مساهمتي في ملف الذكرى السبعين لاصدار الثقافة الجديدة / سبعون عاما من الفكر العلمي والثقافة التقدمية


رشيد غويلب
2023 / 11 / 17 - 17:21     

في تشرين الثاني 1953 صدر العدد الأول من مجلة (الثقافة الجديدة)، يتصدره شعار المجلة العتيد "فكر علمي.. ثقافة تقدمية". وفي تشرين الثاني المقبل ستحتفل المجلة بالذكرى السبعين لميلادها المجيد.
لقد ارتبط ظهور المجلة بشكل وثيق بتصاعد وتطور النضال الوطني الديمقراطي في عراق خمسينيات القرن العشرين عموما، وتصدر الحزب الشيوعي العراقي، الذي يرتبط اصدار المجلة ونجاحها باستمراره طيلة هذه العقود، باستثناء فترات توقف قصيرة جراء قمع الأنظمة المتعاقبة، بشكل خاص. وجاء اصدار المجلة تلبية لحاجة وجود منبر لإنتاج ونشر الفكر العلمي والثقافة التقدمية، وفق منهج نقدي يعمل على تفكيك خطاب القوى المهيمنة اجتماعيا وسياسيا، وطرح البدائل والاجابات على الأسئلة التي تبرز في سياق الصراع الاجتماعي السياسي بالاستناد الى الماركسية، باعتبارها منهجا علميا نقديا، يتطور على أساس الواقع الملموس وليس خارجه.
ومنذ عددها الأول لم تحصر المجلة نفسها بحدود البحث الأكاديمي او ثقافة النخبة، على الرغم من أن الرعيل الأول الذي كان وراء إصدارها، مثّل طيفاً من أفضل ما انتجه الواقع العراقي حينها من ناشطين سياسيين وباحثين ومثقفين وادباء وفنانين، وهذا ما عكسته قائمة الأسماء الموقعة على طلب اصدار المجلة. لقد كانت المجلة وما زالت موجهة لجميع الساعين الى التغيير الجذري على اختلاف انحداراتهم الطبقية والفئوية، وبالتالي لم يغب الهم السياسي المباشر يوما عن صفحاتها.
ولم ينجح القمع المتواصل الذي تعرض له القائمون على المجلة والعاملون فيها في النيل من ارادتها في الاستمرار والإصرار على رفض المحافظة والعنصرية واملاءات القوى الطبقية المهيمنة وتعبيراتها السياسية التي قادت الأنظمة التي توالت على حكم العراق حتى اليوم.
واذا كان اصدار المجلة واستمرارها قد جسد أهميته التي لا خلاف عليها طيلة العقود السبعة الماضية، فإن مواصلة المجلة لدورها الريادي والتنويري والنضالي، وتطويره وفق مستجدات الواقع المتغير، يكتسب أهمية قصوى قد تتجاوز سابقتها، ارتباطا بطبيعة الصراع الاجتماعي والسياسي الدائر اليوم في بلادنا، وسعة وعمق الخراب السائد، الذي راكمته سياسات الدكتاتورية المنهارة والحروب والحصارات الخارجية والداخلية والاحتلال، وما تلاها من نموذج دولة فاشلة، قائم على المحاصصة السياسية وفق قاعدة التشظي الاثني الطائفي المتشابك مع اخطبوط الفساد وتنوع اشكال السلاح المنفلت، الى جانب الحضور الشكلي للقانون والغياب العملي لسيادة الدولة. وبالتالي فان الصراع الفكري مع القوى المهيمنة اجتماعيا وسياسيا يمثل اليوم الرافعة الأساسية لإعادة بناء الوعي الإنساني وفق شروطه العلمية والتقدمية، بعد ان سعى المهيمنون الى تكريس التخلف والتشظي الطائفي والعرقي والثقافي كرافعة لاستمرار نظامهم المسخ.
لقد مثلت المجلة فضاء واسعا لعكس وتفاعل الرؤى في ظل الظروف السياسية والقراءات الفكرية التي رافقت صدورها، والتي عملت في أحيان كثيرة على ترسيم حدود سعي المجلة لتوسيع الممارسة الديمقراطية بقدر تعلق الامر بما ينشر، وحرية الاختيار. وفي السنوات الأخيرة سعت المجلة لمراجعة وتطوير أدائها، وهي مطالبة اليوم أكثر من أي وقت مضى، بتعميق وتوسيع روح الديمقراطية، التي تحدها أحيانا املاءات الأداء السياسي، لكي تستطيع استقطاب المزيد من الأقلام والكفاءات القادرة على دفع مشروع المجلة التنويري الى امام.
لقد عانت المجلة في العقود الأخيرة من التركيز على المواضيع ذات الطبيعة السياسية والثقافية العامة، ارتباطا بحاجات انية فرضتها تعقيدات الواقع العراقي، وعدم الوضوح الذي ساد قوى اليسار العالمي بعد الزلزال الذي أصاب تجارب الاشتراكية الواقعية. وبالتالي هناك ضرورة لعودة المجلة الى ألقها السبعيني، من حيث تركيز الاهتمام على الموضوعات الفلسفية والاقتصادية. يضاف الى ذلك التطورات التي شهدتها الماركسية في العقود التي تلت اختفاء الاتحاد السوفيتي والبلدان الاشتراكية في شرق اوربا. بالإضافة الى أهمية تقديم قراءات نقدية جذرية للتجربة الاشتراكية الأولى وتاريخ الحركة العمالية العالمية، بما يخدم الاستفادة مما هو إيجابي فيها، ورفع ادران الحقبة الستالينية عنها، وإعادة قراءة اعمال معلمي الاشتراكية الأوائل والجيل الذي تبعهم، والذي تعرض نتاجه الفكري لانتقائية الاختيار والتكييف وفق حاجات سلطة اشتراكية الدولة على حساب المضامين العلمية والروح النقدية لهذه النتاجات. وهنا بودي الإشارة الى المفاهيم المتعلقة بطبيعة الطبقة العاملة، وتوسيع مفهوم الرأسمالية، والعودة للتحليل على أساس طبقي، بعد سنوات من افتتان أوساط يسارية بالخطاب الليبرالي، وكذلك جديد الحركة النسوية العالمية وعلاقته بإعادة الإنتاج الاجتماعي، وفق رؤية موضوعية لتطور الواقع في العراق، وبشكل يساعد منظمات اليسار النسوية في استنهاض قوارها والسير قدما لتعبئة ملايين النساء العراق التواقات الى الحرية والعيش الإنساني الكريم.
حاولت في ما تقدم ان اشير للأهمية التاريخية والآنية للمجلة وفق رؤيتي المتواضعة، لكن بالعودة الى السؤال المطروح، بشأن ما تعنيه المجلة بالنسبة لي. كانت (الثقافة الجديدة) الى جانب (طريق الشعب) اهم المصادر التي طورت امكاناتي السياسية والفكرية قبل 50 عاما او يزيد، وكنت مثل الكثيرين من شبيبة ذلك الزمان واحدا من الموزعين الشعبيين للمجلة، التي كانت رغم علنية صدورها، تعامل من منظمات حزب السلطة، باعتبارها من الممنوعات. وخلال سنوات المنفى الأولى، ومع شح توفر المطبوعات العربية، ظلت المجلة معيني الأول في متابعة الجديد. ومنذ قرابة خمسة عشر عاما، تشرفت بالانضمام الى كتّاب المجلة، وخصوصا في باب "نصوص مترجمة"، وقد اضافت لي هذه السنوات الكثير، مستفيدا من خبرات العديد من الرفاق والأصدقاء الذين سبقوني في هذا النشاط الهام. وأسعدني الجهد المبذول أخيرا لتطوير عمل المجلة في هذا الباب من خلال تعدد المساهمات واللغات المنقول عنها، بشكل يجعل المجلة قادرة، وفق الإمكانيات المتوفرة، على إيصال الجديد لقرائها.
وختاما مجدا لشهداء الثقافة التقدمية العراقية، ومجدا للشهداء من محرري المجلة وكتابها والعاملين فيها، واشير هنا، على سبيل المثال لا الحصر، الى الشهدين الكبيرين صفاء الحافظ، وكامل شياع، لصعوبة الإشارة الى الأسماء الأخرى التي انارت الطريق. وألف شكر وتحية لكل من ساهم في بناء واستمرار هذا الصرح الفكري الثقافي الهام من هيئات ومجالس تحرير تعاقبت على إدارة المجلة، والتحية موصولة للرفيقات والرفاق والصديقات والأصدقاء الذين يعملون اليوم بجد وتفانٍ، رغم صعوبة الظرف، وشح الإمكانيات المادية على استمرار المجلة وتطورها.