التحرر من أعباء الوظيفة..محور أحداث قصة عرفي للإيجار ل محمد الراوي..سيكولوجيا الكبت النفسي


محمود سلامة محمود الهايشة
2023 / 12 / 27 - 16:46     

نُشرت مجموعة قصص لم تنشر من قبل للكاتب "محمد الراوي" بعنوان "عرفي للإيجار" بجريدة "أخبار الأدب"، الصادرة عن دار أخبار اليوم، العدد (1495)، القاهرة، بتاريخ 20 مارس 2022، ص11-16؛ والتي أعدها للنشر بملف داخل هذا العدد الكاتب شعبان يوسف، وهي تتكون من ستة قصص قصيرة، سوف نتناول هنا بقراءة والتحليل القصة الأولى منهم "عرفي للإيجار" (ص11-12).
تدور أحداث القصة زمانيا في صباح إحدى الأيام، بعد خروج البطل الراوي على المعاش بثلاثة شهور، أما مكانيا في محطة الأتوبيس البولمان، بهدف السفر لأي مدينة آخر للتجول والاستمتاع بالحياة بعد التحرر من قيود الوظيفة التي قضي فيها خمسة وثلاثين سنة، البطل كان في حاجة للترويح عن نفسه بل ومكافأتها، كأنها مكافأة نهاية رحلة العمر، بتغيير الجو والمكان وزيارة بلدة جديدة لم تراها عينه من قبل. وقد رمز الكاتب للمدينة التي سافر إليها البطل بالمدينة "ك" أي اكتفى بالحرف الأول من اسم المدينة، فبحث كثيرا في رأسي حتى اتكهن باسم هذه المدينة فلم أصل إلا لمدن "كفر الشيخ" أو "كفر الزيات" بالطبع المؤلف لا يقصد تلك المدن ذات الطابع الريفي، فقط أحبط أن يطلق مسميات رمزية لي يبعد نفسه عن أي إحراج أو ما شابه، ولكني كقارىء احاول فك رموز وما كان يكمن في نفس وعقل الكاتب أثناء كتابته للنص القصصي، فتفسير المتلقى الناقد صواب يحتمل الخطأ، أو خطأ يحتمل الصواب؛ سير البطل على الأقدام للوصول إلى منطقة الفنادق بوسط المدينة (تقع فى قلبها، فسرت فى » ك« كنت أعرف أن فنادق مدينة شوارعها وفى هذا متعة لى وأنا فى طريقى لوسط المدينة، أستطيع أن أخمن سعر الإقامة بالفندق من شكله الخارجى ومن مدخله وصالة الاستقبال، وكنت أعتمد نوعا ما على حاستى هذه حتى لا يحدث إحراج وأنا أنسحب من الفندق إذا كان سعر الإقامة مكلفاً لى أكثر مما أحتمل وحتى أتفادى نظرة المسئول لى وأنا أعطيه ظهرى خارجاً.)؛ علما بأن البطل الراوي من مدينة "أ" كما رمز لها، ومن الممكن أن تكون "أسوان" أو "أسيوط".
كثيرًا ما قرأنا أن هذه المرحلة السنية في الغرب، هي مرحلة "السعادة" للشخص، الذي يتخلص من أعباء العمل، بل غالبا ما يكون هناك العديد من الخطط التي يعدها لمثل هذه المرحلة من العمر، كالسياحة حول العالم، أو ممارسة هوايته التي ربما حرم منها لانشغاله في العمل، أو ممارسة نشاط اجتماعي يقضى على وقت فراغه ويكون له دور في المجتمع والمشاركة به، وربما يتفرغ لملاعبة الأحفاد؛ وهذا بالفعل ما خطط له ونفذه بالفعل بطل قصة "عرفي للإيجار" لمحمد الراوي: (قررت صباح يوم أن أحزم حقيبتى وأسافر إلى أى مدينة أخرى، كنت أحب مشاهدة الأمكنة التى لم أرها من قبل ولم تشبع منها عيناى فالمدن كالكائنات فى الوجود وأنا أحب أن أراها. كنت ألاحظ فى بلدتى أى تغيير يطرأ عليها سواء فى الشكل أو الاتساع أو الاختفاء أو الجديد الذى يبزغ فجأة ككائن جديد يأتى إلى هذا العالم فيغّير خريطة الشكل وجغرافية المكان، وكانت هذه فرصتى خاصة بعد أن تخلصت من أعباء الوظيفة التى أكلت من عمرى خمسة وثلاثين عاماً)؛ يبدأ الرجل الذي بلغ سن المعاش في الشعور بالفراغ.
هل صحيح أحيانا يتصرف الإنسان بدون تفكير؟! (طال وقوفى وأنا أسال نفسى لماذا لا أجرب هذه الغرفة التى تُعلن عن نفسها بأنها للإيجار، غرفة للإيجار يعنى أنها مفروشة، أو هكذا أتصور، وجدت نفسى أدخل البيت وأصعد سلالمه حتى الدور الثانى، وهذا كان واحداً من تصرفاتى التى لا أتمكن من التكهن بها قبل حدوثها، فهى تحدث فى حينها وأنا منساق وراءها.)؛ وكما صعد للشقة سريعا دون تفكير طويل، أيضا وافق على الزواج العرفي لمدة أسبوع، أيضا بعد حوار بينه وبينه صاحبة الشقة، بعد حوار لم يدم أكثرة من دقيقة أو دقيقتين على الأكثر.
يتميز أسلوب الكاتب "محمد الراوي" بالانسيابية، لدرجة غير معقولة، حيث تبدأ في قرأت الفقرة السردية، فتتفاجأ بانتهائها، كالماء المنحدر من أعلى جبل، السقوط الحر. جعل الكاتب البطل الراوي يسامر نفسه حتى وصل إلى أن صعد سلم البيت (وجدت نفسى أدخل البيت وأصعد سلالمه حتى الدور الثانى، وهذا كان واحداً من تصرفاتى التى لا أتمكن من التكهن بها قبل حدوثها، فهى تحدث فى حينها وأنا منساق وراءها.)؛ وتعد تلك اللحظة نقطة فارقة في أحداث القصة، إذا ظهرت بطلة كشخصية جديدة، بدأ البطل يصفها من حيث الأبعاد الجسدية والشكلية، بالإضافة لوصف الشقة التي تسكنها، فهي امرأة مبتسمة، عمرها تقريبا خمسة وثلاثين طبقا لرؤية البطل، ولكنها وأثناء ناقشهما بعد ذلك أخبرته بأن عمرها خمسة وعشرين، وكانت متزوجه من رجل في الثمانين ثم مات، ترتدي بنطلون يميل إلى الخضار وتى شرت أسود، شعر ملموم خلف رأسها أظهر عنقها وجزءاً من صدرها شديد البياض، خريجة جامعية.
يمكننا عنونة الجزء التالي من تلك القصة بي (طرقعة شبشب وغرفة للإيجار)، وقد دار بينه وبينها حوار، هي تطرح الأسئلة وهو يجيبها، وقد استخدام الكاتب اللغة العربية الفصحى في ذاك الحوار كباقي متن القصة التي كتبت هي الأخرى بالفصحى؛ ذكر المؤلف على لسان البطل الراوي "طرقعة الشبشب" مرتين، المرة الأولى مرتبطة باب الشقة، والثانية بباب الغرفة [(ضغطت على زر الجرس وابتعدتُ خطوة عن باب الشقة، سمعت طرقعة شبشب تقترب من الباب الذى انفتح عن آخره)؛ (سمعت طرقعة الشبشب ثم ظهرت المرأة من خلف ستار وجلست قبالتى وهى تكرر أهلاً)].
من أهم أدوات القاص امتلاكه لفنون السرد، وعلى رأسها الحبكة القصصية والمفارقة، وقد فعلها "محمد الراوي"، فالبطل الذي تخطى الستين من عمره وخرج على المعاش رأي هو يبحث عن فندق بإحدى شوارع وسط مدينة "ك" [فجأة توقفت والحقيبة فى يدى المشدودة لأسفل وعنقى يحمل رأساً عالياً وأنا طالع غير مصدق نفسى باليافطة القديمة التى كنا نراها معلقة على جدران البيوت)غرفة أو شقة للإيجار(... حبلان قصيران متدليان من نافذة بالدور الثانى يحملان يافطة.. من الكرتون والحروف السوداء ) غرفة للإيجار(.]؛ وبعد أن دخل الشقة وجلس ودار بينه وبين صاحبيتها ناقش ردت عليه قائلة [طبعاً.. الإعلان عن عرفى للإيجار]؛ أسقطت في يده؛ ليكشف بعد ناقش وحوار مطول معها بأن الزواج العرفي عمل مقابل أجر، عملاً وليس دعارة.
طرح فانتازي جدا لإشكالية الزواج العرفي المقنن، خدمة فندقة شاملة ضريبية المبيعات، (ضريبة مبيعات؟! - عملنا عبارة عن خدمة تخضع لضريبة المبيعات، سأعفيك من دفعها وسأعتبر المائة جنيهاً شاملة الضريبة نظراً لأنها المرة الأولى لك ولن أكلفك سوى طعام الغداء والعشاء.. قل إنك موافق وضع نقودك على الترابيزة حتى آخذ إجراءاتى وأستعد.)!!؛ فهو عملاً مرخصاً وقانونياً مقنناً، بالفعل جعلته يوقع في إحدى وريقات دفتر سجل ضريبية المبيعات، فخلال دقائق من الاتفاق بين الطرفين، والتوقيع على ورقة صار هو زوجا لها لمدة أسبوع من الآن عرفياً، برغم أنه متزوج مما يدل على أنه كان في رغبة لهذا الزواج، مما يدل على أن لديه نوعا من الكبت النفسي والجنسي؛ والدليل على ذاك الكبت ما قاله البطل (أنا متزوج لكنى لم أصعد إلى هنا لهذا العرفى الذى تعلنين عنه.. هى أيام وأعود إلى بلدى.) وبعد دقائق بسيطة من عرضها له عن ما سوف يدفعه مقابل هذا الزواج الذي سيستمر لأسبوع واحد (قالت له: قل إنك موافق وضع نقودك على الترابيزة حتى آخذ إجراءاتى وأستعد..؛ فرد قائلا: موافق). وحين يتقاعد الزوج ويصبح لديه كثير من أوقات الفراغ، يتدخل في شؤون المنزل، بشكل ربما يسبب المشاكل والحساسية بين الأزواج والأسرة، التي لم تعتد على وجوده كثيراً بينها، فهل يعوض تدخله الجديد عقدة غيابه عن البيت، أم يتطلب الأمر جهوداً أكبر (بعد مرور ثلاثة أشهر من تاريخ خروجى على المعاش،...).
ومن المحات الجميلة داخل الحوار القصصي لدى الكاتب "محمد الراوي" بأنه جعل البطل الستيني يصف ملابس المرأة صاحبة الشقة بينه وبين نفسه، وجعلها هي تصف ماذا يرتدي البطل عند الرد عليه (قميص ملون كاروهات وبنطلون مضبوط وحذاء نظيف..). أن الرجل "المصرى" الذى يحال إلى المعاش، غالبا ما يشعر بحالة من الاكتئاب تعرف باكتئاب ما بعد المعاش لأسباب مادية وأخرى نفسية؛ واعتقد أن البطل لم يصب بهذا الاكتئاب، وذلك من مظهره الخارجي وطريقة ملبسه كما جاء على لسان المرأة صاحبة البيت (إذن إحساسك بنفسك ونظرتك إلى الحياة.. هناك نوعية من ذوى المعاشات يتحولون إلى بهاليل وينتظرون الموت.. يهملون أنفسهم وكأنهم فعلوا ما يجب عليهم أن يفعلوه فى حياتهم..)؛ ترتبط كلمة «التقاعد» في نفوس أغلبية البشر بمشاعر سلبية غير مرغوبة، إذ يمثل مشكلة نفسية حقيقية خصوصاً لمن اعتاد على العمل المتواصل الذي يبقيه بعيداً عن مجريات الأمور في بيته في معظم الأوقات..
استطاع الكاتب محمد الراوي الغوص في أعماق نفسية البطل، ورسم أبعاد الشخصية النفسية في الاتصال مع النفس والبيئة المحيطة من شخوص وأماكن، فجميع الأشياء تدور في فلك شخصية البطل الراوي بقصة "عرفي للإيجار".