هل حقّقت المقاومة الفلسطينية انتصاراً تكتيكياً ؟


حزب الكادحين
2023 / 11 / 30 - 20:47     

‏ بعد 48 يوما من عمليّات الإبادة التي لم تنقطع لا ليلا ولا نهارا التي مارسها الكيان ‏الصّهيوني المحتلّ ضدّ الشعب العربي في فلسطين وخصوصا على قطاع غزّة، وقع ‏الاتّفاق بين الكيان والمقاومة الفلسطينية، بتدخّل ووساطة من قوى عالمية وإقليمية، على ‏الدّخول في "هدنة إنسانيّة" لمدّة أربعة أيّام انطلاقا من يوم 24 نوفمبر 2023 ثمّ تمّ ‏تمديدها مرّتين بيومين ثمّ بيوم واحد..‏
‏ وقد أثار "قبول" المقاومة الفلسطينية بهذه الهدنة عديد التساؤلات تتمحور بالأساس ‏حول الجدوى المرجوّة منها وطُرح سؤال رئيسيّ هل أنّ المقاومة ستستفيد من هذه ‏الهدنة أم لا خصوصا وأنّ الكيان المحتلّ يصرّح باستمرار بمواصلة حرب الإبادة من ‏اجل تحقيق الأهداف التي أعلن عنها بقطع النّظر عن الأهداف بعيدة المدى وغير المعلنة ‏؟
‏ لقد لعب الإمبرياليون الأمريكيّون الدّور الرّئيسي في التخطيط للهدنة والتباحث في ‏تفاصيلها، ومارسوا ضغطا على حكومة الكيان التي أبدت من خلال تصريحات رئيسها ‏تعنّتا في البداية لكنّها قبلت بالقرار في النّهاية واستسلمت للضّغط الأمريكي. كما أنّ ‏الكيان أذعن لأصوات المستوطنين التي ما فتأت تتصاعد يوما بعد يوم منذ السّابع من ‏أكتوبر بعد أن طال الانتظار دون أن تفي حكومتهم بوعدها وهو استرجاع الأسرى ‏والمحتجزين رغم مرور أكثر من شهر ونصف على بدء حرب الإبادة التي لم تفلح لا ‏عمليات القصف الوحشي ولا عملية الاقتحام البرّي في تحقيق هذا الهدف المعلن من قبل ‏نتنياهو.‏
‏ لقد فقد الكيان المحتلّ الدّعم السياسي المطلق الذي منحه له الإمبرياليون الأمريكيون ‏في البداية كما خسر الكثير عسكريّا على أرض المعركة دون ان يصل إلى خيط واحد ‏يضيء له الطّريق إلى المحتجزين والأسرى وبالتالي فقد جزءا كبيرًا من الدّعم من ‏داخل الكيان، وهو ما أجبر قيادته على القبول بالهدنة أوّلا وبشروطها ثانيا. وبالعودة إلى ‏الجانب العسكري، فقد أبرزت الحصيلة على الميدان الهزيمة التي لحقت بالكيان ‏وجيوشه، وقد اعترف بذلك في أيّام الهدنة لمّا أعلن عن أعداد المصابين التي تجاوزت ‏الألف وهذا الاعتراف يؤشّر انّ أعداد القتلى كانت أضعاف ممّا تمّ الإعلان عنه فضلا ‏عن الآليات بمختلف أصنافها وأنواعها.‏
‏ إنّ قبول الكيان الصّهيوني بالهدنة الإنسانيّة يؤكّد من جهة فشله في تحقيق "محو ‏حماس من الخريطة" و"تحرير الرّهائن"، كما أعلن في بداية حربه الإبادية، وتؤكّد من ‏جهة ثانية فشله في إقناع العالم بمشروعية الإبادة والجرائم والمجازر التي يرتكبها، بل ‏إنّ "التعاطف" الذي كسبه صبيحة 7 أكتوبر سرعان ما فقده. أمّا من جهة ثالثة، فإنّ هذا ‏القبول بالهدنة يؤكّد هزيمة أخرى للكيان حيث أجبر على القبول بها رغم إصراره في ‏تصريحاته أنّه غير مستعدّ لمثل هذا المسار وهو ما تسبّب في تأخير الوصول إلى الهدنة ‏حيث استغرقت المباحثات أيّاما طويلة وكلّفت ممثّلي الإمبريالية الأمريكيّة اتّصالات ‏ورحلات كثيرة وطويلة. ‏
‏ وبالعودة إلى مبدأ القبول بالهدنة، فقد خسر الكيان عسكريّا وسياسيّا وعالميّا وداخليّا ‏دون أن نتطرّق إلى تعداد وإظهار الخسائر التي لحقت به على المستويين الأخلاقي ‏والإنساني. وبهذه الحصيلة، ومن هذا المنطلق، فإنّ المقاومة الفلسطينيّة بقبولها بهذه ‏الهدنة تكون قد حقّقت انتصارًا تكتيكيّا مهمّا. ‏
‏ ومن الدّلائل الأخرى لهذا الانتصار التكتيكي الذي حقّقته المقاومة، تلك الشّروط التي ‏تضمّنتها الهدنة الإنسانيّة، وأوّلها الشروط الإنسانيّة التي ستقلّل من آثار الحصار الخطير ‏الذي فرضته حرب الإبادة على الشعب الفلسطيني لحواليْ خمسين يومًا من خلال ‏حرمانه من مختلف المواد المعيشيّة الضّروريّة زيادة إلى الحاجة المتزايدة للمواد الطبية ‏والصحية الضّروريّة للعناية بالمصابين والمرضى بسبب مخلفات القصف الوحشي الذي ‏طال العباد والمؤسسات الصحيّة. صحيح أنّ الخسائر البشريّة كانت كبيرة جدّا وكذلك ‏الدّمار الكبير الذي لحق المنشآت السكنية والصحية والتعليمية وغيرها، وصحيح أنّ ‏قوافل وشاحنات المساعدات التي تدخل عبر معبر رفح غير كافية لتوفير كلّ ما يستحقّه ‏سكّان قطاع غزّة، لكنّ إيقاف آلات الحرب يوفّر للسكان متنفّسا ووضعًا أفضل من وضع ‏حالة الحرب. أمّا ثاني هذه الدّلائل، فهو الشّرط المتعلّق بتبادل الأسرى والمحتجزين، ‏حيث أنّ المقاومة تحقّق أحد أهمّ أهدافها وهو تحرير الأسرى الفلسطينيين في سجون ‏الاحتلال، وهو الهدف الذي أعلنت عنه المقاومة منذ السّابع من أكتوبر، وبالتالي، فإنّ ‏مبادلة الأسرى الفلسطينيين بالمحتجزين لديها من غير العسكريين –في مرحلة أولى- هو ‏مكسب للمقاومة ومكسب للشعب العربي الفلسطيني خصوصا وأنّ الاحتلال لم يقدر على ‏‏"تحرير" أسراه عن طريق الحرب وهو الذي نادرًا ما يخضع لمثل هذا الشّرط. ‏
‏ ومن خلال شروط الهدنة، إدخال المواد الغذائية والصحية والإغاثية وفكّ الحصار ‏وتحرير الأسرى الفلسطينيين مقابل المحتجزين بثلاثة أضعاف العدد، فإنّ المقاومة هي ‏التي وضعت هذه الشروط، وطبعا المنتصر دائما هو من يضع شروط الحرب ويفرضها ‏على المهزوم.‏
‏ وتوفّر الهدنة، زيادة على محتواها الإنساني، للمقاومة الفلسطينيّة ردهة من الزّمن ‏لإعادة تنظيم أوضاعها القتالية وتحيين خططها وتوفير الإمداد وتغيير تكتيكاتها ‏العسكريّة، فهي، من وجهة نظر عسكريّة، هي الأكثر استفادة من هذه الهدنة مقارنة ‏بالعدوّ، بعد أيّام طويلة من القتال المتواصل، وليست الهدنة إلاّ "استراحة مقاتل" ‏يسترجع من خلالها الفدائيّون أنفاسهم ليتهيؤوا لمواصلة الحرب العادلة، حرب التّحرير ‏الوطني. امّا بالنسبة للعدوّ، فإنّ استفادته عسكريّا هي أقلّ من ناحية الامداد، بل إنّ وقف ‏الحرب مؤقتا وإذا ما طالت مدّة الهدنة قد تبثّ التململ في صفوف الجنود الذين يعانون ‏مسبقا من انكسار معنوياتهم نتيجة الفشل الذي مُني به التوغّل البرّي في بعض المساحات ‏الضيّقة من قطاع غزّة. وإذا كانت المقاومة الفلسطينية تقاتل من اجل تحرير الأرض ‏والوطن وهي مستعدّة لمواصلة الكفاح في أيّ زمن، وهي في غمرة النجاحات التي ‏حقّقتها من خلال تصدّيها لتوغّل جيوش الغطرسة النازية وفي غمرة النجاح في تحرير ‏الأسرى من سجون الاحتلال ستكون أكثر تأهّبا وأكثر إعدادا واستعدادا لمواصلة القتال، ‏بينما ستواجه جيشا منكسرا خصوصا وهو سيفقد هدفا من الهدفيْن الرّئيسيين لهذا ‏العدوان وهو استعادة الأسرى لدى المقاومة ويفقد بالتالي سندًا داخليا وعالميّا حتّى من ‏قبل أقرب الدّاعمين للكيان. أمّا بالنسبة للهدف الرئيسي الثاني الذي أعلنه الكيان، القضاء ‏على حركة حماس، فإنّ هذا الهدف يبدو من الأهداف مستحيلة المنال، بل إنّ الجيش ‏الصهيوني بقادته وقاعدته يدرك اليوم أنّها ستخرج من هذه الهدنة أكثر قوّة بعد ‏الانتصارات التكتيكية التي حقّقتها قبل الهدنة وأثناءها، وبالتالي سيؤثّر ذلك على تلك ‏النفسية المنكسرة لهذا الجيش الذي يخوض حربا غير عادلة.‏
‏ إنّ المقاومة الفلسطينية قد حقّقت إلى حدود هذه المرحلة انتصارا ‏تكتيكيّا/مرحليّا/جزئيّا بفرض شروطها على الهدنة التي أُجبرت القوى الرجعية ‏والإمبرياليّة على إبرامها تحت ذريعة "العوامل الإنسانية" بينما هي في حقيقة الامر ‏دُفعت إلى فرضها تبييضا لوجهها أمام شعوبها وخوفا على مناصبها التي أصبحت مهدّدة ‏في ظلّ حملة شعبيّة عالميّة لم يشهد العالم مثيلا لها. وبقطع النّظر عن فرضيّات مواصلة ‏الحرب أو إدامة الهدنة وتحويلها إلى إنهاء الحرب، فإنّ ما تحقّق في هذه المرحلة يمثّل ‏خطوة الى الامام في مسيرة حرب التحرير الوطني طويلة الأمد التي يخوضها الشعب ‏العربي في فلسطين. ‏
---------------------------------------------
جريدة طريق الثورة، 30 نوفمبر 2023