تأثيل الكلام عن تلازم إصلاح الدين وإصلاح الدولة


المنصور جعفر
2023 / 12 / 10 - 02:47     

ايمثل هذا النص بداية تاثيل للخطاب الخطأ الشائع عن تلازم مستدام بين إصلاح التدين وإصلاح الدولة.


1. من تاريخ تكون وهيمنة الافكار والعقائد:

(أ) المجتمع أساس التفكير الاجتماعي:
اذا اشتغلنا على تأريخ تكون وتهيمن الأفكار /الاعتقادات في المجتمعات نجد ان خطاب ربط التنمية والديانة خطاب إنفعالي مختل لأن هيمنة أي اعتقاد في مجتمع ما مرتبطة جذراً بتطور تلبية حاجات في حياة المجتمع وصراعات قواه تطوراً تتجلى معالمه للباحث عند محاولته معرفة تاريخ هيمنة فكرة أو إعتقاد في المجتمع وذلك بعثوره على علامات تدل إلى/على قيام قوة في ذلك المجتمع بإستعمال فكرة أو عقيدة أو إتجاه عقلاني أو تنظير علماني أو إجتماعي كأداة لتلبية حاجتها للسيطرة وتفعيل سياستها.


(ب) جانبان مهمان في كل فكرة واعتقاد:
في سياق معرفة طبيعة تكون الأفكار والاعتقادات وبداية هيمنتها لو بحثنا في تاريخ/طبيعة أي إعتقاد وهيمنته غالباً ما نجد في ذلك التاريخ - كما في تاريخ/طبيعة كل الكائنات الذهنية- نجد جوانباً شتى أهمها إجتماعياً وثقافياً وسياسياً في بعض التصنيفات الفكرية حانبين متميزين متفاعلين: جانب ميثولوجي وجانب آيديولوجي. ونجد لهما ارتباط بأهم صراعات مجتمعات الضرورة وهو صراع المعيشة/الصراع الطبقي، وديالكتيكاً لا يتوقف الجانبان الميثولوجي والايديولوجي عن التفاعل مع بعضهما ومع جوانب الحياة المحيطة بهما وتبادل التأثير والتأثر معها.

من ثم بحدوث التغيرات الفكرية والمجتمعية خلال فترات طويلة تتجاوز مئات و ألوف السنين فإن التغير البطيء لوجوه أو أشكال بعض الأفكار والإعتقادات وتغير وجوه الحياة، بشدة بطئه يمنع المؤرخ الضيق المنظار /الرؤية من إدراك دقيق لبداية وإتجاه التغيرات التي تحدثها تفاعلات الجانبين الميثولوجي والآيديولوجي مع بعضهما ومع أجزاء من حياة المجتمع. كما يعجز الباحث بالمنظار الضعيف عن إدراك كثير من التغيرات المرتبطة بهذين الجانبين الميثولوجي والايديولوجي ويجهل معالم تغيرات تاريخ وطبيعة البنية الذهنية الكبرى التي تضم الفكرة المشتركة أو الجامعة للجانبين أو عقيدتهم المهيمنة. اي البنية المواشجة لوجود وانتقال صراعات المجتمع/الإنسان من حال الحاجة إلى تأمين أوليات المعيشة وضروراتها بداية بالضبط الفكري/السلوكي، وحال الحرية الانسانية وتنوع وتكامل جمالياتها وخلاصها من الضرورة الاجتماعية من نواقص وانانيات وتكالب.


(ج) معرفة التغيرات:
بالامكان زيادة معرفة وتبين تاريخ كل اعتقاد وهيمنة وادراك تغيراته منذ طفولته إلى شيخوخته ب1. ملاحظة أمور فقهه وتنوع موضوعاته وتركيزاته 2. ملاحظة درجات انسجام وتغاير جانبي الفكرة الميثيولوجي والآيديولوجي وتأثيراتهما في المجتمع أو تأثر أحد الجانبين أكثر من الجانب الآخر بتغير في المجتمع، كذلك تزيد معرفة تاريخ وطبيعة العقائد وهيمنتها ب3 ملاحظة الفروق في جانبي گل فكرة أي الفروق المنطقية واللامنطقية في عناصر وعلاقات وبنى الجانب الميثولوجي وبعض ما فيها من خرافات وأساطير والفروق الإجتماعية السياسية في الجانب الآيديولوجي من الفكرة/الاعتقاد ومدى تقييم معالمه أو تغيراتها بأنها عدل أو ظلم.



2. نفي التاريخ للفكرة ارتباط التحضر بتغيير الإعتقاد:

(أ) بحكم اختلاف طبيعة كثير من عناصر وعلاقات وبنى المجتمع وصراعاته والطبيعة الذهنية والنفسية والشخصفردية لإيمان وسلوك كل إنسان على حدة فإن مسألة تخلف مجتمع وما إلي هذا التخلف ليست لها علاقة سببية كبيرة بالدين أو بالعلمانية فهناك دول متدينة متقدمة ودول أخرى علمانية متخلفة بينما توجد دول اخرى عكس هذه الوضع.

(ب) كذلك تنفي سجلات التاريخ وجود ارتباط سببي قوي بين كينونة الحضارة والتمدن وكينونة الدين ففي مختلف المجتمعات القديمة المختلفة الاعتقادات نشأت وتطورت حضارات فذة والأمثلة فيها وبها متوفرة على هذا التباين والاختلاف بين قوة ونوع الحضارات ونوع وهيمنة اعتقاد مهين:

1. قديما رغم تنوع أشكال وقوة الاعتقادات التجسيمية والتجريدية في ما بعد ملتقى النيلين الأزرق والأبيض في افريقيا إلى وادي الرافدين ووادي السند ووادي اليانغتسي في آسيا كانت الحضارات مزدهرة ومتقدمة وذات إختراعات ونظم حكم وجيوش غالبة بينما كانت عقائدها مختلفة ومتخلفة عن ادراك مادية وجود وحركة عناصر وتاثيرات الطبيعة.

2. في القرون القديمة كانت الامبراطورية الاسيوية الفارسية والاوروبية الاثينية والرومية مختلفتي الاعتقاد ومع ذلك كانت قوة كل منهما تشبه الأخرى.

3. في القرون الوسطى كانت العقيدة الاسلامية متمكنة وكانت الدولة قوية وأموالها كثيرة وجيوشها غالبة وخيرات حرفها وتجارتها كثيرة وفي نفس الفترة كانت العقيدة المسيحية متمكنة في أوروبا وكانت دول أوروبا ومجتمعاتها في حالة بائسة هزيلة. كذلك لم يؤثر تغير المذاهب قي الدولة الواحدة تاثيراً كبيراً على قوتها العامة.

4. بعد تمكن "العلمانية" في العالمين الغربي والشرقي انقلبت الأمور وأصبح العالم الغربي ذو العقيدة المسيحية متمكناً ونشيطاً وصار العالم الشرقي العلماني مستعمراً ولأنه مستعمر صار ضعيفاً تتوالد في أموره وثقافته أمراض الضعف والتخلف.

5. في الفترة المعاصرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وإلى مستقبل متوسط نجد دولا متقاربة الظروف والامكانات وذات اعتقاد واحد لكن التفاوت المديني/الثقافي بينها كبير ما يدل على عدم وجود علاقة سببية أو جذرية أو بنيوية أو مباشرة بين نوع/شكل الإعتقاد والدين ودرجة التمدن والثقافة والتحضر والحداثة.

6. في البلد الواحد الاعتقاد أو في المدينة الواحدة والمجتمع الواحد والمنطقة السكنية الواحدة المجتمع أهلها على اعتقاد ومذهب واحد نجد أن بعضهم في مستوى ثقافة وتفاعل وحداثة وتحضر أكثر أو أقل من المستوى الذي تعيشه أجزاء أخرى من نفس المجتمع ذو الاعتقاد والمذهب الواحد.



3. علة العشواء والتخلف وأسباب انتظام تقدم الدول:

(أ) الاشارات التاريخية السابقة تساعد على فهم ان العلل الكبيرة في المجتمع والدولة كعلة الأنانية والتكالب و علة العشواء وعلة الانغلاق وعلة الانبهال وعلة الإنمساخ وتأثير هذه العلل في تكوين وتفاقم علة التخلف والأمراض الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية المواشجة له ولكل هذه العلل ليست عللاً ناتجة من تمكن دين واعتقاد معين وليست وليدة بعض أشكال ورموز دين أو عناصر إعتقاد ما، بل نجدها عللاً نابتة من عشواء أنانيات التعامل مع حاجات المعيشة الصغيرة.

(ب) تبعاً لهذا التصور العام يرتبط فحص وطب وعلاج وتنظيم هذه التعاملات وأمراضها بتنظيم منطقي لعمليات تلبية حاجات المعيشة وصولاً بتلبية غالبية الحاجات إلى مستوى الإقتصاد والحكم. من ثم بتنمية القدرات والنظم تنصلح أمور ادولة أياً كان لب أو شكل رموز وطقوس عقيدتها.

(ج) هذا التصور القاعدي الشائع لإصلاح شؤون الدولة يمثل كينونة تفاعلية وقاعدة نظرية لتأثيل وتمحيص طبيعة الخطاب الخطأ الشائع الفوقي التركيز الذي يظن ان حداثة وتحسن الدول مرتبط بإصلاح أو بتغيير عقيدة مجتمعها! أو إن انسلاخ الدولة من رموز الاعتقاد يصلح شؤونها! أو الخطاب المرتبط بمهاجمة أحوال الانتظام او الاتساق الفكري (الآيديولوجيا) داعياً لازالتها من الوجود وبناء دين فكري جديد يزعم انه خارج التاريخ بكونه خارج الصراع الطبقي وانه ضد أو فوق كل الآيديولوجيات وأسس وجودها!

انتهى