نوال السعداوي : أعظم مفكرة مصرية.


طارق حجي
2023 / 12 / 23 - 20:16     

يعرف كثيرون ولعي بالعظيمةِ ميّ زيادة. ومعظمهم يظنون أنني لو سؤلت عن أهمِ المفكراتِ اللائي كتبن بالعربية خلال القرنين الأخيرين فسأقول : ميّ زيادة. ولكنني فى الحقيقةِ سأقول : نوال السعداوي. فهى كانت أقوى القلاع الفكرية والثقافية والأدبية المدافعة عن التفكيرِ العلمي وعن الحداثةِ وعن حقوقِ المرأة ككائنٍ كامل الإنسانية ولا يقل ذرة عن الرجلِ. وقد كانت نوال السعداوي تمارس هذه المهمة الإنسانية الجليلة على الدوامِ بشخصيّتها وكتاباتها ومواقفها وأحاديثِها. ولولا ذلك لما كانت صدمتها لمجتمعِها بتلك القوة. فهى وقفت أمام معظمِ بؤرِ الرجعيةِ والماضاوية والسلبيةِ والتخلفِ وقالت وكتبت ما زلزل من ينظرون لتلك البؤرِ كمسلماتٍ وأحياناً كمقدساتٍ. ويكفي إستعراض أهم مواقفها الفكرية لإدراك الحجم المهول لما قامت به. فقد إنتقدت بجسارةٍ لا نظير لها الدور الفوقي للذكورِ على الإناث بكل تجليات هذا الدور. وهى حاربت ظواهراً تجسد النظرة المجتمعية الذكورية للمرأة ككائن موجود لخدمة ومتعة الذكور. ومنذ ظهرت على المسرح الثقافي المصري وهى خصم قوي وعنيد للذهنية الذكورية التى لازمت حياة البشر منذ بدايتها وشاركت فى توطيدها المؤسسات السياسية والدينية والتى جعلت السماء شريكة فى تأصيل ودعم الذكورية بل وتشريع دونية المرأة. والمتأمل لمسيرة حياة نوال السعداوي يري ثلاث ظواهر قوية : الظاهرة الأولى ، هى الصدمة التى أحدثتها بفكرها وكتاباتها وأحاديثها داخل مجتمعها المصري. وكانت المؤسسة الدينية الإسلامية فى طليعة مناؤيها ومحاربة أفكارها. وهو ما يشهد لها وليس عليها. الظاهرة الثانية ، حدوث تقدير وإجلال كبيرين لها فى المجتمعات الأكثر تقدماً. الظاهرة الثالثة ، ذيوع وشيوع خوف كبير من أفكارها فى عددٍ من المجتمعات وفى مقدمتها مجتمعها المصري منذ صدر أول كتاب لها فى سنة 1957 وطيلة حياتها. ومؤلفات نوال السعداوي رغم تنوع طبيعتها : من قصص قصيرة لروايات لمذكرات لكتابات فكرية واصلت التسبب فى هذا الخوف بل الرعب من تأثيرها على العقول بوجه عام وعقول البنات والسيدات بوجه خاص. ويكفي مراجعة بعض عناوين عددٍ من مؤلفاتِها لإدراكِ قوة "الصدمات النوالية" : المرأة هى الأصل ، تؤام السلطة والجنس ، الوجه العاري للمرأة العربية ، قضايا المرأة والفكر والسياسة ، كسر الحدود ، عن المرأة … إلخ فهى عناوين عرف حماةُ المنظومةِ الذكوريةِ وأتباعهم مابها وأهدافها فشنوا عليها ما لم يسبق شنه على أديبٍ أو كانبٍ أو مؤلفٍ. حتى الهجوم الذى تعرض له طه حسين عندما أصدر كتابَه "الشعر الجاهلي" منذ أقل قليلاً من مائةِ سنة ، لا يُقارن بما تعرضت له نوال السعداوي منذ ظهرت على خشبة المسرح الثقافي المصري فى منتصف خمسينيات القرنِ الماضي. ولإدراك تأثير نوال السعداوي الكبير ثقافياً وفكرياً وإجتماعياً لننظر لجريمةِ ختانِ البنات. فبعد أكثر من أربعين سنة من الحملةِ التى بدأتها سنة 1972 ضد هذه الجريمة ومناداتها بضرورةِ تجريمِ ختانِ الإناث ، قامت الحكومةُ المصرية بتعديل قانون العقوبات لتقريرِ عقوبة رادعة حيال ختان الإناث. ورغم كثرة من نادوا بهذا التجريم فلاشك أن نوالَ السعداوي ومنذ سنة 1972 كانت البطلةَ الأولى لهذه المعركة. ولاشيء يجسد العقلية الذكورية وخوفها من المرأة مثل موضوع الختان. بل ويجسد نظرتهم للإنسانِ كحيوانٍ همجي لا يهذب فكرياً وثقافياً وإنما يُلجم فيزيقياً !!

وتعرية نوال السعداوي للعقليةِ الذكوريةِ سارت بمحاذاتِه تعريتُها للإستبدادِ السياسي (وبين الإثنين علاقة جدلية مؤكدة). وقد توجت مواقفُها من الإستبدادِ السياسي بإصدارِ رئيس مِصْرَ الأسبق أنور السادات يوم 6 سبتمبر 1981 قراراً بإعتقالِها … ولعل ميزة هذا القرار الوحيدة أنه كان دافعَها لكتابةِ "مذكراتي فى سجن النساء" وهو من الروائعِ الأدبية.

ومما أثار دهشتى الممزوجة بكثيرٍ من الإستياءِ ، الفارق الكبير بين الجوائزِ العالمية المرموقة التى حصلت عليها نوال السعداوي من عددٍ غير قليلٍ من الدول الأكثر تقدماً والجوائزِ القليلة جداً التى حصلت عليها من الدولِ الناطقةِ بالعربيةِ بما فيها مصر. وهو ما يشير للموقفُ الرجعي للنظمِ السياسية فى هذه البلدان والتى لا تختلف كثيراً عن موقفِ المؤسساتِ الدينية التى إعتبرت نوالاً كأحدِ أخطرِ خصومها. وأذكرُ أنني كنتُ بمحضِ المصادفة فى ستوكهولم (فى سنة 2012) عندما أُعلن عن منح السويد جائزتها الثقافية القيمة ستيج داجيرمان لنوال السعداوي. يومها كنت أتعشى مع أميرٍ سويدي ذي إهتمامات معروفة بالثقافةِ. ليلتها سألني الأميرُ السويدي عن أهمِ جائزة مصرية. فلما أجبتُه قال : أكيد أن مِصْرَ منحتها جائزتها الكبرى هذه ! فقلت له (غير صادقٍ) : فى الحقيقةِ لا أعرف !

ومن المهم جداً أن أذكر أنني سعدتُ بمعرفةِ العظيمة نوال السعداوي معرفة شخصية وجمعتنا صداقةٌ لقرابةِ ربع قرنِ. وأشهدُ أن نوالَ الإنسانة هى نوال المفكرة ، وأنها صورةٌ طبق الأصل من الأفكارِ والقيمِ التى دعت لها فى كتاباتِها.

ولا يساورني شكٌ فى أن ذعرَ كثيرين فى مِصْرَ وعددٍ من المجتمعاتِ ذات الأغلبية المسلمة من أفكارِ نوال السعداوي هو بسبب أنها لم تكن تمسك العصا من المنتصفِ. فهى نصيرةُ العقل والعلم والحداثة وحقوق المرأة بقوةٍ وبشدةٍ وبمنتهى اللامبالاة برد فعلِ خصومِ أفكارِها وهم ملايين العاديين من جمهورِ مجتمعاتٍ غير متقدمة وذات موروثٍ ثقافي وإجتماعي شديد الماضوية. ولا يساورني شكٌ أيضاً أن الفجوةَ والجفوةَ الكائنة بين نوال السعداوي وكثيرين فى مجتمعها تشهد لها وتشهد عليهم.

وواضحٌ للقاريءِ أنني فصدتُ أن أكتب عن أعظمِ مفكرة مصرية فى زمانِها بمنهجٍ يجتمع فيه الموضوعي objective بالذاتي subjective …