عبدالرحمن الخميسي.. فارس الإبداع والحرية


فهد المضحكي
2023 / 12 / 2 - 11:18     

عبدالرحمن الخميسي (1920-1987) ظاهرة فذة في تاريخنا الأدبي - الثقافي. ففي حياته وإبداعه تتلاقى وتتعانق تيارات وأنشطة وأساليب شتى. وللحديث عن فكر الخميسي التنويري الذي ظل ملتزمًا، مهمومًا بقضايا وطنه ومجتمعه، وهموم الفقراء أينما كانوا، من المهم أن نتوقف عند دراسة لمحمود أمين العالم، أشار في مقدمتها إلى مسيرته الأدبية والفنية والسياسية: الخميسي شاعر كبير بغير شك، ينتسب شعره إلى مدرستين مختلفتين متداخلين معًا، فهو من ناحية، امتداد لمدرسة أبوللو الشعرية (هي إحدى المدارس الأدبية الهامة في الأدب العربي الحديث نشأت في عام 1932، مؤسسها هو الشاعر أحمد زكي أبو شادي الذي ولد في عام 1892)، ذات الرؤية الرومانسية، وهو من ناحية أخرى واحد من المدرسة الاجتماعية، ذات التوجه الواقعي التي أخذت تزدهر في الأربعينيات، وهو كاتب قصة ذات مذاق خاص يمتزج فيها أسلوبه الغنائي الشاعري، بأحداثها وشخصياتها. وهو مؤلف موسيقي ومسرحي وسينمائي وإذاعي ذو موقف وطني اجتماعي طبقي صريح حاد يستلهم فيه التراث الشعبي، ويطوره موضوعًا وتشكيلاً. وهو متذوق للموسيقى الكلاسيكية العالمية، عارف بأسرارها ومترجم لبعض أوبيريتاتها. وهو صاحب رؤية اجتماعية تقدمية للأدب والفن، وهو صاحب أسلوب لغوي خاص تعلو فصاحته وتجهر موسيقاه كما تتوثق وتتعمق تعابيره كذلك بالخبرة الحية للبسطاء من أبناء الشعب. وهو ذو نشاط سياسي واجتماعي عملي. ما أكثر ما عرضه لمحن، واقتطع من حياته بعض سنوات السجون. وامتلأت حياته بالكثير من المسؤوليات الجسام، والكثير من الأصدقاء والمحبين والمعجبين والتلاميذ. وتتضح كتاباته وممارساته بشبق غامر للحياة وحب عميق للإنسان، وغرام عنيف بوطنه مصر، وتطلع حار - بالغ الحرارة - إلى الخير والعدل والمحبة والحرية والإبداع.
يقول الخميسي: «عندما ماتت أمي ومات أبي، قررت أن أطوف بكل بلدان القطر المصري، وأن أمتزج بالناس في كل مدينة، وما دام الإنسان هو مادة الفن، فيجب أن أعرف إنسان بلادي. ولعل السنين التي أمضيتها في الطواف بكثير من البلدان قد وثقت ارتباطي بالبسطاء ووثقت حبي لشعب مصر، كما منحني من ذخائر التقاليد الشعبية وطرائق التعبير البسيطة كنوزًا لا تقدر بمال».
ولا شك أن حياة عبدالرحمن الخميسي وإبداعه لهما هذا البعد وهذه الدلالة الذاتية. ولكن الخميسي - في الحقيقة - هو كذلك ابن وفارس من أبرز أبناء وفرسان الأربعينيات من حياة مصر السياسية والثقافية عامة.
يتوقف الكاتب ليلقي شيئًا من الضوء على تلك المرحلة، وفي هذا الصدد يرى إن الأربعينيات هي مرحلة من أهم المراحل في التاريخ المعاصر لمصر، فهي سنوات التهيئة والمخاض لكل ما توالد في مصر بعد ذلك من أحداث سياسية واجتماعية ومدارس أدبية وفنية. لم تكن الحرب العالمية الثانية آنذاك مجرد إطار خارجي (لا ناقة لنا فيها ولا جمل كما يقال)، بل كانت عاملاً مؤثرًا فعَّالاً في كثير من التحولات الداخلية بما كانت تحمله من أنباء وصراعات وقيم، وما كانت تفرضه وتفرزه من تغييرات سياسية واقتصادية واجتماعية وكانت البيئة الداخلية الاجتماعية تعاني من حالة من القلق الحاد. وكما يقول العالم، لقد أسهمت الحرب نتيجة لانقطاع الواردات في إنعاش الإنتاج الصناعي المحلي، وإلى نمو وتمركز الرأسمال الأجنبي والمصري. كما ضاعفت الحرب في الوقت نفسه من قبضة المحتل البريطاني ومن التبعية السياسية والاقتصادية والعسكرية لسلطانه.
وفي المقابل لهذا، تفاقم إفقار الجماهير، واحتدمت المشاعر الوطنية المعادية للاحتلال، وتفجرت الصراعات الاجتماعية والطبيعية ضد الاستغلال والقمع والتبعية. وأخذت ترتفع أسئلة قلقة بين المثقفين بحثًا عن إجابة نظرية لفهم هذه التحولات الجديدة في الواقع المصري والعالمي، وللتسلح بهذه الإجابات لمواجهة هذا الواقع والسيطرة عليه. وأخذت الاشتراكية تتبلور كحلمٍ موضوعي للخلاص يؤججه الصراع الديمقراطي العالمي ضد النازية والفاشية من ناحية والصمود والتصدي الذي يبديه الشعب الاشتراكي السوفيتي من ناحية أخرى. ولقد استطاعت الطبقة العاملة المصرية آنذاك أن تنتزع حقها القانوني في التنظيم النقابي، وتكونت الحلقات الماركسية الأولى وراحت تباشر أنشطتها الثقافية والسياسية، وتؤثر في مجمل الحياة السياسية والاجتماعية. وأخذت تبرز المنابر الثقافية المتمردة على الواقع والمنطلقة إلى الجديد، كالسيريالية والفوضوية والترتسكية والماركسية مثل المجلة الجديدة لسلامة موسى، ومجلة السطور لأنور كامل، ومجلة الفجر الجديد والجماهير، إلى غير ذلك، وتزداد الأفكار نضجًا وتزداد الأنشطة السياسية تحديدًا وعمقًا جماهيريًا. وتمتد هذه التفجيرات إلى الأدب والفن.
في هذا الإطار السياسي والاجتماعي والثقافي، أخذ يبرز وجه فارس جديد من فرسان الإبداع والحرية هو عبدالرحمن الخميسي.
كان الشعر كلمته الأولى. كانت كلمته الأولى، لا تزال تنتسب إلى مدرسة أبوللو الرومانسية على أنه برغم الانتساب الذي يلمح فيه بعض أساليب مطران والشابي وناجي، فإن كلمته الشعرية كانت تتفجر بنبض مختلف. لقد تحولت النسمات الرقيقة العذبة في مدرسة أبوللو إلى عواصف متمردة شامخة في شعر عبدالرحمن الخميسي. لقد ظل الأحساس بالاغتراب والفراغ والحرمان والرغبة في التحرر من القيود في الكثير من أشعاره ولعل قصيدته «في الليل» تكون من أبرز معالم هذه السمة. وقصص الخميسي تكاد أن تكون في أغلبها خطابًا جهوريًا زاعقًا، خطابًا للآخرين وخطابًا عن الآخرين وخطابًا بالآخرين، خطابًا جهوريًا زاعقًا لا بلغته وأسلوبه فحسب، بل بصوره وأحداثه الصراعية وقيمه الاجتماعية والطبقية كذلك. إنه يوظف القصة توظيفًا أيديولوجيًا جهيرًا ويكاد يطبق عليها رؤيته الاجتماعية تطبيقًا مباشرًا. وما أكثر، ما انتقدت هذه القصص بسبب ذلك، وقياسًا على قواعد ومعايير فنية محددة، ولكن كما يقول العالم، لو أعدنا قراءة هذه القصص في سياقها الاجتماعي والتاريخي لوجدنا أنها تعبر بصراخها العالي الجهير لغة وأحداثًا وأفكارًا وقيمًا عن واقع كان يحتدم بالصراع الاجتماعي الطبقي الصارخ لو صح التعبير.
ويبرز كذلك الموقف النقدي النظري لعبدالرحمن الخميسي الذي كما تشير الدراسة، يتمثل في هذا التعانق بين الإبداع الفني والمضمون الاجتماعي في كتابة الصغير «مناخرليا» ويشتمل الكتاب على طائفة من المحاورات والمقالات النظرية التي يدعو فيها الأدباء والفنانين إلى أن بخرجوا من هدومهم، من عزلتهم، ليحطموا الحدود وينصهروا مع الناس ويشربوا روح الشعب، «فالتجربة الحية كما يقول هي شرط جوهري للإنتاج الفني»، ويتساءل في بعض فقرات من كتابه «من عجب أن القانون يطارد عصابات تزييف النقود أما عصابات تزييف العواطف والأفكار والتجارة بهواجس الناس وبأحلامهم فهو يتم جهارًا دون أن تمتد إليه يد القانون».
ونستشعر الدلالة في كتابه الآخر «المكافحون». وهو يضم طائفة من المقالات والدراسات حول نوعين من الشخصيات، شخصيات تحمل راية التجديد والتنوير والبطولة في آلحياة المصرية مثل عمر مكرم والأفغاني وعبدالله النديم وأحمد رفعت، وشخصيات إبداعية في مجال الأدب والموسيقى مثل مكسيم جوركي وشوبان وشوبيرت وإدجار ألان وتشايكوفسكي ودي جي موبسان. والكتاب بهذين النوعين من الشخصيات دعوة إلى الإبداع الفني والتجديد الاجتماعي وتأكيد المرابطة العميقة بين هذين الأمرين.
على أن أبرز ما يكشفه هذان الكتابان وغيرهما من كتابات وممارسات عبدالرحمن الخميسي الفنية، هو معرفته العميقة وحبه الغامر للموسيقى الكلاسيكية العالمية فيما يقدم من تحليل لشخصيات بعض مؤلفيها ولبعض أعمالهم.
كان حلمه أن يتعانق الفن بإنسانية الإنسان معبرًا عنها ومحررًا ومخصبًا لها. وكان يرى في تحقيق الاشتراكية تجسيدًا وتحقيقًا لهذا الحلم الفني الإنساني الشامل. ولعله لهذا أن يختتم حياته بمعايشة هذا الحلم. فكانت رحلته إلى الاتحاد السوفيتي واستقراره هناك، حيث عاش منتجًا مبدعًا سعيدًا، تترجم له أشعاره وتنشر بآلاف النسخ في مختلف لغات الاتحاد السوفيتي. ولكن الخميسي برغم غربته الطويلة ما فارق مصر أبدًا «حملت مصر بقلبي واغتربت بها» على حد قوله. ظل من بعيد يغني لوطنه ويعتبر نفسه سفيرًا بغير سفارة يتفانى في خدمة وطنه والنضال من أجل قضايا التحرر والتقدم والديمقراطية والسلام العالمي. ثم آثر عندما يموت أن يدفن جثمانه في مصر.