ميلاد نظام عالمي جديد. و طبلت أبواق الراسمالية وهي في حالة تنتشي طعم النصر على غريمها بأنها أبدية ، وأنها تحمل رسالة الحرية للمجتمعات البشرية. واليوم يمر تقريبا عقدان على اعلان النظام العالمي الموعود، و الرأسمالية ظلت إلى اليوم بدون قطب مواجه مستعد للحرب ضدها . و رغم أن الرأسمالية سطت على كل الإمكانيات في استخدام كل المنجزات البشرية ، ألا أنها تدرك أدراكا تاما أنها لا تملك القدرة على التحكم بحياتها وادامتها إلى لا نهاية ، وباتت على دراية أيضا أن الغول النائم سينهض لا محالة لتحطيمها إلى الأبد. وقد كانت مدفعية دعاياتها يصل مداها إلى أقاصي الأرض ,وإلى كل زاوية فيها ، و اضطرت الكثيرين إلى الإستسلام لواقعها ، و أدهشت أعداءها أيضا، لكنها بعد مرور سنين لم يعد كل زعيقها الإعلامي سوى هراء و مبعث سخرية . وقد استغلت الدعاية الرأسمالية الإمبريالية ضعف وهزال أنظمة الكتلة الشرقية ، والوضع الإقتصادي البائس فيها ، وفلبة السوق الحرة الرأسمالية لتملأ الأرض صراخا بأنها انتصرت على الشيوعية والإشتراكية.
لم تكن ثمة من شيوعية ، ولا إشتراكية حقيقية ، بل أن ما انهار كان رأسمالية الدولة ، ,ان ما سقط كان التحريفية والإنحراف. وقد استغلت الإمبريالية هذه الحالة فرصة لمحاربة كل الأفكار التي لا تتلاءم معا ، و تقف عثرات في طريق الإسنغلال والاستثمار .
لكن المجتمع البشري لم يلبث أن كشف زيف الدعاية البرجوازية وبطلانها، وكذب وعودها في الجنان التي سيخلقها للبشر بعد سقوط ما أطلقوا عليه " بالشيوعية" . وإن ما شهد ته البشرية طوال السنين الأخيرة يعتبر من أفظع الفجائع التي سببها النظام الرأسمالي منذ قيامه. لقد أمسى العالم المعاصر ميدانا للهجوم الرأسمالي الفالت على كل المكاسب البشرية التي تحققت في تاريخ المجتمع البشري. وقد تركز كل الجهود والمساعي للمنتصرين الرأسماليين على تكريس سيادة الربح المطلق في ضوء السياسة الإقتصادية اللبرالية، أو اللبرالية الجديدة في كل مجالات الحياة ، والامعان ما أمكن في تسليع كل القيم الخلقية والإنسانية . وتم تجيير كل القوانين لإحداث تغييرات لصالح القوى اليمينية ، وأصبحت الحروب تجارة مربحة . وقد تعرض الإنسان إلى انتهاك حرماته ، والتضييق على حرياته ، وأصبح ضحية التعجيل في المنافسة الجشعة للقوى والشركات الرأسمالية .
ومن مظاهر النظام العالمي الجديد اشتداد العنصرية والطائفية والتطرف القومي والديني الذي تجلى في حروب البلقان وبقاع كثيرة في العالم ، ومآسيها التي عاشها البشر في القتل والمقابر الجماعية وحالات الإغتصاب وغيرها. فالجنة الموعودة اليوم خلقتها الإمبريالية في العراق وأفغانستان والصومال وفلسطين ورواندا و.....
كما قامت الإمبريالية بسرقة قوت الأطفال لكي تغذي ماكنتها الحربية ، وتستمر في حروبها الهمجية على الناس الأبرياء.

الإمبريالية الأمريكية التي توّجت انتصارها في الحرب العالمية الثانية بجريمة ضرب ناكازاكي وهيروشيما بالقنبلة الذرية ، كانت تواجه في فترة الحرب الباردة عدوا أساسيا واحدا، لكنها أصبحت في مواجهة أكثر من منافس في فترة النظام العالمي الجديد التي يمكن تسميتها بالحرب الساخنة.
لقد أصبحت لأوروبا حدود واحدة ، وعملة واحدة وقوانين واحدة. و تخلصت روسيا من الأزمات التي كانت تنتاب أوروبا الشرقية ، وتحولت الصين إلى عملاق اقتصادي إمبريالي بفضل العمل الرخيص و الارتقاع الخيالي المذهل لفائض قيمة العمل. وإن ظلال هذه السوق الحرة الإقتصادية تخيم على جميع منحى الحياة ، وفي كل المجالات الأيديولوجية والدينية والثقافية والفنية.
القومية والفاشستية والدين تقدمت إلى واجهة المسرح ، لتتآزر مع الوسائل الإمبريالية وفي مقدمتها سياسة " فرّق تسُد" للهيمنة على مقدرات الشعوب واذلالها. فإن تمكن النظام العالمي الجديد جدارا من هدم جدار مجازي واحد ، ألا أنه أقام جدرانا حقيقة أخرى تتجلى بأشكال عديدة مختلفة . البشرية نشهد منذ سنوات تمردا على هذا النظام ، واستياء عظيما من سياساته الهمجية ، ويتصاعد النضال في كل أنحاء العالم ضد الحروب الاميريالية والفقر والاضطهاد وانتهاك حقوق الإنسان وحرياته .
لكن ما يؤسف له هو الحضور غير الفعال لليسار الإشتراكي العمالي في كل هذه الفعاليات المناهضة للرأسمالية الامبريالية، وعدم تمكنه من تعبئة الرأي العام ، وصعوبة توضيح جوهر القوى المعادية للعولمة والإمبريالية . لكن رغم كل شئ فالشبح ، شبح الشيوعية ها قد يعود ، يحوم على أوروبا . فثمة اهتمام بالغ من لدن شباب العالم بالأدبيات لماركسية والاشتراكية، ومطالعتها.
وإن ّ اتأثيرات سقوط جدار برلين وصلت إلى العراق باندلاع حرب الخليج وعاصفة الصحراء ، و الحصار الجائر لتجويع شعب العراق . وتستمر هذه التأثيرات إلى اليوم في بروز القوى المرتبطة بالاحتلال وارتباطها بالسوق الامبريالية ، و أزماتها الرأسمالية التي تمتص القوى الطائفية والرجعية المرتبطة بالاحتلال والمقامة الرجعية القومية جزء كبيرا منها.
وقد صدرت الرأسمالية أزماتها إلى العراق، وتجلت في المصائب التي نزلت على أهل العراق في هذه الأجواء السوريالية من قتل و ارهاب و جوع و موت دائم .
لم تعد الرأسمالية اليوم ونظامها العالمي الجديد وعولمتها وديمقراطيتها بقادرة على الهاء الإنسان المعاصر عن النضال في سبيل تحقيق أهدافه في الإشتراكية والسلام والرفاه والحرية، ما دام الشبح يحوم ويحوم في سماء أوروبا و أجزاء أخرى من العالم.