الأسئلة الفلسفية في قصيدة (زمن قميء) للشاعر أحمد مانع الركابي


داود السلمان
2023 / 12 / 19 - 16:13     

كيف يصنع الشاعر الصورة الشعرية؟؛ وكيف يختار المفردات المناسبة، لنصه الشعري، بل كيف يشطح الخيال به وهو يوغل في رسم ملامح القصيدة (نصه الشعري)، ويفصّل لها الهندام الجميل المناسب الذي يليق بها؛ كجنس فني عال المستوى، على اعتبار أن القصيدة تمثل انعكاسًا لإبداعه وذوقه، وثقافته العامة في فلسفة الشعر، ولأنّ الشعر هو أيضًا فلسفة ترتكز على: (منطق وصورة وخيال، وحس ابداعي فذ، يحتاج إلى من يصيغه بصيّغ تليق به، كونه نتاج: فكري وذهني، وخيالي معًا). لهذا نجد الفارق كبير بين مبدع وآخر، بين من يجيد تطويع المفردات، واختيار الصورة، وتركيب تلك المفردات بإيقاعها المناسب؛ وبين مَن لا يجيد ذلك، فيخفق أو ينكص، بمعنى هو ينظم الشعر، بلا روحية، لا يرسمه كما تُرسل اللوحة التشكيلية من لدُن فنان بارع.
يقول الشاعر أحمد مانع الركابي في قصيدته " زمن قميء":
تمهلْ أيّها الزمنُ القميءُ
علامــكَ بتّ في عجلٍ تجيءُ
أما تدري عقاربكَ المعاني
بها الأوقاتُ ما عادتْ تضيءُ

ويحق لنا، وفق النظرية التي جعلناها كمدخل، أن نُعد هذا جزءًا مما ذكرناه في المقدمة، إذ نرى الشاعر الركابي، كيف أختار كلماته ومفرداته؟، وكيف صاغ من ذلك صور، هي في الوقت ذاته، مدخلا يستهل به قصيدته، ويصبها في قالب فضفاض، يتسع لحرية النص أن يتحرك بسلاسة وبحرية كاملتين، وبفضاء متسع لجعل المفردات تنساب متماهية، وهي تعطي المعاني الجزيلة، لما طوّع لها أن تسير بدون معرقلات أو اعاقات، مستغلة ذلك الفضاء لتعبّر عن نبل إنساني مأخوذ بحبكة جمالية.
"عقاربكَ المعاني ... ما عادتْ تضيءُ". فهذا بوح لما يريد أن يجود به الشاعر عن مكنون من نطع الزمان لأفراحنا، التي قُبرت في مهدها حتى عشنا أوقاتنا هذه: بمحن ومآسي، ومصائب لا نظير لها، من قسوة الزمن هذا الذي تغيرت فيه أشيائنا الجميلة، فتحولت إلى نكد وشجن، بعد أن كانت تشيع فيها البهجة والسرور، وبالتالي تحوّل الضياء الى ظلام دامس، وصرنا نبكي أيامنا الخوالي.
"نسيرُ مع الحياةِ وليس ندري
بأنّ مســـــــيرها موتٌ بطيءُ"
لعلَّ الإنسان هو الوحيد الذي، دائما ما يشكو الزمن، ويحير في لغز الحياة وتفسيرها، والسبب أنّه يدرك ويعي (وهذه هي الطامة) ما وراء ذلك من نتائج هي ليست من صالحه، ولا من مصلحته، فهو يشقى بسبب الادراك والوعي، وبرغم أنّه لا يستطيع أن يُغير شيء من واقع حياته، وهو يعلم أن ما يجري عليه فوق طاقته، مع ذلك يشكو ويتظلم (وهي حالة طبيعية في الانسان هذا لخصال تمن فيه) لأنّ حجم المأساة كبير، أكبر مما يتصور الآخرين. وليس هذا فحسب؛ بل:
"ستسلبنا الطفولةَ حين نغدو
كبارا عمرنا عمرٌ هريءُ
فلا لعبٌ هنــــــاكَ ولا أغانٍ
بها الكلماتُ والمعنى بريءُ"
يأتي المولود إلى الحياة – الوجود، فنفرح به وتنشرح اساريرنا، بهجة وأفراحًا، مبتسمين للضيف الجديد الذي حلَّ في بروعنا؛ ثم تبدء المعاناة، رويدًا رويدًا، وكلما كبر، هذا الضيف، كلما تكبر معه، الآلام والأشجان وتحديات الحياة، وتتسع رقعة المحنة، اكثر مما نتوقع (جنين، طفولة، مراهقة، شباب، بلوغ، كهولة، موت) ثم وراء الموت لا نعلم شيئا؛ لماذا جئنا؟ ماذا فعلنا؟ ولِمَ جئنا أساسا؟، وأين سيؤول بعد ذلك أمرنا، أنها دوامة لا ندرك سرها، ولا نعي فلسفتها. الشاعر في هذين البيتين أعطى خلاصة التساؤلات الفلسفية كلها، ودع القارئ في لجة الحيرة.
"لقد كنّا برغم الــعوزِ نحيا
حيـــاةً جيـــــــبنا فيها مـــليءُ
كأبناء الملوكِ وربّ أرقى
بظلٍّ عيـــــشهُ جدا هنــيءُ"
العوز والفقر هما من أصعب المحن التي تذل المرء، وتودي به إلى الخنوع الهوان؛ وساعتها يتمنى الإنسان الموت، والخروج من قمقم الحياة و خداعها، ولا أن تمر عليه لحظة ذل يلاقي فيها النصب والهوان. ربما كان بعض الناس في طفولتهم، عاشوا عيشة هانئة مطمئنة، كعيشة ابناء الملوك، لكن، عندما تعصف بهم ظروف المحن، تنقلب حياتهم رأسا على عقب، تصبح جحيما، وهذه هي حال الدنيا.
يربط الشاعر بين الأمس واليوم، ويعمل مقارنة في ذلك، مستغربا مما يجري وما يدور من وضع مزري، وبالتالي يستشف بأن تلك أسباب طبيعية في دورة الحياة، فيجب عليه أن يعيشها على علاتها، شاء ذلك أم أبى.
"ولكن عندما زادت خطانا
رأينا الــــــدهرَ والدنيا تسـيءُ
وحين مسافةَ الأفكارِ سرنا
تجـلى ذلك الــــــمعنى الخــبيءُ"
وربما يتجلى ذلك، بعد فوات الأوان، أي حين يسير بنا قطار العمر، واصبحت حياتنا ليس لها معنى، حيث ننتظر الموت الذي هو المحطة الأخيرة، فلا نأسى على شيء فاتنا.
وأنا اعتقد أنّ هذه القصيدة هي قصيدة فلسفية، أختصر فيها الشاعر مدارج حياتنا: من الولادة إلى الممات؛ والحياة بكل مراحلها، وصاغ ذلك بهذه الابيات. والحقيقة أنّ الأمر يحتاج إلى كتاب كامل، لكي نترجم الحياة ومآسيها، لو أردنا أن نبحث عن أطوار الحياة وفيها، وما يترتب عليها من لوعة ومرارة.
"محطاتُ الحياةِ لنا كتـــابٌ
تدوّن أيّنا فيها المضــــــــــيءُ
ولا يبدي الحقائقَ غير دهرٍ
يسيرُ بسيـــــــــرهِ زمنٌ قمــيءُ"
وفعلا، الحياة فيها محطات مدونة في كتاب، الكتاب يقرأه الجميع، لكنهم لم يتعظوا، ولا يأخذوا دروس وعِبر، فيستغلونها بالخير وبالحسنى.
"فلولا الشرُ لم نعشقْ لخـيرٍ
ولولا الخـــــيرُ ما احتـقرَ البذيءُ"
وهذا هو مربط الفرس. والحقيقة، أن موضوع الخير والشّر، موضوع كبير تصدى له العديد من الفلاسفة، أي منذ فجر الفلسفة وإلى يومنا هذا، وهذه ثنائية كانت وماتزال وبأشكال متعددة، تُطرح وتجد من يُجيب بإجابات مختلفة.
يقول ابو العتاهية بهذا الصدد:
الْــخَــيْــرُ وَالــشَّــرُّ عَــادَاتٌ وَأَهْــوَاءُ
وَقَــدْ يَــكُــونُ مِــنَ الْأَحْـبَـابِ أَعْـدَاءُ
لِلْـحِـلْـمِ شَـاهِدُ صِدْقٍ حِينَ مَا غَضَبٌ
وَلِلْــحَــلِــيـمِ عَـنِ الْـعَـوْرَاتِ إِغْـضَـاءُ
كُـلٌّ لَـهُ سَـعْـيُـهُ وَالـسَّـعْـيُ مُـخْـتَـلِفٌ
وَكُـلُّ نَـفْـسٍ لَـهَـا فِـي سَـعْـيِـهَـا شَـاءُ
لِـــكُـــلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ عِـــنْـــدَ عَـــالِـــمِــهِ
مَـنْ لَـمْ يَـكُـنْ عَـالِـمًـا لَمْ يَدْرِ مَا الدَّاءُ

ويختم شاعرنا الركابي، قصيدته بهذا البيت التالي، وهو مربط الفرس والخاتمة التي لخص كل ما يرد قوله.
"ففلسفةُ الحياةِ تظلّ لغــــــزا
يحاولُ حلّــهُ الفــــــــــكرُ الجريءُ"
يتفق الشاعر الركابي مع العديد من الفلاسفة، بأن الحياة لغز حيّر، إذ حيّر المفكرين والباحثين- قديما وحديثا – والنتيجة، إنهم لم يتوصلوا إلى إنّ الحياة كيف انبثقت، وكيف تكونت، فعلى رغم بأن داروين، في نظريته المعروفة، قد عالج كثير من القضايا المدلهمة، في فلسفة الحياة وتطورها؛ إلّا أن هناك قضايا كثيرة يشوبها الغموض وعدم وضوح الرؤية، ولا نُريد هنا في هذه العجالة، أن نسلط الضوء على معظم ما جاء في نظرية التطور الداروينية.
لكن الذي نريد أن نتفق به مع الشاعر، وأن نشاطره الرأي، بأن الحياة لغز كبير؛ ذلك من كونها غير واضحة الرؤية، لأن الحياة دورة كاملة تبدأ منذ الولادة وتنتهي بالموت، والإنسان الذي يقطع هذه المراحل من الحياة، بقدر العمر الذي يعيشه، وهو متفاوت، إذ فيه غبن كبير، فبعض البشر يتجاوز عمره التسعين عاما، وآخر يموت في ريعان الشباب، بل يموت الكثير من المواليد الجديدة في لحظة الولادة؛ وآخرين يموتون بحوادث متعددة. هذا الأمر يجعلنا أن نطرح الف سؤال وسؤال.