كيف تتعامل الحكومات العربية مع الحقل السياسي


عبدالله تركماني
2023 / 11 / 6 - 00:00     

يتطلب الحقل السياسي من الفاعلين السياسيين تقديراً صائباً للموقف، وتحديداً للأخطار، ورسماً للخطط، وبناءً للتحالفات، ويبدو أنّ هذا كله شبه غائب عن حياتنا السياسية العربية، إذ إنّ أغلب الحكومات العربية ترفع قضية أمن النظام إلى رأس سلم القيم والمبادئ والاعتبارات، بينما تخفِّض قيمة الحرية ومفهومها إلى أدنى المراتب.
وتتقاسم العقل السياسي العربي نظرات ثلاث، حسب توصيف فقيدنا الأستاذ ميشيل كيلو: أولاها، ترى أنّ القوة هي سند الحاكم الرئيس. وثانيتها، تعتقد أنّ السياسة هي فن الممكن. وثالثتها، تدعو إلى التوفيق بين هاتين المدرستين وتقول باستخدام القوة والسياسة، بالتناوب والتبادل، حسب الأحوال والظروف.
وفي الواقع تهتم قلة من النظم القائمة في بلداننا العربية بالنظرة الثالثة، وتحصر معظمها اهتمامها بالأولى، التي ترى في القوة وسيلة التعامل الأفضل في الحقل السياسي الداخلي والخارجي. ويرجع ذلك الاختيار إلى رفضها الاعتراف بالاختلاف السياسي وبوجود تعبيرات تجسِّده، ورفضها ما يتوجب على وجودها من توازنات تتولى ضبط حركتها وعلاقاتها بوسائل سلمية وطرق حوارية تحلُّ محلَّ القوة وتكفل إدارة تناقضات وخلافات السياسة بطريقة هادئة. عندئذ، يصير دخول أي مواطن أو حزب أو تجمع إلى حقل السياسة " خطراً " تجب إزالته بالقوة. بالإضافة إلى هذا، تبقي السلطة المواطن بعيداً عن السياسة عبر استخدام القوة بطريقة وقائية، وممارستها كعنف منظم ودائم.
وتبقى الأسئلة الجوهرية: ألا تحمل القوة معها خطر إصابة النظام الذي تحميه بضعف لا شفاء منه، يجسده ضياع توازنات العمل العام، وسيطرة قهر يفتقر إلى القدرة على التعاطي المجدي مع المشكلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والبنيوية والروحية؟ ألا تغري القوة من يستخدمها بعدم التخلِّي عنها، وبلعب دور أكبر في العمل العام، على حساب مكوِّناته السياسية الرسمية؟
وفي المحصلة التزييف يمس كل شيء: أصل النظام وآليات عمله وأوضاع السكان في ظله ومواقفهم منه، إذ تضعف ملكاتهم الفكرية والروحية والأخلاقية والسياسية، وتتدنى قدرتهم على الابتكار والتجديد، كما تتدهور صورتهم في عين أنفسهم، فتتولد في دواخلهم عواطف سلبية تجاه أنفسهم وتجاه غيرهم. خاصة أنّ حكماً خياره القوة ضد مجتمعه، تحكمه رغبة الخلود، يجنح إلى تعميم الوشاية في المجتمع ويقدم جوائز للأشد ولاء له، ويروِّع بخصومه. فيؤلب الناس ضد بعضهم، ويعمم مبدأ أنّ في الوشاية السلامة وفي الأمانة الندامة وفقدان الأمان، وعلى هذا النحو ينتج هذا الحكم التفكك الاجتماعي وأزمة الثقة بين الناس، ويتسبب في انقلاب سلم القيم لمصلحة قيم السلطة والولاء. وعلى هذا النحو يظهر قانون تطور غريب في ظل هذه الحكومات: يترقَّى اجتماعياً الأقل استقلالاً والأدنى كفاءة، مما يشجع الخراب الأخلاقي ويفسد أمانة الناس.
فحتى تتحول ديار العرب إلى " مدن فاضلة "، من منظور الأنظمة الحاكمة، فلابدَّ أن يتحول الفرد العربي إلى " مواطن صالح "، لذا أقيمت المؤسسات الخاصة لتنشئة هذا المواطن الصالح، ووضعت له معايير للسلوك إن تجاوزها فقد أهليته كمواطن صالح، ولم تثقل السلطة على المواطن، فكل ما طلب منه هو " الطاعة " ويا حبذا لو كانت هذه الطاعة عمياء ليريح ويستريح، وقد سهَّلت السلطات الحاكمة مسار المواطن على طريق الطاعة بوضع الكثير من العلامات المرشدة على هذا الطريق، فهناك القوانين الاعتباطية التي يسهل على واضعيها إعفائها من الخدمة في معظم الأحيان، وهناك الإعلام الموجَّه وطواقم المهرِّجين التي تجعل من العلقم شهداً، ومن الظلم عدلاً، ومن الهزيمة نصراً. وهناك مناهج التربية الوطنية في المدارس التي تطفح بالنفاق، وهناك النصائح الملزمة للمواطن كالابتعاد عن حرية الرأي، والأهم من ذلك هو الامتناع عن التعبير عنه. أما المشاركة في السلطة فقد خُفِّفت أعباؤها إلى أدنى حد ممكن، ففي الانتخابات قد يتم الاختيار بـ " نعم " أو " لا " للمرشح الأوحد، أو بالانتقاء من قائمة مرْضِيٌّ عنها من قبل أجهزة الأمن.
لقد أضحت البنية الاستبدادية لأغلب هذه الحكومات كامنة بحيث أصبحت تسأل عن استمرارها وبقائها دون السؤال عن شرعيتها وحاجتها إلى التعبير عن رغبات مجتمعها، وهذا ما جعل مستقبل البلاد العربية يكاد ينتهي إلى آفاق مسدودة.
إنّ الحالة بين أغلب الحكومات العربية والرأي العام تحتاج إلى عقد اجتماعي جديد‏،‏ بعد أن فقد العقد الاجتماعي القديم أسانيده‏،‏ وفقد قانونيته ومشروعيته‏،‏ ولم يعد توكيل الشعوب للحكومات بالتصرف ساري المفعول.‏