حوار حول حرب الابادة في قطاع غزة


مؤيد احمد
2023 / 11 / 9 - 18:10     

ره وت: شكراً على هذه الفرصة واستجابتك لدعوة صحيفة ره وت لاجراء حوار حول حدث عالمي مهم يجري قريب من مجتمعنا منذ السابع من الشهر الماضي. هاجم الجناح العسكري لمنظمة حماس الفلسطينية وعدة جماعات جهادية أخرى إسرائيل وقاموا بعمل عسكري مفاجئ وناجح، من هنا بدأت الحرب الدموية الجارية في غزة ولا تزال مستمرة. كيف تقيمون هذه المجزرة وإلى أين تتجه وكيف تنظرون إلى القوى المشاركة في هذه الحرب؟
مؤيد أحمد: شكراً جزيلاً لك، واقدر كثيرا جهودكم، كان من المهم جداً بالنسبة لي ايضا أن نتحدث عن هذه المسألة. إن ما تجري من المجازر والدمار والتشريد هي حلقة أخرى في السلسلة المأساوية الطويلة التي ابتلي بها المدنيون الأبرياء من سكان فلسطين وإسرائيل لعقود من الزمن. إن الإبادة الجماعية الحالية لسكان قطاع غزة على يد الحكومة الإسرائيلية وقواتها هي استمرار لسياسة وممارسات نفس دولة اسرائيل ضد الفلسطينيين خلال 75 سنة من عمرها. الفرق هو أن هذه المرة تأتي حرب الابادة بعد الهجوم العسكري والأعمال الإرهابية التي وقعت في 7 أكتوبر/تشرين الأول والتي قامت بها حماس والجهاد الإسلامي وجناحهما العسكري؛ كتائب القسام.
بحسب ما ورد في الاخبار أدت الهجمات العسكرية والإرهابية التي شنتها حماس إلى مقتل أكثر من 1400 شخص اكثريتهم مدنيين اسرائيليين واحتجاز مئات الجنود والمدنيين، بعضهم من الأطفال، كرهائن. وبالطبع فإن هذا الهجوم العسكري الذي شنته حماس في 7 أكتوبر كان سياسة واستراتيجية مخططة مسبقًا من قبل هذه الحركة الإسلامية وقد تم تنفيذها وهي في الأساس نتاج سياسة ونظرية وممارسة تيار الإسلام السياسي، ولكن في الوقت ذاته لايمكن انكار ذلك بان هذا الهجوم يشكل ممارسة عسكرية وارهابية بوجه ارهاب الدولة لاسرائيل ضد الفلسطينين وبوجه الارهاب والاجواء الارهابية التي خلقتها ولاتزال المؤسسة الحاكمة الإسرائيلية والدولة الاسرائيلية وحكوماتها المتعاقبة، منذ بداية قيام إسرائيل وحتى الآن.
لقد قتلت قوات الأمن الإسرائيلية مئات الفلسطينيين هذا العام وذلك قبل احداث غزة، وقتلت أكثر من 6000 فلسطيني منذ عام 2007. وما يشهده العالم الان هو انه ومنذ اكثر من اسبوعين فان القوات الاسرائيلية مشغولة بإبادة وتدميرغزة. لحد هذه اللحظة وما بعد ارتكاب جريمتها في قصف مستشفى المعمداني، والتي راح ضحيتها و وفقا لإدارة الصحة في غزة، 471 قتيل واصابة 314 آخرون، فان الحملة العسكرية الإسرائيلية والإرهابية في غزة ادت وبحسب موقع (ميدل إيست آي)، الى قُتل أكثر من 6500 مدني فلسطيني، من بينهم 2700 طفل، وأصيب حوالي 17000 آخرين. لقد استهدفت هذه الإبادة الجماعية وهذا التدمير المتواصل؛ المنازل والمباني والأحياء والمستشفيات والمدارس والأماكن العامة، إلى جانب فرض الحصار الاقتصادي وقطع الخدمات التي تركت سكان غزة بدون خبز وماء وكهرباء وأي خدمات صحية ضرورية. وقد خلق مجمل هذه الاوضاع الاجواء للطرد القسري لأكثر من 1.5 مليون فلسطيني خارج قطاع غزة.
إن الحكومة الإسرائيلية تريد، إن كانت قادرة على ذلك، تنفيذ هجوم بري واحتلال هذا القطاع بهذه الإبادة الجماعية، وبالتالي فهي تريد خلق مأساة إنسانية أخرى، كما حدث في عام 1948، ولكن هذه المرة على نطاق أوسع وأشمل بكثير وضد سكان غزة اي نفس الأشخاص وأحفادهم الذين تم ترحيلهم سابقًا من فلسطين عام 1948 و1949.
وفيما يتعلق بتقييم القوى المشاركة في هذه الحرب، يجب أن نكون واضحين أولاً أن السلوك الفاشي وإرهاب الدولة الإسرائيلية ورد فعل حماس وإرهابها لا ينفصلان عن بعضهما البعض، وهما عملية واحدة وواقع واحد.
والحقيقة التي لا يمكن إنكارها هي أن ما خلق الفضاء ومكّن حماس من ارتكاب هذه الجريمة ضد المدنيين الإسرائيليين هي دولة إسرائيل وقمعها ومجازرها ضد الشعب الفلسطيني؛ اي ان حماس مكملة لاسرائيل وقطبها النقيض. ولذلك، لا يمكن النظر إلى هذه الحرب بشكل احادي الجانب، بل يجب تفسير طرفي الصراع كعملية واحدة وفي سياق ومحتوى بعضها البعض.
إلا أن هذه الدرجة من التحليل لاتقودنا إلى الحقيقة الكاملة وفهم مفارقة هذين الجانبين لأنه يبرز عامل أساسي آخر؛ بقدر ما نتحدث عن حماس وهو انها جزء من حركة أوسع تتجاوز اطار الصراع والاحتكاكات الفلسطينيين ودولة إسرائيل والتي هي حركة الإسلام السياسي. ومن ثم فإن منهج حماس وسياستها وبرنامجها ونظريتها وممارستها تنتمي إلى هذه الحركة الاجتماعية الطبقية البرجوازية، وهدف حماس ليس تدمير إسرائيل فحسب، بل إنشاء إمارة برجوازية إسلامية قمعية مكانها. ولهذا السبب، قبل أن تكون حماس ضد إسرائيل، فهي ضد العمال والكادحين والتحررين والمرأة داخل فلسطين.
وللرد على سؤال ربما يُسأل فيما يخص مدى وجود ارتباط بين حماس وحركة الجماهير الفلسطينية المناهضة للقمع الاسرائيلي، وكذلك للرد على السؤال لماذا لا يمكن اعتبار حرب حماس ضد إسرائيل ووصفها كحرب قطب إرهابي ضد القطب الإرهابي لدولة إسرائيل، أقول فيما يخص التسأول الاخير إنه يمكن القيام بذلك واعتبار القطبين ارهابيين ولكن هذا لايمس جوهر الموضوع اذ لايمكن استخلاص سياسة شيوعية عملية من هذا النقد.
ببساطة، يعاني الشعب الفلسطيني من اضطهاد وظلم دولة اسرائيل ومؤسساتها وحكوماتها المتعاقبة، وهذا العمل العسكري والإرهابي الذي تقوم به حماس، سواء أحببنا ذلك أم لا، بات له صلة برفع هذا الظلم وذلك لكون الظلم القومي على الفلسطينين هو واقع موجود ولكون مقاومة جماهيرية فلسطينية بوجه هذا الظلم هو واقع ايضأ، وفوق ذلك، لكون التصور المتبلور في اذهان ووعي جماهير الفلسطينيين والجماهير المعترضة في الشرق الأوسط هو ان ما تقوم به حماس عسكريا ذو صلة بمقاومة الظلم القومي على الفلسطينيين. والسبب في ذلك هو أنه في الوقت الذي ان حماس هي حركة إسلامية سياسية فان لها وجود سياسي وعسكري في جغرافيا سياسية واجتماعية وثقافية معينة، وتواصل العمل بالارتباط مع قضية اسمها القضية الفلسطينية التي يعود السبب الاصلي والرئيسي لظهورها الى اسرائيل.
ولذلك لا يمكن استبعاد هذا البعد والدور السياسي والعملي وحتى الأيديولوجي لحماس بالارتباط مع القضية الفلسطينية من التحليل، والاكتفاء بتقيمها فقط على اساس كونها جزء من حركة الاسلام السياسي وارهابها، ولو هي في الحقيقة كذلك.
لكن هذا لا يعني أن نبقى لا صامتين ضد إرهاب حماس ولا أن نعتبر حماس رمزا وجزءً من حركة تحرير جماهير فلسطين وذلك لانه بالرغم من مناهضة حماس لاسرائيل فان هذا الامر لا يجعله في جبهة النضال العادل لجماهير فلسطين، لا بل يبقيها كماهي اي كحماس وبالتالي كحركة ومنظمة رجعية للاسلام السياسي فيما يتعلق بنضال جماهير فلسطين ضد الظلم القومي الإسرائيلي عليهم. لذلك، طالما أن هناك ظلما إسرائيليا ضد الفلسطينيين، يمكن لهذه الحركة أن تعيش وتنمو على هذا الظلم والقمع، وفي الوقت نفسه يمكنها ان تنمي الوهم بين الجماهير المعترضة في فلسطين وبلدان الشرق الأوسط بأن حماس تقف على خط مقاومة ونضال جماهير فلسطين.
ليس لدى البعض مشكلة في تعريف حماس على أنها تيار وحزب رجعي للاسلام السياسي، لكنهم في الوقت نفسه يبررونها على أنها تمثل الشعب الفلسطيني المضطهد ضد إسرائيل، وبالتالي يعتقدون أن أعمالها العسكرية وإرهابها ومثلها العليا هي جزء من مقاومة الشعب الفلسطيني العادلة. ومن الواضح أن هذا النوع من وجهة نظر يتبع الوهم الذي خلقته حماس.
كما وإن ما يسمون انفسهم بالاحزاب والتيارات الاشتراكية قولا ولكنهم ومن حيث الواقع يشكلون الجناح اليساري للتيار القومي العربي، في بلدان الشرق الاوسط، نراهم يقوضون بشكل فاضح كل المثل الاشتراكية والاممية اذ يدافعون عن حماس بحرارة ويعرِفونهأ رمزأ للمقاومة التحررية لجماهير فلسطين. لقد امحت هذه الاحزاب والتيارات والمنظمات ما يسمى بالاشتراكية كل خط فاصل طبقي عمالي واشتراكي بينها وبين حماس، ولم يقتصر الأمرعلى ذلك اذ أصبحوا قوميون لابل أيضًا إسلاميون.
إن نضال الجماهير الفلسطيني المضطهدة يستحق قوى مقاومة تحررية وإنسانية وأممية تقف في وجه الإسلام السياسي والحركة البرجوازية القومية الفلسطينية، بينما تتقدم في النضال ضد النظام البرجوازي الإسرائيلي واضطهاده وقمعه.

ره وت: ما هو الدور الذي تلعبه الجغرافيا السياسية للمنطقة والاستقطابات الاقليمية والعالمية في توجيه هذه الحرب والصراع؟
مؤيد أحمد: بالتحديد، هذه الحرب الدائرة هي حرب بين إسرائيل وحماس ومن هنا اندلعت، ولكن كما نرى فإن إسرائيل هي امتداد للقوى الإمبريالية للولايات المتحدة وحلفائها الإمبرياليين الغربيين، وهذا ينعكس عملياً في هذه الحرب. وبدورها تتمتع حماس بدعم مباشر من النظام الإسلامي في أيران وقوى الإسلام السياسي في المنطقة، وهي جزء من جبهة الممانعة التي تقودها إيران، والتي تضم حزب الله ونظام الأسد في سوريا وميليشيات الإسلام السياسي في العراق. وعلى الرغم من أن الصين وروسيا تتجنبان هذه الحرب حاليًا، فإن هذا لا ينتقص من حقيقة أن النظام الإسلامي في إيران لديه تحالف عسكري استراتيجي مشترك مع المعسكر الإمبريالي لكل من روسيا والصين.
ومع كل هذا، من الواضح أن القضية الفلسطينية لها عمق وتأثير إقليمي داخل الدول العربية ومنطقة الشرق الأوسط وشعوب هذه المنطقة. وبطبيعة الحال، فإن هذا التأثير او الإمتداد الإقليمي لا يأتي من حقيقة أنه في عالم اليوم، أصبحت المشاكل المحلية، بطبيعتها، وبسبب تشديد واتساع رقعة الاستقطابات العالمية، تتحول بسهولة الى مشاكل جيوسياسية واستراتيجية اقليمية وحتى عالمية، بل يأتي من كون القضية الصراع بين أسرائيل وفلسطين هي نفسها ذات أبعاد عالمية واقليمية، وان هذه الخصيصة هي الآن أقوى من أي وقت مضى، أو دعني أقول بوضوح أكثر، أن القضية الفلسطينية الآن تعكس بشكل مكثف هذا الطابع والعمق العالمي والإقليمي.
ويعيش هذان المعسكران العالمي والإقليمي لحظات واحتمالات تصعيد الحرب الإسرائيلية الحالية في غزة، وقد أعلنت إسرائيل منذ البداية أنها في حالة حرب كدولة، ومن الطبيعي أن تحمل هذه الحرب في داخلها احتمال التصعيد. علاوة على ذلك، فإن هذه الحرب، بالرغم انها نشبت في ظروف الهجوم العسكري لحماس ورد الفعل الإسرائيلي والمجازر الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، إنما هي أيضا نتيجة لبلورة معادلات واستقطابات إقليمية جديدة وتنامي المنافسة الجيوسياسية والاقتصادية بين الصين والولايات المتحدة، أقصد عملية التطبيع بين أسرائيل وبعض من البلدان العربية، ولا سيما إمكانية تطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل واحتدام المنافسة بين الولايات المتحدة والصين على المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية، بما في ذلك قرار اجتماعات مجموعة العشرين (ج- 20) حول مد خط بحري وارضي من الهند الى السعودية وإسرائيل مقابل حزام الحرير الاستراتيجي الصيني الذي يمر عبر الخليج والعراق وتركيا.
ويبدو أن تخريب وتعطيل هذه العمليات السياسية والاستراتيجيات الاقتصادية وتغييرها في اتجاه مصالح إيران وامتداداتها العالمية والإقليمية من خلال الهجمات العسكرية والأنشطة الإرهابية والعسكرة كان هدفًا مهمًا لهجوم حماس العسكري على إسرائيل والذي تم تنفيذه بالتعاون مع النظام الأيراني. وان كون الولايات المتحدة وإسرائيل لا تعترفان علناً بتورط إيران في هجوم حماس يعود إلى أسباب استراتيجية أخرى لهما، ولا يغير من هذه الحقيقة.
وفيما يتعلق بالعلاقة بين القضية الفلسطينية والنظام الإسلامي الإيراني، فإن المسالة الرئيسية بالنسبة للجمهورية الإسلامية في إيران ليست ما سيحدث لشكل القضية الفلسطينية، ولا تطبيع او عدم تطبيع العلاقة بين البلدان العربية وأسرائيل، بالرغم من أنه مهم جداً لأيران أن لا يحدث التطبيع. الشيء الرئيسي بالنسبة لإيران هو أن القضية الفلسطينية يجب أن تظل ساخنة ومستمرة كي يتسنى لها استخدامها لتعزيز أركانها ضد الجماهير المعترضة في إيران، وعندما يتم حل القضية خارج إرادة هذا النظام، فهو يريد أن يكون بصورة مفيدة له.
وبسبب جميع العوامل التي ذكرتها، فإن هذه الحرب لها خصائص عالمية وإقليمية وكذلك توجد إمكانية توسعها.

ره وت: لو امعننا النظر نرى بان تأثير حماس و"جبهة الممانعة" محدود على القضية الفلسطينية، ولها تناقضاتها، ما رأيك في هذا؟
مؤيد أحمد: هذا صحيح، تأثير حماس و"جبهة الممانعة" على القضية الفلسطينية محدود وفيه إشكاليات. ومن الواضح أن معاداة حماس وحزب الله والنظام الإسلامي الإيراني لإسرائيل لا يمكن أن يكون لها نفس التأثير داخل البلدان العربية وبين جماهير هذه البلدان مثلا كتأثيرات الحركة القومية العربية عليهم خلال عقود القرن الماضي. ولهذا، ومع أن هذا القطب الأسلامي في معاداة مع أسرائيل، ولكن هذه المعاداة هي خارج ديناميكية احتياجات واهداف نضال جماهير فلسطين بوجه الظلم القومي، وهي في التعارض مع استراتيجية النظام البرجوازي القومي الفلسطيني الذي نشأ نتيجة لاتفاقية أوسلو ومتطلبات تثبيت اركانه، ولا يمكن لأجندة وممارسة هذه الحركة الإسلامية أن تقود وتصبح رمزا لحل القضية الفلسطينية.
وفي هذا الصدد نرى أن "جبهة الممانعة" رغم كل صرخاتها حول القضية الفلسطينية والظلم القومي على الفلسطينين لم تفعل شيئا غير استغلالها لصالحها، لان دورها فيها وتاثيرها عليها تتنافى مع خصائص هذه القضية؛ باعتبارها قضية جماهير مضطهدة ونضالها ضد قمع ومجازر دولة الفصل العنصري الاسرائيلي، والتي ترتبط عضويا بالحركة الجماهيرية التحررية في منطقة الشرق الاوسط ضد سيطرة القوى الأمبريالية. إن حركات الإسلام السياسي والطائفية الشيعية للنظام في ايران وحزب الله والقوى المحيطة بها في "جبهة الممانعة"، لا تتماشى في اصولها ولا في اهدافها الأستراتيجية مع الحركة العادلة لجماهير فلسطين في رفع الظلم القومي عليها، وهي ليست ولم تكن جزءً من المقاومة العادلة للجماهير المضطهدة في الدول العربية والشرق الأوسط ضد الاستغلال والاحتلال الإمبريالي الغربي.
إذا كانت الحركة البرجوازية القومية العربية شكلاً لإفناء القدرة التحررية والمساواتية للنضال الجماهيري للعمال والكادحين في البلدان العربية والشرق أوسطية في ميدان نضالهم ضد الرأسمالية الإمبريالية، فإن حركة الإسلام السياسي هي جواب رجعي لأخفاقات الحركة القومية العربية واجهاضُ لمحاولات ونضالات الجماهير الكادحة والتحررية في هذه البلدان، في شكل الفاشية. ولذلك، ليس للاسلام السياسي اية علاقة بالنضال التحرري لشعوب هذه البلدان، بل هي في مواجهة معها. وحتى اليوم، لا تستطيع حماس ولا النظام الإيراني، ولا أي قوة أو حزب سياسي إسلامي آخر، إقامة علاقة عضوية مع الحركة التحررية للجماهير للخلاص من الاضطهاد القومي والتمييز العنصري للدولة الإسرائيلية.
(منظمة تحرير فلسطين) هي جزء من الحركة البرجوازية القومية العربية ولها كيان إداري وسلطة سياسية في الضفة الغربية، فلا تستطيع إيران ولا حزب الله ولا حماس تبديل هذا الموقع، ومنع الحركة القومية البرجوازية الفلسطينية من التطلع إلى الدول العربية لحل المشكلة الفلسطينية. وكما قلنا، فإن القضية الفلسطينية بالنسبة لإيران هي قضية سياسية استراتيجية لنظامها. وعليه، ان النظام الاسلامي الايراني له علاقة ميكانيكية وخارجية مصطنعة مع القضية الفلسطينية، ويستثمر الاخيرة لصالحه على المستوى الجيوستراتيجي والسياسي والأيديولوجي، وفي ما يتعلق بمصالحها في الأدامة بحياتها داخل أيران.

ره وت: حماس وجبهة المقاومة الإسلامية والجهاديون يقولون إن عصر القوة العسكرية والقدرات الاستخباراتية لإسرائيل قد انتهى، ويقول نتنياهو إنهم فتحوا باب الجحيم لأنفسهم ويجب ان ينالوا عقاب فعلهم هذا، الحرب والاقتتال مستمران ببشاعة، فأين برايكم ستتجه الحرب والجغرافيا في هذه المنطقة؟
مؤيد أحمد: حكومة نتنياهو وكافة المؤسسات البرجوازية الحاكمة في إسرائيل تعرضت لانهيار استخباراتي وأمني ونفسي كبير وضربات عسكرية جدية بسبب هجوم حماس العسكري وأعمالها الإرهابية، ولا تستطيع تعويضه بارتكاب جرائمها في غزة، واعادة الاوضاع الى ما كانت عليه قبل.
ومن الواضح أنه بسبب هذه الأحداث العسكرية تغيرت المعادلات السياسية، وكما ذكرت، هناك عقبة كبيرة أمام عملية تطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل. وان الجماهير المعترضة في الدول العربية، والغاضبة من هذه المذبحة الجارية في غزة، مستاءة علناً ضد صمت الأنظمة وغياب رد فعلها على المجازر التي ترتكبها إسرائيل ضد الفلسطينيين وجماهير غزة. وحتى النظام الإيراني والأحزاب الإسلامية الحاكمة في العراق تواجه احتجاجات من جماهير البلدين، واصبحت مواقفها وأفعالها الانتهازية موضع الانتقاد.
على المستوى الدولي، وخاصة في أوروبا والولايات المتحدة، تواجه إسرائيل تدفقا من الغضب من الأحزاب والقوى الاشتراكية والتحررية وبعض النقابات والاتحادات العمالية والرأي العام، وفي هذا السياق هناك مظاهرات مستمرة ضد جرائم إسرائيل وتعاون حكومات الدول الغربية معها. وعلى الرغم من كل التشويهات التي تمارسها هذه الدول الغربية ووسائل إعلامها ودعمها لإسرائيل، إلا أن كفة ميزان الرأي العام للجماهير تميل أكثر فأكثر لجانب للفلسطينيين.
ورداً على سؤال الى أين يتجه مستقبل هذه الحرب، لا بد لي أولا من التأكيد على أن هذه الحرب هي حلقة في مسار سياسي و استراتيجية عسكرية أكثر شمولا وأوسع كانت موجودة قبل هذه الحرب، ولهذا، فان اي تطور وتوسع في رقعة هذه الحرب سيحدث على ارضية هذا المسار الاشمل. ومن الواضح أن الولايات المتحدة هبّت لمساعدة إسرائيل منذ اليوم الأول، ونشرت سفينتين حربيتين في البحر الأبيض المتوسط، وباشرت بالتحرك والاستعداد في المنطقة. من المؤكد أن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني له امتداد إقليمي، وأن أي عمل عسكري، بما في ذلك الحرب الحالية في غزة، سيكون له بالتأكيد هذا البعد و الامتداد.
لو اردنا ان نشخصه بالتحديد، فان الصراع الفلسطيني الإسرائيلي على صعيد الصراعات الدولية والجيوسياسية اليوم، هو صراع بين النظام الإسلامي في إيران و"جبهة الممانعة" وداعميهم الدوليين، الصين وروسيا، من جهة، ودولة إسرائيل والولايات المتحدة والقوى الإمبريالية الغربية من جهة أخرى. في هذا المضمار، حتى الآن، فان الدول العربية هي أما متحالفة وبدرجات متفاوتة مع إيران، مثل سوريا واليمن والعراق، أو هي في طور التطبيع مع إسرائيل وتلتزم الصمت.
وتطور هذه الحرب كحرب إقليمية يؤثر بشكل مباشر على هذين الجانبين والقطبين. بالنسبة للولايات المتحدة، تعتبر إسرائيل إلى حد كبير قاعدة استراتيجية في الشرق الأوسط، ورد فعلها هو الدفاع عن إسرائيل دون قيد أو شرط. ويتضح من ردود الفعل هذه أن قصة الأخلاء العسكري الأميركي في الشرق الأوسط كانت وهماً وقصة بعيدة عن الصحة، وأن الحرب أظهرت أن الدفاع عن أسرائيل ليست في غاية الأهمية بالنسبة للولايات المتحدة فحسب، بل أيضاً تعزيز نفوذها العسكري والجيو- سياسي والجيو- اقتصادي في المنطقة هي في أولوية استراتيجياتها.
إن الوضع معقد والاحتمالات متنوعة، لكن المهم التأكيد عليه هو أن الأرضية المادية والعملية الأكثر شمولاً التي تتطور في خضمها كل هذه الصراعات والحروب والتكتلات السياسية والعسكرية في المنطقة وحتى هذه الحرب في غزة، هي مسارات تطور الرأسمالية الأمبريالية المعاصرة وتفاقم تناقضاتها. هذه الأرضية المادية وهذه العملية هي التي تهضم الصراعات والقضايا العالقة في داخلها وتفرض عليها شكلها وسياقها الخاص بها. إن المشكلة الفلسطينية بحد ذاتها هي قضية حقيقية وتاريخية ولها خصائصها المحددة، إلا أن هذه السمات والخصائص المحلية لهذه القضية ترتكز على الرأسمالية المعاصرة وصراعات وتناقضات كتلها الاقتصادية والسياسية والعسكرية وأقطابها العالمية والمحلية وصراعاتها ومنافستها على مناطق النفوذ والسيادة فيما بينها وتحمل ذلك الطابع.
ولا يهم الولايات المتحدة إلى أي مدى يستخدم النظام الإيراني القضية الفلسطينية لمصالحه الخاصة الآن ولا ينطلق صراعها مع أيران من هنا، بل من أن أيران تريد أضعاف أسرائيل وتوجه لها ضربة كقاعدة وامتداد لأمريكا في المنطقة. ومن الواضح للجميع أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية نفسها كانت اختيار الامبريالية الغربية لخلافة نظام الشاه في ظروف عالمية وإقليمية أخرى اذ تم أفساح المجال لها وقبولها ضمن النظام الدولي للبرجوازية من قبل أمريكا والدول الغربية اثناء ثورة 1979 في أيران.
آنذاك، تلقى التيار الاسلامي كل الدعم من قبل الامبريالية الغربية من أجل خنق الثورة الايرانية ومنع تطور وتقوية التيارات والقوى الاشتراكية في خضمها، والآن يتكتل النظام الإسلامي في إيران مع جبهة الصين وروسيا ويرسخ نفسه من خلال هذا التكتل. وهكذا، يمكن للنظام الأسلامي في أيران ايجاد موطئ قدم له فقط في ظل تنامي تناقضات وتعقيدات النظام الأمبريالي العالمي. لا يمكن لأي من الدول والأطراف الإقليمية المنخرطة في هذه الحرب أن تحيد عن القوانين التي تحكم مسار وعملية هذه الصراعات والتناقضات العالمية. إنها عملية أوسع بكثير تلك التي يمكن للجميع من خلالها الخوض في الحروب وفرض هذه الكوارث على البشرية.

ره وت: كما نرى في أوروبا وإلى حد ما في الولايات المتحدة، فإن الأحزاب والمنظمات الاشتراكية والتحررية وحتى بعض النقابات العمالية لها مواقف و افعال تجاه القضية الفلسطينية. ما هو في نظرك سبب هذه الظاهرة؟
مؤيد أحمد: لأن دولة إسرائيل وسياساتها تجاه الفلسطينيين والدول العربية منذ نشأتها هي امتداد للمصالح الاستراتيجية والجيوسياسية والجيواقتصادية الامبريالية للولايات المتحدة وبريطانيا وغيرها من القوى الإمبريالية الغربية، فان الحركات الاشتراكية والعمالية ومجمل التيارات التحررية في هذه البلدان منخرطة بشكل مباشر في الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني داخل بلدانهم.
القضية الفلسطينية والقمع الإسرائيلي ضد الفلسطينيين جزء من الصراع السياسي والاجتماعي داخل المجتمعات الغربية، ودائما ما يكون هناك استقطاب واسع النطاق حول هذه القضية والأحداث في فلسطين. وبشكل عام، يبدي الاشتراكيون والعمال التقدميون والحركات التحررية في هذه المجتمعات، وبدرجات متفاوتة من الاصرار، المواقف والسياسات الداعمة للفلسطينيين ونضالهم من أجل حقوقهم، ويطالبون بوضع حد للسياسات العنصرية والتوسعية لإسرائيل وبحل عادل للقضية الفلسطينية.
وفي هذا الصدد، فإن للحركات والمنظمات الاشتراكية في الغرب، بشكل عام، وجهات نظر وبرامج ومواقف تنظيمية حول هذه المشكلة وطرق الحل لها، سواء من الناحية النظرية ام من الناحية السياسية. وان وجود المواقف المتباينة حول هذه القضية ظاهرة واضحة للعيان. على حد علمي فإن بعض المنظمات الماركسية تربط حل المشكلة الفلسطينية بالثورة الاشتراكية في المنطقة برمتها، وبانشاء دولة اشتراكية في عموم فلسطين كجزء من كونفدرالية اشتراكية إقليمية. إنهم لا ينظرون إلى هذا على أنه الفكرة المفضلة الامثل فحسب، بل أيضًا كحل عملي آني والطريقة الوحيدة لحل هذه المعضلة الشائكة، بل و حتى يرون سياسة إنشاء دولتين كسياسة ونظرة إصلاحية.
وتتحدث مجموعة أخرى من التنظيمات الاشتراكية عن حل سياسي لهذه المشكلة في إطار ما هو ممكن ضمن النظام السياسي البرجوازي الدوَلي، وتدعو إلى إنشاء دولة فلسطينية مستقلة كاملة الصلاحيات إلى جانب دولة إسرائيل.
هذه المواقف والنظرات السياسية من القضية الفلسطينية لا ترجع فقط إلى الطابع والمبدء الاممي لهذه التنظيمات الاشتراكية وضرورة اتخاذ موقف حيال القضية الفلسطينية، بل أيضا لأنها جزء من النضال الاجتماعي والسياسي في بلدانها ضد البرجوازية الحاكمة التي تدافع بكل قوة عن دولة اسرائيل وسياستها وممارستها.
إن طيفاً طبقياً من البرجوازية والحركات والأحزاب الحاكمة في هذه البلدان، من المحافظين والليبراليين والفاشيين الجدد إلى الاشتراكيين الديمقراطيين، تتحد دائما ضد مواقف وسياسات الاشتراكيين وهي تدافع بقوة عن إسرائيل وسياساتها.

ره وت: هل من الممكن إنهاء اضطهاد الفلسطينيين في ظل هذه الظروف؟ على المدى القصير، ماذا يجب على الشعب الفلسطيني أن يفعل، وكيف ترى السبيل لإنهاء هذا القمع على المدى الطويل؟
مؤيد أحمد: في الواقع، ان القضية الفلسطينية معقدة للغاية ولها خصائصها الخاصة، ولكن كما أشار ماركس، "إن الإنسانية لا تجلب مشكلة ما لم تجلب معها عناصر حلها". والحل الأمثل، كما عبر عنه بعض الاشتراكيين، هو الحل من المنظور الاشتراكي والثورة الاشتراكية في المنطقة وعموم فلسطين وإسرائيل برمتها، ثورة أممية تتقدم على أساس المصالح الطبقية المشتركة للبروليتاريا في المنطقة وتتمكن من ايجاد دولة اشتراكية في عموم فلسطين واسرائيل الحالية وتكون جزءا من اتحاد الدول المجالسية الاشتراكية في المنطقة.
إن هذا المنهج والبرنامج الاشتراكي والأممي البروليتاري هو الذي يجب أن يكون حجر الاساس في أي سياسة يتبناها الاشتراكيون والماركسيون تجاه حل المشكلة الفلسطينية وحتى تجاه مشروع الدولتين.
إن الاشتراكيين لا يركضون وراء الوهم الإصلاحي المتمثل في الدولة البرجوازية، لكن القضية الفلسطينية والكارثة الإنسانية الناجمة عنها بالنسبة للفلسطينيين والجماهير التحررية في إسرائيل، تتطلب حلا عاجلا في أسرع وقت ممكن. وكان من المفترض أن يكون إنشاء دولة سياسية مستقلة ذات سلطة سياسية كاملة في أيدي الشعب الفلسطيني نتيجة لمشروع السلام بين إسرائيل والفلسطينيين الموقع في اتفاقية أوسلو للسلام عام 1993، غير أن هذا المشروع لم ينفذ، وفي النهاية صعدت إسرائيل من سياستها التوسعية وافشلت الاتفاقية عملياً.
علاوة على ذلك، فإن هذا المشروع وفي ظل توازن القوى الطبقية في المجتمع الفلسطيني حاليا يعني أن السلطة الفلسطينية تحكم الضفة الغربية التي تشكل منظمة التحرير الفلسطينية القوة الأساسية فيها.
إن إنشاء دولة فلسطينية مستقلة تتمتع بسلطة سياسية مستقلة مثل إسرائيل سوف يخلق الارضية للحد من هذه الماساة الدموية ويساعد على وقف القمع الإسرائيلي للفلسطينيين، ويفتح المجال أمام تقدم النضال الطبقي المشترك للبروليتاريا الفلسطينية والإسرائيلية بعيدا عن ظروف الاضطهاد القومي. وهذه ليست الدولة المطلوبة من قبل الشيوعيون، ولكن بالقدر الذي تستطيع ايقاف هذه الموجة المستمرة من اراقة الدماء في فلسطين وإسرائيل وتوفر الأرضية لتقدم النضال الاشتراكي والأممي للبروليتاريا يمكنها ان تنال دعم الشيوعيين فيما يتعلق بحل المسالة القومية وقضية فلسطين في الوقت الراهن. 25 أكتوبر 2023

ترجمة الحوار من اللغة الكردية: شيرين عبدالله