هلع الدموع


مأمون ىأحمد مصطفى زيدان
2023 / 12 / 25 - 13:45     

هـلـع
الدمـوع

تقدمْ أيها الطفلُ نحوي، اِغمِسْ ذاتَك بدمي، بروحي المشدودة على أوتار الحيرة والسهوم والانْشِداه، تقدمْ هنا، وأشعلني ككبريت الثقاب المتلاشي من الوهج والضياء، ولا تتردد، دع خطواتك تنغرس في الأرض انغراس الزيتون المُعَمّر، وربما كانغراس السِّندِيان والجوز والرمان، تحركْ كموج "حيفا" و"يافا" و"بيسان"، واخترقْ الرؤى كعاصفة "الطنطوره" و"عيون قارة"، طهرْني بصفاء دمعك من أدران الهزيمة والاستسلام، اِغسِلْني من عَفَنِ العجز الراقد بتكويني كشلال تجمدت مياهه.

أنت أيها الملاك الفلسطيني القادم من رحم الأم إلى رحم الطفولة المخدوشة بشظايا الرصاص والمدافع والقذائف، أنت أيها الطفل المَحْشُوُّ بالجثث والدماء والأشلاء والرعب والدموع، أنت أيها الطفل الموزَّعُ بين الرعب والرعب والخوف، والخوف.

رأيتك اليوم، والبارحة، وقبل أيام وأيام، قبل سنوات وسنوات، قبل عهود وعهود، تتناثر هنا بقايا من حسرة، وهناك بقايا لوعة، تمر من بين الأزمان والعصور "فِينِقًا" "وعنقاء"، تنبعث من غبار الرماد المنتشر في الأجواء، كشهيد متجدد الحيَوَاتِ والأرواح، تعرف معنى الصعود إلى عِلِّيِّين، ثم تعود إلى الموج الصاخب بالهدير، لتهاجر في ذرّات الرمل المتحولة من شكل الأرض إلى شكل الوطن، لتتوزع رحلة نور بأعماق شمس الحرية التي تلف فلسطين، كأرض نابتة من وطن الوَسَنِ المرسوم فوق جفنيك المعقودين على تيارات الزمن والوجود، المتصل بالسرمدية والبقاء.

رأيتك يوما وأنا أعبر لحظات الموت والفناء، من بين زخّات الرصاص وشظايا القذائف، وحِمَم الطائرات، رأيتك تقف بأسْمالِ الفقر المزروع فينا إلى حدود الروح والفؤاد، على ناصية رصيف مُزِّقَتْ أحشاؤه إلى أشلاء، وتناثرت حجارته هنا وهناك، رأيتك يومها، وأنت غارق فيما لا يعرف الناس عنه شيئا.

أكان عليَّ أن أقف يومها لألتقط الوميض الناهض من عينيك المذهولتين المصعوقتين رعبا وهلعا؟ أم كان علي أن أقف لأرى الدموع وهي تتزاحم كدفق يُفَجِّرُ حاجزا، فيندفع بجنون اللحظة المندفعة من أعماقه بقوة مَجَمَّعَة مضغوطة؟

شاهدتك يومها، وقد رسم الوجوم كل انهيارات السقوط المُلَفَّع بمفردات الثقافة والفكر والأدب، كنتَ تبحث بين الجذوع المخلوعة كالفؤاد المخلوع من جوف طفولتك العابقة برائحة الموت والرصاص والكبريت، عن لحظة دفء يمكن أن تأتي من قاع الجوار المرصوص بالجدران والأسلاك والبنادق، كنت تبحث في وجوه الرمل الموزع بين حدين من زمن بعيد.

فماذا وجدت؟

لم تجد غير وجه ممصوص مَمْجُوج، فيه علامات تعرفها أنتَ، وفيه نقاط واضحة الملمس، قال: إنه سَيَكْسِرُ قدمَيْ والِدِكَ، وربما والدَتِك وأختِك، إنْ فَكَّرَ أحدُهما أن يحمل لوعتك وحسرتك من حدِّ الموت إلى حد الحياة، وصدِّقْني إنه قادر على ذلك، أكثر من قدرتك على ذرف الهول والانبهار والفجيعة، هو قادر على سحق أمك وأختك، والدك وعمك، لكنه لا يملك قدرة سحق نملة تعيش في كنف محاصرك، بل ولا يملك قدرة أن يَنُشَّ بعوضة.

تجهزْ أيها الطفلُ المنبعثُ من دماء الشهداء، لمرحلة لا يمكن لعقلك أو قلبك أو رؤاك أن تتخيلها أو تناديها بحلم نوم أو يقظة، تجهز يا عمقا قادرا على النهوض من بين كلماتنا المغادرة خوفا، إلى مفردات البطل القادر على تكسير عظام اهلك وربعك، تجهز للهجرة من مرحلة الوجوم إلى مرحلة الاختناق.

وانبِشْ قَطَراتِ دَمِ والدِكَ الذي الْتَهَمَتْهُ قذائف الدبابات والمصفحات، اِنْبِشْ روحَ والدتك التي وقفتْ على الحد الفاصل بين الموت والحياة وهي تتحسس قدميها قبل أن تحاول دَوْسَ الخطوة الأخيرة التي ستقودها إلى البطل، بطل العصر الذي نحيا، البطل القادر على تكسير أقدام الضعفاء والمظلومين، بعزم وعزيمة، البطل القادر على منع الأمهات من الحصول على حليب الحياة والوجود للرُّضَّعِ المحمولين على أكفان بطولة ذاك الوجه الخارج من سَخام العار ورذيلة الهزيمة.

اِرفعْ نعلك للأعلى، لا تخشَ، فالنعل أسمى في هذا الزمن من عَلَم أو راية، أغلى من روح ودَفْق، دعْ نعلك يصنع بطولة سابقة لبطولة القدم المنذورة للكسر، فأنت وحدك من يملك الحق للصراخ والتلويح بزمن الهزيمة بكل ما يحمل نعلك المثقب والممرغ بوحل الأرض والدماء المسفوحة صراخا يمكنه أن يهز تلك الوجوه القادرة على سحق آمالك وأمانيك المتمحورة بحق الحياة والوجود.
أيها الطفلُ المغموسُ بالدم والعذاب والذهول، نحن لا نملك إلا أن ننحني لقامتك الصغيرة الطرية، انحناء العاجز المقهور، أمام عظمة الصبر والصمود الخارجة من رَحِمِ أُمٍّ خَطَتْ بقدميها المباركتين الحدود وهي تعلم بأن هناك من يقف لتحطيمهما وسحقهما.

عَلِّمْنا أيها الطفلُ، كيف نتحول من رجال، إلى أطفال يحملون ما تحمل من براءة القوة والصمود والبقاء، حَرِّرْنا من رجولة المفردات والكلمات والصفحات، وحررهم من سَخام العار ورذيلة الهزيمة.

مأمون أحمد مصطفى
فلسطين – مخيم طول كرم
النرويج: 10- 02- 2008