تيوولين! (قلبيات أوالقلب بالقلب)


عذري مازغ
2023 / 11 / 21 - 01:13     

ــ "هيههه يا جاري في الطابق السابع! انتظر ارجوك! أريد أن أسألك!"
كنت نازلا في شارع "غران فييا" عندما ناداني جاري بالطابق الخامس، كان يسوق زوجته على كرسي متحرك في جولة صباحية لاستنشاق الهواء، توجهت إليه لتحيته اما هو فبادرني بالسؤال:"أنت من أخذته سيارة الإسعاف عصر الأحد؟"
ــ نعم، انا ذلك الشخص!
ــ خرجت سريعا من المستشفى، ماذا حصل لك ؟
ــ انسداد أحد شريانات القلب وضيق الآخرين!
ــ إذن عملوا لك "الصوندا"! رد وهو يتأسف لما حصل لي، لكن شخصيا عجبتني أو جلبتني كلمة "الصوندا"، متناسبة مع قاموس ذاكرتي المنجمية حيث وقعها في الدماغ يختلف عن ترجمتها إلى العربية: "المسبار"؟ المسبار في العقل الجمعي او الذاكرة الشعبية هي هذه الآلات التي بها تراقب النجوم أو بها ينظر إلى الكون البعيد، لكن بالنظر إلى الوظيفة العملية لهذه الآلة، وهي وظيفة استكشافية يمكن أن تقارن بالفعل بالصوندا في الأبحاث الجيولوجية وهي المترسخة في ذاكرتي وايضا بالصوندا في الأبحاث والتشخيصات الطبية، لقد كان صدفة أن اسمع هذه الكلمة من جاري وكنت اعتقد انه وظفها بالمعنى المنجمي ساخرا من تحول أجسامنا إلى حقول للتنقيب كما يحصل في عملية التنقيب عن المناجم، وأنه استلهم الفكرة من ماضي بلباو العمالي عندما كانت مركز الكون في استخراج الحديد، لكن جاري لم يكن يقصد هذه التشبيه المجازي الذي صاحب وعكتي الصحية بل كان يعبر عن عملية الكاتيتيريزم ( cateterismo) وهي الكلمة التي رددها الأطباء أمامي عندما شرحوا لي وضعي الصحي موضحين أنها العملية التي ينوون فعلها في جسمي أما الصوندا (sonda ) فهي الصياغة الشعبية للعملية وإن كانت طبيا هي مفهوم عام حول الآليات الطبية المتعددة الصلاحيات . أما في معجم ذاكرتي المنجمية فلا تعني إلا آلة التنقيب (الحفارة) التي تحدث ثقوبا في الطبقات الأرضية لأخذ عينات معينة من الطبقات الجيولوجية قصد دراستها وتحديد نوع المعادن وكميتها وغير ذلك أو قد تكون ايضا حفارة آبار المياه أو التنقيب عن النفط .
في يوم السبت (كذا) شعرت بألم حاد في الصدر بشكل دائم بت الليل معه بدون نوم، وفي صباح الأحد كان كلما قمت بأي حركة زادت حدة الألم بشكل غير عادي إلى أن اضطررت مساء إلى طلب الإسعاف وهنا بدأت ثورة داخلية تنتفض في أعماقي: لم أشعر في حياتي بالهزيمة كالتي أشعر بها الآن وانا داخل سيارة إسعاف، شعرت نوع من الحرج: "أنا الذي لم يصبه مرض في حياته هو الآن مرغم على الركوب في سيارة إسعاف!"
"يا إلهي! ليس الركوب في سيارة إسعاف بل مرغم أنا متمرغ في سرير المرضى، منبطح تماما أطلب الشفقة!"
كيف أطلب الشفقة؟
بتلك الطريقة المغربية الساذجة من عزة النفس: لم أسألهم طول الطريق عما حدث ويحدث لي، والحال أني في مناسبات سابقفة كانت طبيبتي الخاصة نصحتني أن أهتم بصحتي في هذه السن على الرغم من أني في صحة جيدة: "أنت في سن ستبدأ فيه الأمراض بمهاجمتك، وعليك، من باب الاحتياط، مداومة زيارتنا من حين لآخر والقيام بما نطلبه منك، خصوصا التحاليل الدموية" نصحتني هذه السيدة أكثر من مرة على الاستجابة لها لممارسة مهمتها الطبية كطبيبة أسرة علي لها أن ألتزم بالمواعيد التي تمنحها لي وان أقوم أيضا بالتحاليل التي تطلبها مني (ولن ادخل هنا في التفاصيل الطبية التي جعلتني ذات مرة أصرح على ان سياسة الصحة في إسبانيا جد متقدمة)، لم أعر أي اهتمام لنصائحها، وبشكل ما تعاملت معها بالعقلية المغربية أو المرض بالطريقة المغربية: أن لا تهتم بالتطبيب إلا حين تسقط أرضا في أزمة صحية، وحينها سيحملونك إلى أي مستشفى (وهذا طريق لتراجيديا إنسانية محتملة قد تنقذ فيها أو تخرج منها فائزا بالجنة (لا احد في المغرب يعتقد أنه سيذهب إلى الجحيم إلا أنا ).. أو سيحملونك عند الوالي "سيدي اعلي أمهاوش" (في المغرب لكل منطقة ضريح واليها الصالح والشافي للأمراض واحيانا حين لا ينفع دواء طبيب إذهب لزيارة ضريج أحد "الشرفاء" مع صك مرور يجسده المثل المغربي الجميل: "سال المجرب لا اتسال الطبيب" وعموما هذه هي خلاصة تلك المقولة الظريفة التي أشهرها الركراكي في مونديال قطر بالقول "دير النية" والتي حاول الكثير أن يكرسها كنظرية علمية أو كماركة مغربية (بالمناسبة تصلح كماركة خرافية مغربية ولا عيب في الأمر لكن أن تكرسها كإيمان تلك معضلة) .
"دير النية" تعني ثق بدون خلفيات ومنها أيضا المثل المغربي الآخر: دير النية أونعس مع الحية (اعمل النية ونم مع الأفعى ).
في سيارة الإسعاف تركت لهم جسدي يفعلون فيه ما يريدون، ورغم أن مروءتهم الملائكية تمنعهم من التصرف دون إذن إلا أن الأمر بالنسبة لي محسوم: هذا الجسد أصبح خردة ولم يعد ملكي بل هو ملك للوجع الحاد، وهؤلاء الناس سيعملون على تحرير خردتي هذه من هذا الألم، هكذا كان شعوري وهكذا كان انطوائي داخل أعماقي، وفي سيارة الإسعاف والتي لاول مرة في حياتي أدخلها كنت أنظرإلى الطبيبة المشرفة ومساعداتها يقومان بعملهما : إلصاق أسلاك كهربائية في صدري وبطني لجس نبض القلب،عمليات قياس الضغط: "يا إلهي! ضغطك جد مرتفع كنت على وشك ان تتعرض لأزمة قلبية!" قالتها وهي تأمرني أن أفتح فمي وارفع لساني لتنفث غازا أو سائلا أو غبارا وهي تخبرني بأنه قد يحدث لي وجعا في الرأس، لكنه سيساعد على تخفيض الضغط.. بالفعل، وبعد دقائق معدودة شعرت بحدة الوجع تنخفض وهو الأمر الذي جعلني استسلم للأطباء بشكل مطلق:
سنثقب هنا لوضع كذا، لا اتذكر أسماء الآليات الطبية الأخرى بشكل يمكنني تسمية تلك الأفعال باللغة الهندسية في الفيزياء : ثقب شريان لوضع علامة T اللاتينية ، علامة تفيد بالخدمة المختلفة : أخذ عينات دم، تطعيم الجسم من خلال الشريان وغير ذلك من حقن وأمور أخرى..
حتى هذه اللحظة أتعجب لعقلي (أقصد مخي، هذا الذي يسكن جمجمتي، أقصد أنا بالذات )، لأول مرة أشعر كوني أنا كذات مستقل عن جسمي، حتى طبيبتي العائلية (طبيب الأسرة) حين سألتها عن تهورها في أنها لم تخبرني بدرجة خطورة حالتي ، قالت بأنه من الصعب ضبط حالات مرض القلب: "انت مثلا لم تظهر انك مريض، كنت بصحة جيدة وقلت بأنك تشعر بألم في الصدر وانا كطبيبة عامة أحلتك إلى مجموعة من التحاليل لفهم وضعك الصحي" ، ثم أضافت: " من خلال التوصل بنتائج تلك التحاليل يمكنني توجيهك، عمليا لا يمكنني معرفة خطورة الحالة بدون نتائج تحليلات مخبرية "
لأول مرة أكتشف أن جسمي مستقل عن ذاتي، احيانا سيسألني أحدهم: هل حدثت لي مشكلة: سقوط، فقدان الذاكرة، امور أخرى والجواب أنه لم يحدث لي أي شيء من هذا! لكن في سيارة الاسعاف، ومن خلال تحليل دقات القلب والضغط الدموي أخبرتني السيدة التي صاحبتني إلى المستشفى (وبكل صدق أعتبرها ملاك لعدة أسباب ساذكرها لاحقا). أخبرتني أني كنت في حالة أزمة قلبية (كنت سأصاب بسكتة قلبية لو أبطأت قليلا).
في قسم المستعجلات علمت أني في مصحة تسمى كروسيس (مصحة الصليب) وهي مصحة خاصة وليست مصحة عامة، لكن النظام الصحي في إسبانيا وهذا ما أريد أن يفهمه البعض حصوصا في بلدي المغرب (أما البلدان الاوربية فلربما يوجد نفس التدبير الصحي ولو بأشكال متفاوتة )
سأضع هذا الجملة وكل منا يستطيع تحميلها اي تأويل: في إسبانيا، في مصحة خاصة قد يستقبل فيها إنسان فقير بشكل لا نميز في المستشفيات بين التي هي مستشفيات خاصة أو مستشفيات عامة؟ وقبل أن أدخل التجربة وعندما كنت أعمل في قضايا الهجرة كنت أعرف أن مستشفيات خاصة أقاموا عمليات جراحية (باهظة الثمن في المغرب) لمهاجرين سريين لا ينعمون حتى بالتسوية وأحيانا سويت وضعية إقامتهم بسب ملفهم الطبي وهذا عمل إنساني يعيبه علي، حين أذكره، بعض رفاقي الذين يقولون بأني لا اهاجم إسبانيا كيساري .
وهنا في وضعي الحالي لا أستطيع شرح النظام السياسي الصحي بإسبانيا فهو من جهة متفاوت مناطقيا (جهويا بلغة المغرب) وبالشكل التفاوتي هذا ذاته تتفاوت جودة الخدمات ، لكن بشكل عام يتكامل فيه القطاع الخاص مع العام في قضايا الصحة من خلال انسيابية التعامل بين المؤسسات الخاصة والعامة خصوصا في التعليم والصحة: التعليم والصحة الجيدين هما حق مواطنة وليس حق الخاص والعام ، والدولة تتدبر أمر التكامل فيما بينهما (شكل من أشكال الاشتراكية السويدية أو الدانامركية: الدولة من خلال مؤسسات عامة تتكامل أو تتجاوب مع مؤسسات خاصة في تكلفة عملية طبية خاصة لأي مواطن فقيرا كان أو غنيا).
يتبع..